إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، يناير 18، 2011

... من رواية "22 درجة مئوية"


...
استفقتُ على صوت رجل يناديني: يا أستاذ .. يا أستاذ . . .
فالتفتُ لأجد سيارة ميكروباص خالية إلا من السائق ورجل يجاوره،
هو الذي ناداني ووجدتُ يده تمتد إليّ بعلبة عصير، فشكرته، ولكنه
أصر، فانكسفت، وأخذتها منه وأنا خجلان جداً، وانطلقت العربة
لأرى على زجاجها الخلفي حروفاً متراصة بالإنجليزية في شكل
قوس، وقد سقط أحدها، فاستنبطه وفق مشيئتي حتى يكتمل القوس،
وكنتُ على وشك اللحاق بالعربة لأعيد العلبة، لكن القوس الذي
ابتعد عني في سخرية جَمّدني مكاني ونظرتُ لأجد علبة العصير
تحتل يدي التي كانت فارغة، فتحتُ سوستة الشنطة ووضعتُ العلبة
بداخلها فوق علبة السجائر، فشعرتُ بوطأة الثقل على كتفي.
عاودتُ النظر إلى الجالسين الآن في نظام دقيق (حوالين الترابيزات)،
مُنتظرين وقد ازدادت أمامهم الأطباق وتنوعت أصناف الطعام.
سرتُ عنهم قليلاً، لتطالعني الحديقة، فأعبر سورها رغم التحذير،
بما أنني فوق الكوبري. استوقفني عسكري عند مَطلع الكوبري
يجلس فوق موتوسيكل غريب الشكل، يشبه موتوسيكلات الأطفال،
نظر إليّ فرددتُ بصري إلى الحديقة لأجد باباً حديدياً صغيراً يعبُره
الرجال حتى يدخلوا إلى باب الجامع، رأيتُ جزءاً من الداخل مُتخطياً
الأحذية اللامعة المُختلفة، المُتراصة عند عتبته، لأطالع مساحة
ضيقة من الموكيت الأخضر، المُستسلِم لقطرات الماء المُتساقطة
من الرجال الذين يعْبرون في لهْوَجَة من دورة المياه إلى الجامع،
وهم لا يزالون غارقين في ماء وضوئهم الطاهر. شعرتُ برغبة في
التبول، مع بعض الألم في إحدى خصيتيّ، أرجعته للبنطلون الضيق
الذي أصبحتُ أرتديه بعدما قلّ وزني كثيراً، وصرتُ ألبَس على
الموضة، وقد كانت بدانتي تمنعني من ارتداء ما أريد، لكنني لم
أكن أشعر بالألم وقتها. ازداد عدد رواد دورة المياه وبالتالي رواد
الجامع، فاستدرتُ لأطالع الساعة، ولم أجدها، فقط . .
لمَحْتُ جزءاً من الفانوس الأصفر، وقد ازداد توهجاً بعد ازدياد
المغيب، دققتُ النظر فأدركتُ الأرقام الحمراء تتخفى وراء نخلة
عالية، انحرفتُ قليلاً حتى كدتُ أسقط من فوق الرصيف إلى مَطلع
الكوبري، ورغم ذلك لم أستطع رؤية أرقام الدقائق، فقط . .
( الساعة  : 4، ودرجة الحرارة 23 )
اعتدلتُ بجسدي فوق الرصيف، ووجدتُ رباط حذائي الأيمن قد انفك
ليتدلى مُلامساً إسفلت الطريق. مرّ جواري رجل مُتقطع النَفَس يجمع
القمامة من فوق الرصيف، وقد جاهد في الإمساك بورقة طاوعَت
الهواء، فانفلتَتْ منه وصارت وسط الطريق، فسقطتْ من يده لفّة
ورقية كان يُمسِك بها في نفس اليد القابضة على كيس بلاستيكي
يجمع فيه القمامة، عليه شعار غريب. تبينتُ أنها لفّة طعام
وقد أصبحتْ في مستوى بصري وأنا أنحني لأعقد رباط الحذاء،
ليشاركني الرجل الانحناء وهو يُلملِم الورقة في سرعة، ويزيح
عنها بعض التراب، ثم أمسكها واحتضنها، وانتصب وقد لمحني
أعتدل فألقى عليّ سلام الله ورحمته، فردَدْتُ عليه السلام، ثم
تركني ومضى مُبتعداً. على امتداد الكوبري  بعد المَطلع
وجدتُ شاباً ممشوق القوام يرتدي بنطلوناً بنيّ اللون وتي شيرت
بيج غالي الثمن نصف كُم، حيث بانَت تفاصيل جسده في تناسق
جميل، شعره أسود ناعم ومُرسَل، حليق الذقن رغم اخضرار يحدد
تفاصيلها في وضوح. كان مُمْسِكاً بكاميرا ويلتقط صوراً للكوبري
الخالي وللشوارع الخالية أسفله، ثم عاد خطوات إلى سيارة ترتكن
الرصيف لم ألحظها من قبل، سيارة سوداء تحمل لافتة خضراء،
مكتوب عليها "هيئة دبلوماسية" أخذ الشاب شيئاً امتدت به يد
من الداخل لم أستطع تبيّن شكلها، كانت علبة سجائر وقد أشعل
واحدة، فتتبعْتُ الدخان الذي بدأ يلفّهُ، ثم يسير خلفه وهو يتحرك
ذهاباً وجيئة مُتخيّراً زاوية مُناسبة للتصوير. كان ضوء الشمس
الغاربة يُغيّم رؤية ما بداخل السيارة، وقد عاد الشاب وارتكنها وهو
يدخن، كأنه فتى إعلانات يُرَوّج لسلعة مضمونة. تقدم الشاب إلى
العسكري الجالس على الموتوسيكل، وأخرَج له سيجارة، فأخذها
العسكري ووضعها في جيبه وحيّاه، فالتقط له الشاب صورة، وقد
اتسعت ابتسامة العسكري عن آخرها، ثم انضم إليهما عسكري آخر
مُتلاحق الأنفاس، يحمل طعاماً، وأخذوا يتحدثون، فالتقط لهما الشاب
صورة غالب فيها حامل الطعام توتر أنفاسه، ولم يبتسم زميله القابع
فوق الموتوسيكل. ومن مكانه نادى الولد:
"هدى . . هدى . . ."
فنزلتْ فتاة من باب السيارة، وقد عَبَرَتهُ يدها من قبل بعلبة
السجائر، كانت ترتدي بنطلوناً واسعاً، وبلوزة صوفية ضيقة مُغلقة
بإحكام عن طريق صف من الأزرار، وتغطي رأسها بإيشارب،
وكانت تدخن. وقفتْ معهم قليلاً، ثم أخذتْ الكاميرا من صديقها،
والتقطتْ صورة تجمعه بالجنديين، بعدها توجَهَتْ إلى باب السيارة،
وانحنت بنصفها إلى الداخل، فتجلت مؤخرتها للطريق وكأنها
جزء مُنفصل عن ملامح وجهها الطفولي، وقد تعلق بصر الواقف
بمؤخرتها، بينما الجالس فوق الموتوسيكل كان إما باصص في
الأرض أو باصص على عضو الشاب، الذي يواجهه ويَسدّ عليه
الطريق. التقطتْ الفتاة من الداخل زجاجة مياه معدنية، وأشارت
برأسها علامة على الرفض، فأدركتُ وجود آخر أو آخرين داخل
السيارة. أعطتهما الزجاجة، ليأخذها الجالس ويدفنها بين ساقيه،
لتستلين ملامحه على إثر برودة خدّرت خصيتيه. أما علبة سجائر
الشاب فاستقرت في الجيب العلوي لسُترة الجندي الواقف. تركتهم
الفتاة وتقدّمتْ قليلاً حتى عَبَرَتْ المَطلع، دون أن تبُص حواليها،
وعَبَرَتني في لا مبالاة، حتى استقرت والتصقتْ بالسور، وانحنتْ
تنظر لأسفل. نظرتُ للناحية الأخرى، ولم أجد إلا الفانوس وقد ازداد
اصفراراً، والرقم (4) مازال يتبادل الغمز مع الرقم (23).
خطفتُ نظرة إلى الفتاة بعيني العائدة، كانت كفيلة بعقد مقارنة ما
بين مؤخرتها ونهدها المضغوط بفضل السور. كانت تقترب من
العشرين وتصغر صديقها بعدة أعوام
تخيّلتها /
في جوب ضيق، كما كنتُ أطلب دائماً من صديقتي القديمة التي
كانت تُصر على ارتداء البناطيل الواسعة، مُتعللة بأنها لا تستطيع
التحرك بسهولة في الجوب، خاصة وأن البنطلون يكفل لها حرية
صعود الباص. قلتُ لها مراراً إنني لا أحب على الإطلاق طريقة
خلعها للبنطلون، لأنه يسمح لي برؤية نصفها السفلي عارياً فجأة
ومن أعلى، على العكس من الجوب الذي أحب طريقة رفعه في
رفق، فيليق بتجلي عُريها. وأنها لو كانت تواظب على قراءة القرآن
كما تقول، كانت ستدرك لعبة الحكيم الملك، حتى يتيح لضيفته أن
تكشف له عن ساقيها كقربان، فتسقط مملكتها ويسقط هو أسفل
ساقيها، ويسقطان معاً في جُب الإيمان. كانت تستعيذ، وتطلب من
الله أن يسامحني. صديقتي القديمة التي لم أستطع الوقوف إلى
جوارها، وتخليتُ عنها، رغم أنها منحتني نفسها عن حب، وأنا
مارستُ عليها عُقدي مُنتهكاً براءتها، آخذاً بثأري من الآخرين،
كصديقي مثلاً والبقرة المشنوقة التي كانت تعتليني. لقد منحتني
صديقتي نفسها عن طيب خاطر، فكانت تتعرى من أجلي، وتبكي في
حضني وهي تتنازل عن براءتها شيئاً فشيئاً، تاركة لساني يتجول
فوق شفتيها ويخترقهما. كما تحادثني عن فرح شديد ينتابها وهي
بعد أن ينام جميع أهلها  تستعرض علاماتي على جسدها،
وتبتسم ثم تبكي وتعاود الابتسام، وتضحك داخلها وهي تزيح أطفالي
النيئين من فوق ملابسها الداخلية، بينما تغلق على نفسها باب
الحمام بالمفتاح، رغم أن البيت لا يكون به سوى أمها وأخواتها
البنات. كانت تستسِلم لإلحاحي بأن أدخلها من الخلف، رغم الآلام
الشديدة التي كانت تستشعرها بعد ذلك، والتي حدثتني عنها مراراً،
بينما أنا لم يكن يشغلني سوى عضوي المُندفن بين ردفيها، ومائها
الذي تذوقته، وقد حَفَرَتْ بقايا شعر عضوها المنزوع على لساني
صراطاً مُستقيماً لن يُمحى. كانت تقول إنها لا تتذكر ما نفعله وبكل
تفاصيله إلا وهي تصلي، حتى أنها في أوقات كثيرة ــ هنا تتوقف
وتطلب من الله أن يسامحها ــ ينتهي بها الأمر إلى الاستمناء فوق
سجادة الصلاة. عندها كنتُ أؤكد اقتناعي التام بأن الصلاة عماد
الدين، فتغضب، وتستغفر الله العظيم. ثم تأخذني في حضنها،
وتبكي في ابتسام وتُقبّلني كأم.
أتذكرنا الآن . .
عرايا في السرير القديم، يلفنا ظلام الحجرة الحقيرة، فلا نرى
أنفسنا إلا على وهج السجائر، وقد علّمتها التدخين أيضاً.
أراها الآن . . .
على مشارف أمومة فعليّة، فلم أعد أعرفها، ولكني أراها وجهاً
ويداً مُتشنجة وأستمع لما يوحى إليّ من صوت أنفاسها المُتلاحقة،
وحرارتها وهي على مشارف لحظة البلل، ثم قبلتها الأخوية على
خدّي وحضنها الأمومي بعدما تستفيق، وذهابها إلى الحمّام مُتلمّسة
جُدران الطُرقة المُظلمة، وإصرارها غلق الباب عليها، وعوْدتها
وقطرات الماء على وجهها وجزء من شعرها، فترتسي حِجْري، ثم
ندخن وخدّها مُلتصق بخدّي. وعندما ننهي سيجارتنا المشتركة تقوم
لتكمل ارتداء ملابسها . . البنطلون ثم الحذاء، وتطالبني بإحكام
أزرار بلوزتها طالما أنا الذي قمتُ بفكّها، فأردّ في برود بأنها تمتلك
يدين فماذا تفعل بهما ؟ وحينما تنظر إليّ وتعني "يعني مش عارف ؟!"
أقول بأنها قليلة الأدب، فتضحك، وأنا أحكم أزرارها في غيظٍ
ونشوة. ثم تحكم الإيشارب جيداً، ولم تنس وضع الدبابيس المُتناثرة
على الترابيزة. الدبابيس التي تتعمد نسيانها في البداية فأحتفظ
بوخزاتها فوق يدي فأتألم وهي تضحك. ثم أمسِك لها بالمرآة
الصغيرة لتضع الماكياج، وأراوغها بالمرآة، فتزعل وتصفني بالفشل
في كل شيء، وحينما أنظر إليها وأعني "في كل شيء ؟!" تنظر
هي وتعني "أيوه . . حتى ف اللي انت بتفكر فيه"، وتواصل
الضحك. ثم تمنحني حضناً حاراً قبل وداعها ونحن عند الباب، وهي
في كامل ملابسها، وحقيبتها مُعلقة بكتفها، تاركة أحمر شفاهها فوق
شفتي لأتذوق غيابها. كان حضناً حاراً حزيناً، لكنه جميل.
"هدى . . اتأخرنا"
التفتتْ إلى صوت صديقها الذي أصبح بيننا، وقد غيّب صوته حضن
صديقتي القديمة. أشارتْ له يدها بأن يقترب، بينما هي لم تزل
في وقفتها تنظر لأسفل، وعندما لاصقها قالت في صوت مخفوض
"بُص . . ." فنظر الولد، وبصيت أنا كان تحتنا  في جزء
من الحديقة الممنوع تخطي سورها  شاباً في ملابس رياضية،
حيث الفانلة بيضاء نصف كُم ومكتوب على صدرها وظهرها بلون
أخضر [ جمعية جيل المستقبل ]، كان مُمْسِكاً بلجام حصان
يستحثه المسير، إلا أن الحصان كان مُنشغلاً بالتبوّل وقد استطال
عضوه المُرتخي حتى كاد يُلامس الحشيش الأخضر، الذي غرق في
البول. قالت ضاحكة "شوف طول إيه !" فوضع الولد يده فوق
يدها، فأصبحتْ مُنضغطة بين يدها وصدرها، وارتفع ضحكهما،
فسمعه الولد بأسفل ورفع رأسه نحونا، ولم يستدر ليواجهنا،
فقط تبادلنا بعينيه، حتى استقرّ المَخْيول وثبّتَ رأسه المقلوبة
عليّ، وشتمني بأن نسبني إلى جمعية المفعول فيهم، فنظرا إليّ
في اندهاش، وقد ارتفع ضحكهما أكثر، حتى أن الولد السافل قد
شاركهما الضحك. لتتوقف السيارة السوداء خلفنا، فتهدأ الضحكات
مع صوت فتح بابيها المُجاورين للرصيف، وليُمسك الولد بيد
"هُداه" ويهبطان الرصيف ويلجان العربة. (هدى) بجوار
السائق الأسود، بينما "المَهْدي" في الكرسي الخلفي، بجوار قِس
في حوالي الخمسين، والذي رَبّتَ على الخد الحليق وقبّل صاحبه
في فمه، ثم عاد القِس برأسه للوراء، فارتفع صوت (فيروز) من
داخل السيارة، التي بدأتْ في التحرك والسير في هدوء، وصوت
الأغنية يملأ المكان. حتى أن مخصييّ الكشك الحديدي قد انتفضا
وأدّيا التحية العسكرية، والصوت لم يزل يحيطني . . .
(. . . عيوننا إليكِ ترحل كل يوم . . ترحل كل يوم،
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة و تمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء . . يا درب مَن مَرّوا إلى السماء
عيوننا إليكِ ترحل كل يوم . .
وإنني أصلي . . . . . . .)
لم أجد إلا بِركة من البول تحتي، وعلى يميني زجاجة مياه معدنية
مَدفونة بين فخذيّ الجندي الجالس، وانتفاخ الجيب العلوي للآخر
الذي يجاوره، بينما الجامع المُتربة مئذنته لا يزال غارقاً في
السكوت/السكوت الذي قطعته دقات ساق خشبية تسند ساق صاحبها
الأخرى، مَرّت الدقات بجانبي ينسَدِل عليها الكُم الطويل للقميص
الخاوي، بينما يده المُنتسِبَة للجزء السليم استخرَجَت سيجارة من
جيب بنطاله. فتحتُ السوستة مُتحسِساً مشط الكبريت، الذي فرّ منّي
فأخرَجَ الرجل ولاعته من الجيب نفسه، وأشعل سيجارته، وعَبَرَني
ودخانه أمامه يسبقه للناحية الأخرى، فطالعتني الساعة فجأة . .
(الساعة الآن 4:54 ، ودرجة الحرارة)
ليَرُدّني صوت يردد بدِقة الساعة السكانية، لأجد راديو ترانزستور
صغير فوق الرصيف، يُجاور الكيس البلاستيكي العُهدة، يستنده
صاحبه، وأمامه لفّة الطعام، وقد عَزَمَ علي، فشكرته. كنتُ أريد أن
أُخرج له علبة العصير، ولا أدري ما الذي منعني. تعللتُ لنفسي
أن فِعْلتي سوف تجرح شعوره، وقد صعب عليّ وهو جالس على
الأرض يختلط طعامه بالتراب ورائحة القمامة المُزمِنة. ضغطتُ
على نفسي مُتناسياً الفكرة حتى لا يكتشف الرجل ملامحي المُشفِقة،
فأفسد عليه طعامه. سرتُ مُبتعداً حتى وصلتُ أمام الباخرة، فوجدتُ
حركة الرواد قد ازدادت، وعظم صخبهم، فقلتُ في نفسي . .
لن أعتمد على الآذان، فقط حينما أرى أفواههم تتحرك، وأستَرق
السمع إلى ملاعقهم وشوكاتهم وسكاكينهم، عندئذ سأقوم بالتدخين
فوراً، فغابت عنّي الرؤية فجأة على إثر ريح عاتية داهمتني، مُندفعة
ومُحمّلة بتراب ملأ عيني، فأنساني شكاً لئيماً ساورني منذ لحظة.
الغريب أنني لم أعد أسمع أيّة أصوات، حتى الرياح. فقط عاودَتني
(فيروز) التي بُعثت من سيارة (هدى)، تلفني بترديد المقطع
بالكامل، بينما أنا مُنعدم الرؤية وفي حلقي طعم التراب.
التراب . . .
كنتُ وإلهي
في زيارة إلى الكنيسة، بينما
هو

مُنشغل بالتقاط الصور للنقوش والبهو،
وقفتُ أنا
أمام تابوت زجاجي يحوي رفّات القديسين
وأشعلتُ شمعة،
وقد ترحمتُ عليهم وضحكتُ
في سرّي من فاتحةٍ لن أقرأها.
وكانت الإصلاحات المنتشرة في الكنيسة
قد نَثَرَت غباراً ملأ المكان،
فاختنق
إلهي
وألحّ عليّ في الخروج قليلاً للهواء
نظراً لالتهاب جيوبه الأنفيّة،
ودعتُ الرّفات وأشعلتُ شمعة أخرى،
وخرجتُ.
ونحن في الهواء
طلبتُ منه ألاّ أُدفَن في التراب،
فاستغرَبني
مُعتقداً أنها إحدى تخريفاتي،
وحَمَدَ الله
لأننا لم نقم بزيارة إلى المتحف.
فكررتُ طلبي في مزيدٍ من الجديّة،
مُضيفاً
بأن يُحرق جسماني ويوضع في مَرْمَدة
تتصدر بهو منزلنا الذي سيكون،
وألاّ أُترَك وحدي،
وعلى إلهي
إلقاء تحية الصباح عليّ كل يوم،
وأن أظل في مجال بصر
( إزميرالدا )/
ابنتنا
حتى يأتي ميعاد مغادرتها البيت،
وأن يحملني إلهي معه في أسفاره.
صامتاً
كان
والمنديل يحمي أنفه من غبار يلفّني
وحدي
صامتاً كان إلهي،
ثم التَفَتَ برأسه إلى الداخل
وقد تطاير شَعرهُ قليلاً بفعل الهواء،
وأنا
سارحاً في ظِل الشَعر المتطاير،
والمُنعكس
فوق أرض الكنيسة البازلتيّة،
التي امتصت التراب في خشوع.
ثم عاد بوجهه إليّ وابتسم في شرود،
وقال
جَلّ نبضه
إن يُسْرَاه
إما أن تحتمل يدي حياً
أو رمادي ميتاً.
لم أكتشف الخدعة،
مُتيقناً بأن شمعتين لا تزالان
تستجلبان ليّ الرحمة،
ولم أنتبه
لأرضٍ بازلتيّة كانت تحمي نفسها بغبار مقدس
من ظِل يتطاير لن تحتمله
فغادرها بهواء قد أطفأ الشمعتين،
لم أنتبه
لمنزلٍ لن يكون،
وطفلة
ستظل فكرة خياليّة لن تغادرني.
فاخترتُ
مُغتراً بتراب يلفّني،
وعُدنا
فقط
ظِل يدي الفارغة يتقدمني على إسفلت الطريق
صامتَين
ومنديل يحمي أنفه،
وفي حلقي طعم التراب.
بصقتُ،
وبصقتُ، فاستبنتُ المكان، وبرودة قد عاودَتني حاملة معها شكاً
لئيماً نسيَني لحظات، لم تستطع مئذنة مُتربة أن تُعْجِزه. كما أنني
لا أستطيع الوثوق في هؤلاء الدُمى الذين يطالعونني، على الرغم
من موائد عُدّتْ وأطباق رُصّتْ وشوكات وملاعق وضِعَتْ وسكاكين
سُنّتْ وأباريق نُصِبّتْ وكئوس رُفِعَتْ قد طاف بها ولْدان ليسوا
بمُخَلدين. فأنا مثل كثيرين لا أثق بهؤلاء، وبالضرورة عليّ البحث
عن تعويض لنقصي، بأن أدّعي الثقافة مثلاً، وأن أكرَه رواد البواخر
وأنعتهم بأنهم أولاد كلاب، وأن أتشاغل بالتفكير في أشياء أخرى
ليست بمُستحيلة أهم من أكل وشُرب وسيارة وعطور مُدَوّخَة.
وسوف لن أنتظر طعاماً مُختلفة ألوانه وقد زهدتُ الطعام، وسوف
لن أنتظر ما لا عين رأت وقد أعماني تراب المئذنة المُرتخية،
وسوف لن أنتظر ما لا أُذن سمعت وقد خاصمني صوت إلهي،
فأتشَاغَل . . بمشكلاتٍ كونية يُمكن حلها بخمر رخيص أو لفافة
حشيش أو استعجال أطفالي في الحمّام، وأن أقرأ الروايات وأتباهى
بذكر أسماء مؤلفيها، وأردِدُ بعض أقوال دون أن أكون في الحقيقة
قد قرأتها، فقط سمعتها دون أن أفهمها، سمعتها عن آخرين أكثر
منّي حقداً وعفونة، وأقول كما يقول العَجَزَة بأن هناك أشياء هامة/
كالكتب والورق والأقلام والكتابة وما عدا ذلك فهو باطل. وألتقي
بمَن يتبارون معي في العفونة، ونتحدث حول أبخرة الشاي ورائحة
القهوة والدخان، داخل جُدران مقاهٍ مَجْذومة ومُظِلمة اسْوَدّت
من روائح أرواحنا، وتآكلت كراسيها تحت وطأة ثرثراتنا التي
لا تنتهي/عن الكادحين والفقراء وأبناء السبيل وخلل الكون وحال
البلد، أية بلد ؟ والحرامية اللي واكلينها والعة، ونحن نرفع من
أصواتنا لنُغطي حقدنا، لأن أحداً لم يُشِر إلينا حتى نأكل معه. إنها
مجرد إشارة بسيطة يكمُن فيها كل شيء. وقد نُفاجئنا نبكي ونحن
نحتشد داخل غُرف غطتها صور تفوق حجم أصحابها مئات المرّات،
فتخرُج أصواتنا المَبْحُوْحَة مُردِدَة نشيداً وطنياً، تسقط مُفرداته
حينما تنفتح أفواهنا عن آخرها إذا لمَحْنا نهداً استغل طُغيان الإيقاع
فارتعَش، أو مؤخرة انحَشَرَتْ بيننا وبادَلت أعضاءنا المُنتبهة السلام
الحماسي، الذي يفوق حماس النغمات التي صاغها فنان الشعب
المسطول. وقد نمارس الجرأة لنداري وجوهاً كرهناها، وروائح
أخنقتنا، قد نمارس الجرأة في شكل عمل مفيد/ فنتبادل امرأة مثلاً
ونعذبها، أو نتأسى لآخرين لو علِموا أنهم مجال أحاديثنا لأودعونا
أعضاءهم. وقد نتبادل النِكات، التي لا تمُت بالطبع لمن نحقد عليهم
ولا للذين نرثى لحالهم. أتذكر إحداها . .  وهي بالطبع ذات صِبغة
سياسية وأخرى ميتافيزيقية، حتى تليق بمجلسنا
"يُقال إن المخابرات الأمريكية توصّلت إلى رقم المحمول بتاع
ربنا، وأعطته إلى ( كلينتون ) الذي أصبح الآن ( بوش )، فاتصل
وسأل: كم عام ستظل أمريكا سيدة العالم ؟ فرَدّ ربنا وقال له . .
50 سنة. بعدها نجحت المخابرات الروسية في الحصول على الرقم،
فاتصل ( بوتين ) سائلاً: هل ومتى ستعود وتصبح روسيا سيدة
العالم ؟ فرَدّ ربنا وقال له . . بعد 50 سنة. وأخيراً . . . . نجحت
المخابرات المصرية، فسأل ( الرّيس ): متى . . . متى يا رب؟
فرَدّ ربنا . . مُش في عَهدِي"
ونضحك، نضحك لحدودٍ تخطيناها، رغم مؤخراتنا التي تَنَمّلت، وقد
نمارس الجرأة المباشرة . . فنَسُب الدين عَمّال على بَطّال، ونتمادى
فنُجلِس الله فوق ترابيزة المقهى المعدنية، غير المستوية ونفرح
بتمَلمُلِه من أثر الدخان وأفواهنا القذرة، ونجادله في حدةٍ وعُنف،
إلا أن مَفاصِلنا تسيب إذا لمَحْنا جندياً يعْبُرنا دون أن يلتفِت، مُجرد
جندي جاهل ابن وسخة، فنغرق في الصمت، ونرى الله يغادرنا
ضاحكاُ في رحمة، فنموت من الغيظ بعدما مِتنا في جلدنا. وحتى
نقطع الصمت/نبحث عن شيء نتحدث عنه، فنَسُبّ كل الآخرين،
حتى أصحابنا الذين تأخروا فحُشِروا في زُمرَة الآخرين. نَسُبّ
الجميع، خاصة الصفوة اللي صحيح يستاهلوا يبقوا ولاد كلب، لكننا
في الحقيقة نريد الوصول والانتساب لرب عائلة الذيول هذه، لذلك
لا أستطيع الوثوق بهم، اللي ما يعرفوش ربنا. مع ملاحظة أن
ربنا بتاعنا إحنا بَسْ. ووفق نظرية العدل الإلهي، فإن هناك آخرين
يعتقدون في أن ربنا أيضاً بتاعهم بَسْ.

الجمعة، يناير 14، 2011

... من رواية "الجليد" لصنع الله إبراهيم




(1)
ظهرت القومندانة قرب الظهرعلى باب الحجرة بوجهها المستدير المتجهم الذى يجلله شعر رمادى. ملأت فتحته بجسدها البدين. قالت إنها ستضم إلينا طالباً روسيا. قلت لها إن هناك ثلاثة أسرة فقط فأشارت إلى واحد مفكوك وملقى فوق الدولاب. قلت: سنى 35 ولا أحتمل التكدس والضجة، ثم أنى مفروض أن أقيم فى غرفة مفردة كبقية طلاب الدكتوراه. نظرت إلى برهة كأنما تقيس حجمى الضئيل وإذا ما كنت أستحق فعلاً غرفة كاملة. قالت: جسبادين، سيد، شكرى، لادنا، حسنا، ستبقون ثلاثة كما أنتم.

أصلح ماريو البرازيلى بعد انصرافها من وضع تقويم العام 1973 المثبت على الحائط قرب الباب. كان نحيفاً فى طولى، ذا عينين ضيقتين عصبيتين ويرتدى قميصاً صوفياً مخططاً وبنطلوناً من الجينز. قال وهو يعبث بالحلق المدلى من أحد أذنيه: إنهم يحرصون على وضع طالب روسى مع الأجانب لينقل أخبارهم. قال جلال الدينوف، الطويل ذو الملامح الآسيوية، ابن جمهورية قرغيزيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتى، كأنما يحاول درء الشبهة عنه: ليس هناك ما يستحق النقل.

ارتديت معطفى ووضعت الشابكا، القبعة الصوفية، فوق رأسى، ولففت الكوفية حول عنقى، وارتديت الحذاء المبطن بالفراء ذا النعل المناسب للمشى فوق الجليد. تأكدت من وجود القفاز فى جيبى، هبطت الدرج النظيف إلى الطابق الأرضى ووجهت التحية إلى الدجورنايا، حارسة الباب، ثم غادرت الأبشجيتى، بيت الطلاب. كانت الشمس قد اختفت وهاجمنى الثلج المتساقط والهواء البارد. سالت إفرازات أنفى وأنزلت الزائدتين اللتين تغطيان الأذنين وارتديت القفاز. مشيت فوق الجليد بحذر. كانت الواجهة الزجاحية للمجازين، الحانوت، مكدسة - مثل كل الحوانيت - بأهرامات من العلب المعدنية لللبن المركز، ولا شىء غيرها. وتمتد فى أعلاها لافتة من القماش تحمل هذه العبارة: «نحن ننفذ الخطة. إلى الأمام نحو الشيوعية». وتجمع عند المدخل عدد من السكارى ضم أحدهم أصبعين فوق ياقة سترته. دعوة للاشتراك مع اثنين آخرين فى زجاجة فودكا.

لم يكن الاختيار صعباً بسبب محدودية المعروضات. فوقفت فى طابور الشراء أتأمل صورة بريجنيف المعلقة على الجدار. اختفت إحدى البائعات اللاتى يرتدين معاطف بيضاء. وانهمكت أخرى فى حديث طويل مع ثالثة. أخذت ايصالا بما أريده. ثم انتقلت إلى طابور آخرللدفع وحسبت البائعة ثمن مشترياتى على الحاسبة الخشبية: 031 كبيكا بيض، 03 كيفير (لبن رائب)، 463 فودكا و08 خبزا. دفعت وأخذت إيصالا بالمبلغ ثم انتقلت إلى طابور ثالث لأستلم مشترياتى.

أردت أن أنتقى الخبز بيدى المجردة فنهرتنى العاملة فى عنف واستخدمت شوكة معدنية فى التقاط الخبز. غادرت الحانوت ووقفت أتفرج على شرطى دفع رجلا إلى الحائط وأخذ يضربه بوحشية بالغة ثم ألقى به فى سيارة الشرطة.

تجاوزت عجوزا فى معطف أبيض وبوط أسود خلف صندوق لفطائر البيروشكى. فتحته لتبيع واحدة فلفحها البخار المتصاعد منه. اتجهت إلى كشك السجائرالذى يتولاه عجوز أشيب الشعر. عندما أصبحت أمام نافذة الكشك فوجئت بالبائع يغلقها وينهمك فى مراجعة عدة صناديق من السجائرطبقا لكشف فى يده. كان يفعل ذلك ببطء شديد ويده ترتجف. راجع محتويات الكشف مرة أخرى ثم عد النقود المتحصلة لديه ثم بحث عن شىء ما. خلال ذلك تكون طابور خلفى وأخذت أتقافز فوق قدمى لأبث فيهما الدفء. سمعت من يقول إن الحرارة تحت الصفر بعشر درجات. وقال آخر: العجوز يبحث عن قضيبه. وسأل آخر: هل وجده؟ أجاب الأول: طبعا لا. أخذ البائع يصف أصنافا جديدة من السجائر خلف الزجاج ويضع عليها علامات بأسعارها. وانفلتت إحدى العلامات فأعاد تثبيتها فى بطء. وأخيرا فتح النافذة. اشتريت علبة سجائر تيو 144 وعدت إلى الأبشجيتى.

كانت يداى قد تجمدتا من البرد فأسرعت إلى حمام الطابق الأرضى ووضعتهما تحت الماء البارد كما نُصحت بأن أفعل. وشعرت بالألم فى أطراف أصابعى عندما بدأت تدب فيهما الحرارة.
قابلت القومندانة وأخذت منها ملاءات نظيفة. كدت أصطدم بفيرا اليهودية التى ترتدى دائماً جوبات قصير. صعدت إلى غرفتى فى الطابق الرابع. لم يكن بها أحد. أعددت ثلاث بيضات فى المطبخ المشترك للطابق، أكلتها ثم أعقبتها بكوب من الشاى الجورزينى الجيد، نسبة إلى جمهورية جورجيا السوفييتية. أشعلت سيجارة وسحبت الدخان بقوة فقفز الفيلتر فى فمى. شعرت بالرغبة فى النعاس فاستلقيت فوق فراشى القائم فى الركن الأيمن مقابل فراش ماريو فى الركن الأيسر. وكان سرير جلال الدينوف ملاصقاً لسريرى يصنع معه خطاً مستقيماً بحيث يرقد عند أقدامى.

أيقظنى جلال الدينوف عند دخوله. استند إلى الدولاب الخشبى الصغير وقال: تفاريش، رفيق، شكرى، أعرف أن المصريين كرماء وأنا مسلم مثلك وأريد معروفا. قلت: تكلم. قال إن له صديقة روسية فى بلده ينوى الزواج بها وليس معها تصريح بالإقامة فى موسكو، فهل يستطيع إحضارها لتقيم معنا؟ سألته: كيف ستنام؟ قال: فى سريرى وسنضع ستارة حولنا. سألته: هل أخذت رأى ماريو؟ أجاب: نعم، وافق. أبديت موافقتى فتهلل وجهه وأخذ يعد حقيبته للسفر كى يحضر صديقته.

علمت منه أن ماريو سيسافر بالليل إلى ليننجراد، نزلت إلى الطابق الأرضى ووضعت كابيكين فى جهاز التليفون العمومى. تلفنت لمادلين فى معهد اللغات. انتظرت حتى تم استدعاؤها ثم دعوتها للمجىء فى الغد. سألت: وماريو؟ لا أريد أن يرانى. قلت: سيسافر الليلة.

(2)
حلقت ذقنى بالموس السوفييتى الحديدى وأنا أتعجب من أمر السوفييت: يصنعون الصواريخ وعاجزون أو غير مهتمين بصناعة موس آدمى. حملت ملابس نظيفة ونزلت إلى الحمام العام فى الطابق الأرضى. استحممت بالمياه الساخنة. صعدت إلى حجرتى فألقيت بالمنشفة فوق الشوفاز الساخن لتجف. وفى الخامسة وفدت مادلين بعد أن تركت بطاقة هويتها لدى الحارسة. كانت برازيلية فى منتصف العشرينيات، دقيقة الحجم، سوداء الشعر، أسنانها العلوية بارزة بعض الشىء. وكنت قد تعرفت بها هى وماريو أثناء دراسة اللغة. احتضنتها وأحضرت أبريق الشاى من المطبخ. أرتنى فى انفعال أسطوانة روبرتو كارلوس البرازيلى الذى يغنى بالبرتغالية وأهدتى عطرا رجاليا رشاشا. وضعنا الأسطوانة فوق «البيك أب» الصغير وأغلقت الباب بالمفتاح. خلعت بنطلونى وبقيت بالسروال الصوفى الداخلى وخلعت هى الكولون السميك الخمرى اللون. تحسست فخذيها المبلولين. كنت أسألها عادة عن الفترة الآمنة، ونحسب الأيام التى انصرمت منذ آخر دورة شهرية. لكنى نسيت هذه المرة وتذكرت وأنا داخلها. سألتها فلم تنزعج. كانت تستسلم لى دائما قائلة إنها تثق فى وأنى أعرف كل شىء. حاولت أن تقبلنى لكنى أبعدت فمى عنها فلم أكن أحب شفتيها. تجنبت ثدييها لأنها لم تكن تشعر بشىء من مداعبتهما. قالت بعد لحظة: اضربنى. لم أفعل لأنى لم أكن أحب ذلك أيضا.

عاودتنى الآلام فى ق.. عندما انتهينا، أما هى فقد تنهدت فى ارتياح قائلة: لم أعد أتألم كما كان يحدث مع صديقى هرمان بسبب ق.. التخين، يبدو أننى اتسعت من المران.

(3)
طُرق الباب. سألت: كتو تام؟ من هناك؟ فتحت لهانز الألمانى الوسيم. كان فى الثلاثين من عمره وأطول منى يتدلى شعره الأشقر الناعم فوق جبهته مفروقاً من الوسط وله شفتان غليظتان. كان يأتى من ألمانيا عدة مرات فى السنة ليلقى الأستاذ المشرف على رسالته. حيانى: بريفيت. قال إن معه طالبتين روسيتين من ساكنات الطابق الخامس. سألنى أن أنضم إليهم لأن فريد وحميد السوريين اللذين يشاطرانه الغرفة غائبان.

رافقته إلى غرفته حاملا البيك أب وأسطوانة الموسيقى العربية. كانت الاثنتان فى بداية العشرينيات: زويا نحيفة فى طولى أو أطول قليلا ذات وجه طفولى وعينين زرقاوين وشعر أشقر قصير وصدر صغير، متزوجة من مجند فى الجيش يعسكر فى منطقة بعيدة. والأخرى شقراء أيضا تدعى تاليا ذات ملامح عادية.

كانت الغرفة تحوى فراشين متقابلين وثالثا خلف الخزانة الخشبية التى وضعت بعرض الغرفة عند المدخل. وضعت البيك أب فوق المكتب الذى توسط الفراشين أسفل النافذة وأدرت أسطوانة الموسيقى العربية. أنصتت الفتاتان فى وجوم ثم قالت تاليا: أليس لديك موسيقى راقصة؟ أحضرت من غرفتى ثلاث أسطوانات غربية لموسيقى حديثة. وضعت واحدة فصفقت زويا.
قدم لنا هانز فودكا وقطعة جبن وخبزا متجلدا. صب لنا وجرع كأسه قائلاً: نازدروفيا، نخب الصحة. رفعت كأسى إلى فمى وأخذت منه رشفة. قالت زويا: ليس هكذا، يجب أن تشرب الكأس كله مرة واحدة. قلت: لا أريد أن أسكر. قالت: سأعلمك كيف تتجنب ذلك: فى البداية تشم الفودكا ثم تأخذ رشفة وتبقيها لحظة فى فمك، ثم تبتلعها وتجرع الكأس كله وعلى الفور تأكل شيئا. جرعت كأسى حسب تعليماتها ثم تناولت قطعة من الخبز. قالت إن أباها لم يكن يشرب إلا الكحول المركّز ويرفض خلطه بالماء أو أى شىء، وللتأكد من تركيزه يملأ كأساً ويشعل فيها النار، فإذا اشتعلت أطفأها وشرب. قالت تاليا: الخبز الطازج المصنوع من الدقيق النقى يوجد فقط فى أماكن محددة: كوتوزوفسكى بروسبكت قرب منزل بريجنيف وحانوت فى شارع جوركى وسينما الفنون فى الأرباط. اعتذرت عن كأس أخرى فقال هانز: يجب أن ننهى الزجاجة، فلا توجد وسيلة لإغلاقها بعد فتحها. سألتنى زويا وهى تزيح خصلة من شعر رأسها تدلت فوق عينها وتثبتها خلف أذنها، عن مصير الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى البلاد العربية. قلت إنها لن تتحرر إلا إذا تغيرت الأنظمة الحاكمة. قالت: لكن بعضها يؤمن بالاشتراكية؟ قلت: هذا ما يزعمونه. حكيت لهم عن حرب الاستنزاف التى نخوضها منذ سنوات ضد الاحتلال.

كانت زويا تجلس بجوار هانز فوق فراشه واستلقت تاليا بعرض الفراش المقابل مسندة رأسها إلى الحائط. وجلست أنا على المقعد الوحيد بجوار المائدة. سألتنى تاليا عما إذا كنت اشتركت فى القتال. قلت إننى كنت مجندا فى أحد المكاتب العسكرية بعيداً عن الجبهة ثم عدت للتدريس فى الجامعة وحصلت على منحة من برنامج التبادل الثقافى مع الاتحاد السوفييتى. اقترحت زويا إطفاء النور وأشعلنا شمعة. جذبها هانز ليرقصا فاستسلمت لأحضانه. لم أتحرك من مكانى. كان بصرى معلقا بوجهها وساقيها العاريتين. تأملتنى تاليا واجمة. سألتنى عن وضع المرأة فى مصر. قلت إنه تحسّن كثيراً بعد الثورة فخلعت البرقع والنقاب وأصبحت تمارس كثيرا من المهن حتى إنها عملت أخيراً محصلة فى سيارات الباص. بعد قليل وقفت قائلة: سأذهب لأن عندى دراسة. وخاطبت صديقتها قائلة: ألن تأتى معى؟ قال هانز: دعيها تبقى قليلاً. انصرفت تاليا وواصل الاثنان الرقص. ثم جلسا فوق الفراش. وساد الصمت بيننا. قمت واقفا مستأذنا فى الانصراف وحملت البيك أب وأسطواناتى ومضيت إلى حجرتى.

(4)
لم أجد مياها ساخنة لحلاقة ذقنى فتمتمت ساخطا: يا فتاح يا كريم. عثرت على بيضة وحيدة فأخذتها إلى المطبخ ووضعتها فى قليل من المياه على نار البوتاجاز. عدت إلى الغرفة وأنا أغنى: هذه بيضتى أنا.على نسق إحدى الأغانى الوطنية التى تقول: هذه أرضى أنا، وأبى قال لنا مزقوا أعداءنا.

ترجمت لماريو ما قلته بالإنجليزية التى يجيدها. فضحك. سألنى ماذا ستفعل الليلة؟ قلت: لم أقرر بعد. وأنت؟ قال إنه سيقضى الليلة مع أبناء جلدته. سألته: مادلين؟ قال: هى وصديقتها إيزادورا وآخرون.

كانت إيزادورا سمراء متفجرة بالأنوثة ذات ملامح أفريقية وكبرياء. وكنت معجباً بها لكنى تهيبتها فاهتممت بصديقتها مادلين. أما هى فارتبطت بشاب من بلدها اسمه هيكتور. كان وسيماً ورياضياً ويبدو من أبناء العائلات البورجوازية الذين تتاح لهم أوجه كثيرة من النشاط الإجتماعى.

خرج ماريو إلى المعهد. تقدمت من النافذة ووقفت أتأمل الثلج المتساقط. جذبت المصراع الزجاجى. كان خلفه مصراع زجاجى آخر - به كوة صغيرة تفتح للتهوية - وبينهما مساحة تقوم بدور الثلاجة نودع بها ما لدينا من زبد وجبن وكلباسا، اللحم البارد. أخرجت الزبد ووضعته على المائدة إلى جوار الخبز الأسود والجبن والمربى. وذهبت إلى المطبخ فغليت مياه الشاى وعدت بها إلى الغرفة. وكما توقعت قرع فريد بابى. كان قصير القامة بدينا ذا صوت جهورى وشارب كث. وتعود أن يبدأ يومه بزيارتى وتناول الإفطار معى. جلسنا نأكل وهو يثرثر. حدثنى عن زميله حميد الذى سينهى دراسته هذا العام وعن هانز وعن غزوات الاثنين النسائية المتتابعة. وكالعادة شعرت بصوته يكاد يخرق أذنى. وانتابنى هبوط مألوف وتمنيت أن ينصرف.

(5)
انطلقت إلى معهد «التاريخ المعاصر» سيراً على الأقدام رغم الجليد. كانت الشوارع مليئة ببقايا أشجار عيد الميلاد الخضراء الصغيرة وشرفات البلوكات السكنية مزدانة بالمصابيح الملونة والشعارات: الحزب والشعب متحدان، المجد للعمل، تعيش الشعوب السوفييتية بناة الشيوعية. استوقفنى فى المدخل حارس بلباس رسمى أسود مزين بأزرار نحاسية. أريته بطاقتى ودفعت الباب الزجاجى. طالعنى وجه لينين محفوراً فى الخشب وفوقه لافتة تعلن: «إلى الأمام نحو انتصار الشيوعية». خلعت معطفى وسلمته فى ركن المعاطف ومعه الكوفية والشابكا.

حضرت درس اللغة الروسية. كانت المعلمة فى منتصف الثلاثينيات وترتدى جوبة قصيرة فوق كولون أبيض. ثم تناولت الغداء فى مطعم المعهد: حساء كرنب له رائحة مياه غسيل الملابس، مع خبز أسود وجولاش به نتف من اللحم، وشاى.

(6)
اقترح هانز أن نخرج للتنزه مع زويا وتاليا لأن اليوم سبت. وفى آخر لحظة اعتذرت تاليا فصرنا ثلاثة فقط. قال إننا فى حاجة إلى فتاة إذ لا يعقل أن نكون اثنين مع واحدة. اتصلت زويا بصديقة لها لتأتى معنا فاعتذرت هى الأخرى. قالت: نيتشيفو، لا بأس، نذهب نحن.
مضينا سيراً على الأقدام إلى الغابة القريبة تحت الثلج المتطاير. عائلات بكاملها تمارس الانزلاق على الجليد. أطفال فى ملابس ثقيلة أقاموا رجلا من الثلج. غطت زويا رأسها بشابكا صغيرة من الصوف المطرز كشفت أطراف شعرها الذهبى. لم تكن لغتى الروسية قادرة على ملاحقة الحديث الذى تبادلاه بحماس. اكتفيت بالإنصات إلى صوتها الموسيقى. وأحيانا كان هانز يترجم ما قالته إلى الإنجليزية. كانت تتحدث بلهجة طفولية شاعرية عن مظاهر الطبيعة وعن طفولتها. وفجأة دمعت عيناها واكتشفت أنها تتحدث عن موت خروشوف أو خروشتشيف كما ينطقونها.

قلت إنى حضرت دفنه. كنت قد عرفت النبأ فى الصباح من صحفى صديق وذهبت معه إلى مقبرة نوفا ديفنشى كلادبيشو. وعندما أردنا الدخول منعنا الحراس. تقدمتنا عجوز متواضعة الملابس بوجه مجعد وأعين دامعة يغطى رأسها منديل أبيض، وقدماها فى حذاء بال من الفلين. توسلت للحارس كى يسمح لها بالدخول وهى تردد: تفاريش، رفيق، تفاريش. وأخيراً سمحوا للواقفين جميعاً بالدخول. مضينا بين مقابر زعماء وعلماء وفنانين بينهم تشيخوف وجوجول - الذى دفن خطأ وهو حىّ - وماياكوفسكى وزوجتا ستالين وكوسيجين. وصلنا إلى الصف المخصص لموتى العام الحالى. أحاط بنا بضع عشرات قال صديقى إن أغلبهم من رجال المخابرات والصحفيين الأجانب. تمكنت من رؤية الجثمان فى حفرة المقبرة. جسم ضئيل ووجه شاحب مختلف تماما عن الوجه المألوف المتقد حيوية وسلطة. وعندما انتهت الكلمات طاف الجميع من حوله وألقى كل منا بحفنة تراب وأحجار فى الحفرة.

مسحت زويا عينيها بظهر يدها المقفزة قائلة: نشر خبر وفاته بعد يومين فى ذيل الصفحة الأولى للبرافدا بحروف صغيرة.
احتضنها هانز وتبادلا قبلة عميقة. قال إن الأمور متشابهة فى كل مكان، فمن يهزم فى الصراع على السلطة يختفى من التاريخ. لم أعلق.

قررنا النزول إلى وسط المدينة. ركبنا باصا صغير الحجم إلى محطة المترو. دفع كل منا 5 كبيكات عند مدخلها الدوار. وقفنا ننتظر القطار حتى أقبل مندفعا ليتوقف فجأة. انزاح بابه مفتوحاً مفرجاً عن الرائحة الثقيلة للزحام الروسى: الملابس الرطبة، الثوم، الكرنب، الجلد المبلل. اندفعنا وسط شبان مرحين فى بزات التزحلق الصوفية فى طريقهم إلى محطة بيلوروسكا والغابات الثلجية. صاح قائد القطار: ديريفا زكريفايتسا، الأبواب تغلق. وصلنا المحطة المؤدية إلى الميدان الأحمر. الثريات الضخمة. السلم الكهربائى المتحرك. جماعة من الأرمن يبيعون اليوسفى. نساء ملفوفات بالأوشحة يبعن باقات زهور. البابوشكات، الجدات، المنحنيات تحت وطأة ما يحملنه من سلال. وأخيراً الشارع تحت الثلج الذى أصبح أكثر ثقلاً وبدأ يتراكم فوق الرصيف. الناس تمشى بحذر فوق الأرصفة التى تغطى بعضها بالرمل. المعاطف السميكة المبطنة بالفراء والقبعات المصنوعة من جلد الغزال أو من الاستراخان الحقيقى والشيلان حول الأعناق. لا يظهر من الوجوه غير فتحتى الأنف والعينين.

نازحات الجليد فى كل مكان وإلى جوارها الناقلات التى تنثر الرمال. فرق من النساء بالجواريف والنازحات الخشبية والمكانس يقمن بتنظيف الشوارع الجانبية. أخريات يزحن الجليد عن السيارات المركونة تاركات قطع من الكارتون بين ماسحات المطر تعنى غرامة خمس روبلات لأصحابها. بعضهن يحملن مشاعل لإذابة الجليد من بين قضبان الترولى باص. طابور طويل من المنتظرين خارج ضريح لينين ليلقوا نظرة على جثمانه المحنط.

عبرنا الميدان إلى قبر الجندى المجهول. وقفنا عند الحاجز. قرأت اللوحة التى خاطبته: «اسمك مجهول وأعمالك خالدة». ذكرت اللوحة أن الجندى مات فى طريق المطار عند النقطة التى أوقف فيها الجيش الأحمر تقدم الألمان نحو موسكو. كان هناك جنديان يحرسان القبر فى كشكين صغيرين من الزجاج. وحل موعد تغييرهما فظهر بديلاهما يخطوان فى مشية الأوزة. تجمع زحام صغير. وبكت إحدى العجائز.
قالت زويا بلهجتها الشاعرية إن أبراج الكرملين وقباب الكاتدرائيات التى على شكل البصل، تضاء بالليل فتبدو مثل الحكايات الخيالية.

تجولنا قليلاً ومررنا بالجوم، الحانوت الضخم الذى يبيع كل شىء. وسط الجليد وقف بائع الماروجنا، الأيس كريم، بردائه الأبيض والبوط. توقف سقوط الثلج وظلت السماء رمادية. تجمد المخاط فى أنفى. مرت بنا سيارات الفولجا والموسكوفيتش تتخللها فى أحيان سيارة أو اثنتان من طرازى زيل وتشايكا اللذين يستخدمهما الحكام. تحولنا إلى اليمين عند حانوت التسوم وتوقفنا نتأمل أعمدة مسرح البلشوى: مرتفعة بأربعة جياد من البرونز فوق قمتها. دقت ساعة الكرملين دقاتها الرصينة التى أعلنت انتصاف النهار. تركنا كنيسة سانت بازيل خلفنا وواصلنا طريقنا صعودا إلى ميدان سفردلوف خلف فندق موسكفا. كان أمامه باص سياحى تجمع حوله قليل من الركاب. بالجوار كشك لبيع الملصقات والصحف والهدايا. أخذت أتقافز لمقاومة البرد وفقدت الشعور فى يدى اليمنى.

اقترحت زويا أن نتناول طعام الغداء فى استالوفيا، وهى نوع من المطاعم الشعبية معروفة برخص أسعارها فالوجبات الثلاث لا تتكلف أكثر من ثلاث روبلات أى حوالى 150 قرشاً مصرياً. تناولنا غداء من سلاطة وخبز وحساء سمك وأرز أو بطاطس محمرة مع لحم أو دجاج أو سمك مع العصائر والفاكهة. وكان بريجنيف يطل علينا طول الوقت من على الحائط.
أبدى هانز قلقه من مستوى الأكل ونظافته فقالت زويا إن الطباخات يرتدين ملابس نظيفة معقمة، ويضعن على رؤوسهن بونيهات بيضاء ويتم الكشف الطبى على الجميع كل شهرين. وضحكت قائلة: صحة الإنسان السوفييتى مقدسة. أما عقله فشىء آخر.

(7)
عاد جلال الدينوف مع فتاته ناتاشا. شقراء روسية فى الثامنة عشرة من عمرها. وديعة وخجولة. سألته كيف أدخلها. قال وهو يلامس إصبعه السبابة بالإبهام بالطريقة العالمية: تفاهمت مع الديجورنايا، الحارسة. ثبت بطانية حول فراشه بحيث تحجبهما عنا. وقبل النوم طلب منى أن أدير أسطوانة لجلينكا حاشدة بأصوات قرع الطبول. ثم توارى مع صديقته خلف الستارة. وفى الصباح الباكر تسلللت الفتاة إلى الطابق الخامس المخصص للفتيات لتغتسل.
خرجت إلى الكوريدور وقمت بتمرينات الصباح الرياضية ثم أعددت شايا وقدمت لها كوبا. جلست إلى المائدة أمام الآلة الكاتبة العربية.

بقيت الفتاة طول اليوم فى الحجرة لا تغادرها خوفاً من أن تتعرض للاكتشاف. وفى الليل سألنى جلال الدينوف: ألن تعمل على الآلة الكاتبة؟ أجبت بالنفى. طلب منى أن أدير أسطوانة جلينكا ثم توارى مع صديقته خلف الستارة.

(8)
لم أذهب الى المعهد فى اليوم التالى وانقطعت للعمل على الآلة الكاتبة. وتبادلت مع ناتاشا عبارات متقطعة فهمت منها أن جلال من عائلة ذات مكانة فى بلده تملك كثيراً من الأبقار. قلت لها: إن وضعك صعب جداً فى غرفة بها ثلاثة رجال. ضحكت فى خجل وقالت: لكننا نتصرف. قلت: كيف؟ قالت: عندما نطلب منك إدارة البيك أب. سألتنى إذا كنت متزوجاً. أجبت بالنفى.

فُتح الباب فجأة دون طرق واندفع جلال الدينوف داخلا ووجهه محتقن. تطلع حوله ثم جذبها خلف الستارة. ودار بينهما نقاش حاد. خيل إلى أنها قالت له إنها لم تفعل أكثر من تبادل حديث قصير معى. بعد ساعة حزما حقائبهما وغادرا الغرفة.

خرجت إلى الكوريدور ومررت بالغرفة التى يقيم بها خليفة السنغالى بمفرده بسبب نفوذ عائلته أو قبيلته. كان الباب موارباً وثلاجة متوسطة الحجم قربه. ثم فتاة فنلندية مستلقية على الفراش وغير آبهة بانكشاف فخذيها حتى الكيلوت، تتطلع إلى الباب منتظرة. ولمحت خليفة فى نهاية الكوريدور مع بعض الطلاب. طرقت باب غرفة السوريين. فتح لى هانز ورأيت زويا فى الداخل. كانت جالسة فى وجوم على فراشه. أدركت السبب فى وجومها عندما أعلن عزمه السفر فى عطلة الأسبوع إلى ييريفان عاصمة أرمينيا مع طالب أرمنى. أراد أن يخفف الجو فروى نكتة روسية تسخر من الأرمن: تلقى راديو ييريفان سؤالاً من أحد المواطنين عما إذا كان من الممكن أن يحمل الرجل؟ فأجاب المذيع: لم يثبت ذلك لكن التجارب تجرى الآن فى جميع أنحاء أرمينيا.

دخلت علينا تاليا واستسلمت زويا بلا نفور لقبلاتها فى الفم. شعرت بالتقزز وهو نفس الشعور الذى يخالجنى عندما أرى العرب يتبادلون قبلات الشفاه. روينا لها نكتة الأرمن. قالت: لدى نكتة جديدة: فوجئ ركاب المترو بأحدهم يضرب جبهته بيده فى قوة ويصيح كيف حدث ذلك يا غبى يا حمار يا ابن العاهرة؟ أسرع إليه مفتش القطار: ما ذا تقول؟ أنت تجرح مشاعر الناس والقانون يعاقبك. قال له: اسمع الحكاية. ثم فوجئ الناس بالمفتش يخبط جبهته ويصرخ: يا غبى يا حمار با ابن العاهرة. ثار الركاب وأخذوهما إلى الشرطة، سأل الضابط عما حدث فقال الراكب: سأحكى لك يا رفيق، أنا كما ترى أبيض الوجه والجسم وأصفر الشعر وامرأتى شقراء بيضاء وولد لنا ولد زنجى أسود. فضرب الضابط جبهته بقوة قائلاً: كيف حدث ذلك يا غبى يا حمار يا ابن العاهرة؟

وفد حميد بعد قليل. كان ممتلئا فى طولى بشعر ناعم وشارب خفيف. قال لى بالعربية إن المحاكم الأردنية حكمت بالإعدام على 63 فدائيا فلسطينيا وإن جولدا مايير رئيسة وزراء إسرائيل أشادت بما أسمته «شجاعة الملك حسين وفروسيته».

(9)
قال هانز إنه سيصعد إلى غرفة زويا ليشرب الشاى. ودعانى للحضور. فكرت: كنت أريد أن أغفو قليلا لأكون منتعشاً فى سهرة المساء الموعودة. كما أنى شعرت أن وجودى معهما لا معنى له. سيكون الحديث مملاً بالروسية. اعتذرت.

تمددت فوق الفراش بملابسى من جديد. شعرت برغبة فى الاستمناء لكنى عدلت. ربما بنوع من الكسل. أو تجنباً للألم الذى أشعر به آنذاك. رحت فى النوم وشعرت بالبرد فتغطيت. استيقظت على قرع الباب. فتحته لأرى زويا أمامى. كانت تطلب سكيناً. بحثت عن سكين وأنا مجرد من عويناتى. انحنيت أمام الخزانة لأبحث فى درجها السفلى. وبركن عينى لاحظت أنها ترتدى ثوباً قصيراً وأن ساقيها عاريتان بلا جوارب. أعطيتها السكين. قالت إنها تعد حساء ودعتنى للحضور. انصرفت وعدت إلى الفراش. شعرت بهبوط. تمنيت أن يأتى أحد ليقول لى إن سهرة المساء ألغيت. أو أن أستطيع النوم إلى الغد. أو تأتى مادلين بالصدفة. ثم تصورت أنى سأضطر إلى اصطحابها عند الخروج وتوصيلها، وبعدئذ ستطلب أن نتقابل مرة أخرى فعدلت عن الفكرة كلها تماماً.

حاولت أن أتذكر ملامح وجه زويا ونبرات صوتها عندما فتحت الباب لها. كانت باسمة. ماذا كانت ستفعل لو كنت مددت يدى وتحسست ساقها العارية عندما انحنيت أمام الخزانة؟
غادرت الفراش. عدلت عن مواصلة العمل على الآلة فى تقرير للأستاذ المشرف على برنامجى. غسلت أسنانى ووجهى وأعددت شايا. جاء ماريو وذهب. أما القرغيزى فلم يظهر. أمسكت بكتاب عن الإسكندر الأكبر. ثم خرجت إلى الحانوت. لم تكن هناك فودكا لأنها لا تباع بعد السابعة مساء. اشتريت زجاجة شمبانيا ثمنها76.4 روبل. ورغيف خبز. عدت إلى الحجرة. وجدت فريد وحميد فى انتظارى.

مرت هند علىّ فحملت الزجاجة ونزلنا جميعا إلى الطابق الثالث. كانت عراقية بيضاء على غير المألوف من مواطنيها. انضم إلينا صديقها الروسى كوليا عند الطابق الثالث. مضينا إلى الخارج كموكب حزين. ركبنا الباص ووضعت ثمن البطاقة فى الصندوق المخصص لذلك. تجاوز كوليا الصندوق دون أن يدفع وقال لى إنه عادة لا يدفع فلا بد من الحياة على مستوى التلمذة. وقفت عندمدخل الباص فطلب منى روسى ممتلئ أن أتنحى قليلا. فعلت مدركاً خطئى سعيداً بالابتعاد عن هند وصديقها. وقفت أمام جالسة روسية فى الخمسينيات، ذات أسنان ذهبية وشعر مصبوغ. كانت تقرأ كتابا من الشعر. وبجوارها طالب أفريقى يحمل أسطوانة لأغانى جيمس براون. خاطبنى الروسى مرة أخرى وطلب منى أن أبتعد إلى مؤخرة الباص ففعلت. تأملته يقرأ كتابا باهتمام وفى يده شنطة بها عدة علب من مسحوق الصابون.

انتقلنا إلى المترو وجلست بجوار هند. سألتها عن سنها. قالت: 32. دار الحديث عن مصر. سألتنى وهى تقضم أظافرها فى شىء من الخجل عن آخر مرة كنت فيها هناك. ذكرت لها كيف كان انطباعى سلبيا. قالت إنها مرت بالإسكندرية فى باخرة ورفضوا إنزالها لأنهم شكوا فى أنها فلسطينية لكنها لاحظت قذارة المدينة. قلت إنها كانت نظيفة فى الماضى عندما كان بها أجانب ثم وسخناها عندما خلصت لنا. غادرنا القطار فى محطة كوتوزفسكايا، الحى الذى يسكن به كثير من الأجانب والدبلوماسيين. سرنا وسط أسطوانات الزجاج والألومنيوم التى شكلت ديكور المحطة. عبرنا إلى الناحية الأخرى من الطريق وأخذنا الباص. نزلنا إلى جوار كنيسة تدق أجراسها. مضيناً إلى جوار أبراج سكنية حديثة من عشرة طوابق أو 15.

استوقفنا شرطى مستفسراً عن وجهتنا. ذكرت له هند اسمها. سألها عن موطنها. أشار إلى كوليا الذى لزم الصمت. قلت له إنه لا يملك الحق فى أن يسألنا. قال: بالعكس. ثم تراجع وابتعد.. تقدمنا من إحدى البنايات. كان الباب الزجاجى مغلقاً لا يفتح إلا لمن يحمل مفتاحا أو يعرف رقم تليفون الشخص الذى يقصده ويدير الأرقام الأربعة الأخيرة منه فوق لوحة خاصة.

فعل فريد فانفتح الباب أوتوماتيكيا. ارتقينا المصعد إلى الطابق الرابع. استقبلتنا الأرضية الخشبية اللامعة وفوقها وليد مرحبا. كان فى حوالى الأربعين، ممتلئ الجسم خفيف شعر الرأس، خلعنا أحذيتنا ومعاطفنا. ولجنا صالة ضيقة تحوى باب شرفة ومكتبا ازدحم بالكتب والأوراق والتليفون يواجه مكتبة حاشدة. وفى الجانب الآخر مائدة حفلت بأطباق المزات السورية: المكدوس والحمص والطحينة والثوم والملفوف وغيرها. كانت زوجته لمياء سمراء ممتلئة فى الثلاثين ذات عينين ضيقتين فى وجه شاحب حزين. قالت لى إن زوجها هو الذى أعد المزات بينما كانت مشغولة بطفلتهما البالغة من العمر سبعة شهور. سألتنى لماذا لم أحضر مادلين معى. وأضافت أنها قابلتها فى العيادة الطبية وأعجبت بها. جلسنا حول المائدة وفتح كوليا زجاجة الشمبانيا. شربنا نخب الطفلة ثم صب وليد فودكا لنا. علق على موقف الشرطى قائلاً إنه يملك الحق فى منع أى روسى من دخول العمارة لأنها مخصصة للدبلوماسيين والصحفيين الأجانب، ولا بد من الحيولة دون الروس والاتصال بهم. ثم دار الحديث عن أنواع الجبن وقال كوليا إنه يعبد الروكفور وأخذها معه مرة لأمه فى قريته فى بيلاروسيا وكادت تلقى بها فى الزبالة من رائحتها. أشار وليد إلى الجبن الموجود على المائدة، وقال إنه نوع جيد يدعى سوفيتسكى وثمنه 4.30 روبل وإنه لم يعثر على نوع آخر أغلى منه. قال فريد إنه يفضل جبن روسسكى. انفرجت ملامح كوليا الجامدة وقال ضاحكاً إنه يفضل روسيا على الاتحاد السوفييتى. أحضرت لمياء طبقا من اللحم البارد. وجهت الحديث إليها متسائلا عما تفعل. قالت إنها تعمل بالتدريس فى مدرسة أبناء الدبلوماسيين العرب وتعود فى الخامسة مساء منهكة لتقوم بشغل البيت. سألتها فى خبث: ألا يساعدك وليد؟ قالت فى استنكار إنه مشغول دائما بمقابلات لا تنتهى: سهيل إدريس، مصطفى الحلاج وقبلهما إميل توما ومحمود درويش ولطفى الخولى وأمس سهر مع إميل حبيبى، وكان هناك مؤتمر المسرح العالمى وهو يستعد الآن لمهرجان السينما فى الشهر القادم. رد عليها فى هدوء إنه يقوم بمقابلات مفيدة وإنه يعد عدداً من الدراسات سيستفيد منها الجميع. أردت أن أغير مجرى الحديث فسألته عن فيلم المخرج الجورجى يوسيليان «عاش طائراً مغرداً» فقال إنه لطيف ولكن به عيوب فكرية. وقال إنه يعرف المخرج شخصياً. قال حميد إن فيلمه الثانى المعادى لستالين كان ممنوعاً من العرض منذ إخراجه عام 36 والمفاجأة أنه يعرض الآن فى الدور الصغيرة. قال وليد إنه كان مع مخرجه منذ أيام وأبلغه بذلك فأخذ المخرج مجموعة من أصدقائه وذهبوا لمشاهدته، فوجد أن السلطات قطعت منه أجزاء. سأل إذا كان أحدنا قد رأى فيلم بازولينى «أوديب ملكا». ومضى يقول دون أن ينتظر الإجابة: إنه لاشىء فقد تراجع عن مرحلته الأولى وبدأ يهتم بالطقوس الدينية. اعترض فريد فلم يعبأ به واستطرد قائلاً إن مسرحية فايدا البولندى عن فيتنام تقدم الآن على مسرح تاجانكا، وإنه - أى فايدا - أخرج هاملت بصورة جديدة، إذ جعل منظر الموت فى ضوء ساطع على مسرح بغير ستارة بدلاً من الظلام الذى كان يستخدمه المخرجون الآخرون عادة. غمس أصابع الملفوف فى مزيج الخل والزيت والتهمها فى شراهة.

دق جرس التليفون. تمنيت لو جاء أحد: واحد وزوجته أو فتاتان. انتهت المكالمة بموعد للقاء فى الغد. تكرر التليفون وفى هذه المرة فهمت أن شخصاً سيأتى مع زوجته وصندوق بيرة ستلا المصرية. سألت وليد: كيف حصل عليها؟ قال: موجودة فى كثير من الأمكنة، الاتحاد السوفييتى يقبل من مصر أى شىء مقابل ديونها.

جلست أنتظر وعينى على الباب وأذنى على صوت المصعد متصنعا عدم الاهتمام. وأخيراً وصل الرجل وزوجته: خنزير أبيض وخنزيرة بيضاء فى بنطلون. أخذ وليد على جانب وأعطاه حفنة دولارات. وأعطاه وليد بالمقابل روبلات. التفت إلينا وهو ممسك بالدولارات: لو أحدكم يريد استبدال دولارات أنا فى الخدمة. دار الحديث مرة أخرى عن موقف الشرطى. ودافع وليد عن حق السلطات فى منع الاتصال بالأجانب. واستعرض عدداً من طلبة المعهد السوريين ووصفهم بأنهم طور الله فى برسيمه. علق حميد على رداءة بعض المصنوعات السوفيتية وتخلفها فى الشكل الخارجى بالمقارنة مع المنتجات الغربية. شعرت كما لو كان يوجه حديثه إلى وليد. علقت قائلاً السبب هو انتفاء المنافسة فى السوق، لكنها تتميز بالجودة. قال: أى منتج يتعين على الناس أن تشتريه لأنه لا يوجد بديل له. قلت: ليس البديل أبداً هو المنافسة الرأسمالية. رحب وليد بكلامى. أحضرنا زجاجات ستلا وأخرج سمكة مجففة أعطاها لكوليا فقشرها وهو يتعبد فيها ويحكى لنا طرق استخراجها وكيف أن أباه أكل مرة واحدة على مدى شهر كامل لأنها لا تباع فى الأسواق ولا توجد إلا فى حوانيت البريوسكا، التى تتعامل بالعملة الأجنبية. استمتعت بقطعة صغيرة منها مع البيرة. احتكر وليد الحديث مرة أخرى. واستأذنت زوجته لتنام. بعد قليل شرعنا فى الانصراف. احتضن وليد هند وطلب منها أن تقبله فى خده. ثم انفرد بصديقها فى جانب وتبادلا حديثا خافتاً. ثم أصر أن نشرب المزيد من البيرة.

واستبقى الضيف الذى أحضرها لأنه يريد الحديث معه فى أمر هام. غادرنا الشقة. ومررنا بالشرطى فى الكشك المخصص له. تحدثنا بالعربية بصوت عال. شكا كوليا من حموضة فى معدته. واحتضنته هند فى دلع حتى ركبنا الباص. وقفت إلى جوار حميد فسألته هامساً: ألا يخشى وليد شيئاً عندما يقوم علنا باستبدال الدولارات؟ ضحك قائلاً: عمليات الاستبدال تتم تحت رعاية الـ«ك. ج. ب»، المخابرات، لأن الدولة تحتاج إلى الدولارات.

(10)
عاد جلال الدينوف بمفرده. قال إنه استأجر غرفة فى منزل قريب وستقيم ناتاشا معه. وقال إنه سيحتفظ بفراشه فى حجرتنا وعلينا ألا نذكر شيئا عن مبيته فى الخارج، فليس مسموحاً الإقامة خارج بيت الطلبة واتخاذ مسكن مستقل.

(11)
لم أنم جيداً بسبب ضجة مهولة طول الليل فى غرفة البنات فوقى. وفى غرفة خليفة المجاورة ظلت الموسيقى الراقصة دائرة حتى الرابعة صباحا. وكنت أتهيج عندما أفكر فى زويا فيؤلمنى قضيبى. تصورت أننا بمفردنا وخرجنا سوياً ثم صار جسمها النحيف بين ذراعى وأنا أنظر إلى عينيها.

حملت زجاجة لبن فارغة إلى المغسل لأملأها بالماء وأغتسل بها بدلا من ورق التواليت الخشن. كان خليفة السنغالى يقف أمام آخر حوض فى الركن. وشرع يغتسل وإذا به يخلع سرواله ويبرز قضيباً كبير الحجم ثم يضعه تحت صنبور المياه ويغسله وهو ينظر إلىّ مزهوا.

قررت العمل على الآلة الكاتبة. حملتها لأضعها على المائدة فوقعت على الأرض وتحطم سطحها البلاستيكى. وضعتها جانباً فى غضب. وفد حميد وهون علىّ. خرجنا سوياً وشربنا بيرة روسية بلا طعم فى البيفسايا، صالة البيرة، المجاورة. حكيت له عن معاركى مع زميلى حلمى عبدالله الانتهازى عضو الاتحاد الاشتراكى الذى نافسنى فى حب زميلتنا جمالات وفاز بها (راجع رواية «امريكانلى»). قابلنا بشار عند عودتنا فقال إنه اشترى لحماً جيداً من البريوسكا، ودعانا للأكل. كان سوريا متوسط القامة ينسدل شعر رأسه الناعم حتى كتفيه على الطريقة الغربية.

(12)
أعددنا صينية فى الفرن وضعناها فى مطبخ الطابق الأول وجلسنا أمامها كى لا يسرقها أحد. أكلنا فى غرفة السوريين مع بقايا زجاجة نبيذ. وانضم فريد إلينا. قال إن إسرائيل قامت بغارات جوية على سوريا استمرت ثمانى ساعات وإن زويا أحضرت كتابا لحميد منذ ساعة ثم اختفت. صعد هانز إليها ليدعوها فلم يجدها. أكلنا وشربنا فودكا بعد أن انضم إلينا عباس العراقى- العائد لتوه من بلده - وجان اللبنانى وهيلين اليونانية صديقة بشار. كانت ترتدى جوبة قصيرة للغاية كشفت عن ساقين بديعتين أشعرنى جمالهما بالحزن. ظلت صامتة بينما دار الحديث بالعربية. استفسر حميد من عباس عن طالب عراقى أنهى دراسته بالمعهد وعاد إلى العراق فقال: ماكو. عاد يسأله: وعبدالجبار؟ قال: ماكو. سألته عما يعنى، فمر بأصبعه على رقبته دون أن ينبس. ذكر أن البعثيين قبضوا على أحد قادة العمال واغتصبوا زوجته وسرقوا أمواله ثم أجبروه على ممارسة الجنس مع غلام وصوروهما، ثم هددوه بفضحه بين العمال فخضع لطلباتهم. وقال إن صدام حسين بدأ حياته السياسية زعيما فى الثانوى لإحدى فرق الإرهابيين المسلحة أثناء مطاردة الشيوعيين بعد سقوط عبدالكريم قاسم. سألته عن المؤامرة التى وصفتها الصحف السوفييتية بأنها مخطط إمبريالى ضد حكم البعث الوطنى. فقال إنها ملفقة ومحاولة لاصطياد الناصريين وإن الاتحاد السوفييتى يؤيد البعث فى الحق والباطل. سأله فريد عن كيفية اعتراف عزيز الحاج زعيم التنظيم الشيوعى المتطرف. قال إن السلطات البعثية أعدمت عددا من رفاقه أمامه واحداً بعد الآخر بعد تقطيع أجسادهم وخاصة أعضائهم التناسلية. وتحدث عن تفاصيل محاولة اغتيال البارزانى، زعيم الأكراد.


عن موقع جريدة اليوم السابع

الخميس، يناير 13، 2011

... من رواية "النبطي" ليوسف زيدان


"الحيوة الأولى"

شهر الأفراح

فى يوم حار لم تسطع فيه شمس، جاء العرب من بعيد يخطبوننى لواحد منهم. الأوان ربيع، غير أن الغبار الأصفر الآتى منذ يومين، من صحرائهم القريبة، الجرداء، يهيم فى كل الأنحاء فيحجب الأشياء من حولى، ويطمرها. تحصنت منذ صحوت، بحجرة أمى، وبقيت فى فرشتى وحيدة، مكتوفة الركبتين بالذراعين، وقد أرحت للخلف رأسى حتى مس جدار الخرابة العتيقة، اللصيقة، التى نسميها البرابى. جدارها العتيق رطب، والميل إلى الخلف يريح. دجاجات أمى، وكل دواجنها، انسلت من حوش البيت إلى حجرتنا. وراحت تتحامى من الحر والغبار، بالوقوف ساكنة فوق الأرض الرطبة، أسفل سرير أمى وتحت دكتى، وهى تباعد ما بين أجسامها وأجنحتها، وتبقى المناقير مفتوحة. رائحة الدواجن فى الحر نفاذة. أنا بالبيت وحدى، فأمى وأخى بنيامين ذهبا من قبل صحوى، إلى بيت بطرس الجابى، البيت الذى نسميه القصر، لأنه كبير ومن طابقين.

لم يسألونى عن رأيى فى الخاطب العربى، لكنى بلا تردد، موافقة عليه. فقد تجاوزت الثامنة عشرة من عمرى، بعدة من شهور، ويكاد يأسى من الزواج يبلغ منتهاه.. آه.. تأخر عنى الفرح، حتى تهرأ قلبى مع تقلب الليل فوق النهار، وتعاقب حر الصيف على مطر الشتاء. تمر أيامى بطيئة، وأنا متوحدة هنا. شاحبة الروح. حيرى.

صاحباتى اللواتى كن يمرحن حولى، تزوجن، فخلا الكفر من ضحكات العذارى، ومن الفرحات الأولى التى دامت حتى ظننتها لا تتبدد. لا شىء لا يتبدد. لم يبق فى الكفر إلا الرجال الطيبون، العابسون بغير سبب، والنسوة الكادحات اللواتى ينظرن نحوى، بإشفاق يليق بعانس، والأطفال الصاخبون فى الدرب طيلة النهار، بغير مرح.. متى سيكون لى أطفال؟

حظى من الحياة قليل، مع أننى بيضاء كقلب القمحة، وجميلة. نحيلة قليلا، لكنى جميلة. نسوة الكفر كن يؤكدن أننى إذا تزوجت، وزاد وزنى، سأصير حسناء. فعيناى الصافيتان واسعتان، لونهما لون العسل الذى يجمعونه أيام البرسيم. وتحوطهما رموش كثيفة فى لون ليالى الشتاء. حاجباى العريضان، كثيفا الشعر، وناعمان. شعرى أيضا ناعم وطويل، وسميكة ضفائره. أنا لا أحب الضفائر، شعرى مرسلا أبهى. كانت دميانة صاحبتى تقول إنى حين أطلق خصلات شعرى، وأخط بالكحل رموشى، أغدو فاتنة مثل نساء البلدة البيضاء.

دميانة كانت تعرف كل شىء، ما يقال وما لا يقال. تزوجت قبل أعوام ثلاثة، أيام كنا فى الخامسة عشرة. عمرنا واحد. فقد قالت الأمهات إننا ولدنا فى شهر توت، الخريفى، أول شهور السنة التى ملك فيها الملك المسمى هرقل، بلادنا الواسعة والنواحى التى حولها. تزوجت دميانة، فى الشهر ذاته الذى تسقط فيه، وتصفر، أوراق عروش العنب. لا تعلو لى ضحكة، من يوم ابتعدت عنى. صرت من بعد رحيلها وحيدة، حزينة. لكنى أيام عرسها كنت فرحة من أجلها، لأنها اشتهت الزواج ككل البنات، وهامت بالأوهام. امتدت خطبتها شهور ذاك الصيف الذى مر علينا كأنه الطيف، ثم تزوجت حين تقصفت أوراق الكرم وتغضنت أغصانها والشجون.

تركتنى، وتركت الكفر كله، لتسكن مع الولد الممصوص الذى تزوجته، فى بلدته البعيدة التى نسميها البرمون. أهل البلدة البيضاء يسمونها بيلوز، ويسميها العرب الفرما. لهذه البلدة الكبيرة، مثل كل شىء كبير، ثلاثة أسماء. الوصول إلى هناك، يحتاج ركوب بغلة، تظل تسير شمالا نهارا كاملا، أو أكثر. يقولون هنا، إن دميانة بعد زواجها بعام، ولدت طفلتين فى بطن واحدة، ثم انقطع منها حبل الحبل.

حنينى إلى دميانة، حارق. لا أستطيع السفر إليها، وهى لم تأت يوما لزيارة أمها. أمها يسميها أهل الكفر: هزة. لأنها بدينة، يهتز جسمها كله حين تمشى. الناس فى الكفر ينادون بعضهم بعضا، أحيانا، بغير أسمائهم. كانوا ينادون أمى وأنا صغيرة: غزالة. لأنها نحيفة رشيقة الحركة كالغزلان، وكحيلة جفول لا تهدأ فى البيت حركتها. أمى جميلة وحنون.. ما عادوا بعدما مات أبى ينادونها غزالة، صاروا يسمونها أم مارية، وصارت تخاف أن يأتى يوم يسموننى فيه: العانس.

يوم رحلت دميانة عنا مع زوجها وأهله على حمار ضعيف، خرج أهل الكفر كلهم لوداعها بعد العرس. مشينا معها من باب الكنيسة، حتى نهاية ساحة السوق. وعند السور الخلفى للبلدة البيضاء، بلدة الكفار، جمعنا الحضن الأخير، العجول. لحظتها لم تكلمنى دميانة، ولكن عيناها الدامعتان قالتا الكثير. باحت بنظراتها، حتى أحسست بخوفها، وهى التى طالما تحرقت للزواج، وطالما عرفت ما يكون بين النساء والرجال. لكنها فى لحظة الفراق أجهشت مذعورة، وتولت عنى كأنها تفر إلى أفق مخيف.

فى طريق عودتنا من وداعها، بخطى الفرح والحزن، همست لى أمها هزة عند بوابة الكفر، بأن على الإسراع بالزواج كى ألحق بدميانة. أضافت وهى تتوكأ على كتفى، فتميلنى ناحيتها وتوجعنى، أن الفتاة إذا تخطت الخامسة عشرة بلا زوج، يدب بباطنها الصدأ فيخرب معدنها. هززت لها رأسى كالموافقة، مع أننى لم أفهم مقصدها. لم أكن قد عرفت بعد، أن معدنى فى مكمنى. كلامها أدار برأسى يومها، الأسئلة المحيرة: كيف سأسرع إلى الزواج؟ وأين سبيلى المتاح؟ وما معدنى هذا الذى قد يصدأ ؟ وكيف يمنع الزوج الصدأ؟

الزوج.. أتراه أتى اليوم، ليأخذنى إلى الموضع الذى يسعدنى فيه، وأسعده. هل آن أوان سعدى؟ النسوة المتزوجات، الحزينات، يسمين الزواج السعد. لكننى رأيت البنات الصغيرات وحدهن السعيدات، المرحات طيلة الوقت كفراشات تبتهج بغير حساب، وإن غابت الأسباب.

آه يا دميانة، ما عدنا صغيرات. أمى حبستنى من بعد عرسك، فلم أعد أطوف حرة فى الأنحاء، نهارا، مثلما كنا نفعل أيام بهجتنا الأولى. مساء يوم رحيلك، جلست كالمعتاد على الأرض أمام أمى، وجلست هى على شفا سريرها القديم. وبعد لحظة مددها السكون، دعتنى إلى ما عودتنى عليه فى الأمسيات: أن أروى لها ما رأيته فى يومى، وأقص كل ما قيل أمامى. كى تطمئن على، على ما كانت تقول.

رويت لأمى ليلتها تفاصيل عرسك، وما حفظته من كلام أهل الكفر فى يومك الحافل. وحين حكيت لها نصيحة أمك بالإسراع إلى الزواج، كى أتجنب الصدأ، طفرت من عينيها دمعتان من عصير الألم، وأمالها الهم إلى الوراء. ولت وجهها الشاحب ناحية الحائط، وببطء مريضة، شدت فوقها لحافها الخشن كأنها ستنام، مع أن الجو كان حارا والهوام مبتهجة.

بعدما تولت عنى، بقيت ساعة أقلب أغصان العوسج، متقدة الحواف، ليعلو دخانها من الماجور المكسور، فيطرد عن حجرتنا الهوام والناموس.. بعد حين، أخذنى من الظلام وهج الأغصان، وأشكال الدخان الغامضة. همت شاردة، مغلقة العينين، مسترجعة ببطء لذيذ صورتك فى ثوب عرسك، وقد وضعوا الإكليل على رأسك. ابتهجت فى سرى، لما تذكرت لمعة عينيك فى الكنيسة، ساعة انتهى الكاهن من تلاوة الصلوات، وصيرك امرأة.. هه، أنا ما حكيت لك يا دميانة ما جرى معى فى البرابى مع الرجل الغريب، قبل زواجك بيومين، قبيل الغروب. لم أجد فرصة لأحكيه لك، ولا حكيته طبعا لأمى، ولا لغيرها.

فى تلك الليلة البعيدة، بقيت هائمة، سكرى بلذة الذكريات. حتى إذا امتلأت سماء حجرتنا دخانا، واحترقت الأغصان اليابسة كلها. هزت أكتافى رعدة مباغتة، فقمت كالملسوعة لأدس نفسى تحت لحاف أمى. مع أن الجو كان حارا. احتضنتها من ظهرها، وحين مستنى الطمأنينة نمت. أمى لم تكن نائمة حقا. آخر ما بدا بجوف فؤادى، بعدما أغمضت عينى طويلا؛ نظرة الرجل الغريب ولمسات أنامله. آه يا دميانة، كأن الأمر كان الليلة الفائتة، وكأن الأعوام ما مرت.

عرفت بمجىء العرب الخاطبين، ضحى اليوم. دخلت على الحبشية الخادمة بقصر الجابى، ساعة اشتداد الحر وسكون العصافير، وهى تدعونى بإشاراتها وألفاظها المبهمة للذهاب إلى القصر. الحبشية لا تعرف كلامنا، مع أنها هنا منذ سنين. انتبهت لها، وللنسوة الصاخبات اللواتى جئن وراءها، حين داست أرض حجرتنا وفوق رأسها ماجور فخارى، فيه ماء نظيف. دخلت خلفها أم نونا، القصيرة، تضحك وترجرج صدرها الكبير، داعية بفرحة غامرة لأن أقوم فأرتدى هذا الثوب الجديد، الزاهى، الممدد من قبل صحوى على سرير أمى.

هيا يا مارية، استحمى بسرعة وارتدى الثوب الجديد، فقد وصلوا ولن نتركهم ينتظرون.
من الذين وصلوا، وينتظرون من؟
يوووه يا مارية. العرب جاءوا يطلبونك. وصلوا إلى الساحة، بحمير وجمال كثيرة. اللقاء والغداء بقصر الجابى.
ما أخبرنى أحد بأى شىء.
جئت لأخبرك، أمك أرسلتنى، هيا انشطى. بعد استحمامك، كحلى عينيك.

راحت الحبشية تنظر نحوى، وتبتسم، فتلمع أسنانها الشهباء فى ليل وجهها. نظرت إليها مستغربة وقفتها، فخرجت بعدما تركت على الأرض الماجور، وبجواره صابونة بالية فوق قطعة من اللوف الأبيض. لحظة نهوضى من فرشتى، عادت أم نونا وأغلقت على الباب، وهى تهز رأسها وتغمز لى.. تتغامز النسوة الكبيرات، عند ذكر الزواج.

قمت، كمأخوذة من حلم إلى حلم. غسلت عنى العرق والغبار، وعصبت مسرعة ضفيرتى، ودخلت فى ثوبى الجديد بعدما مررت بالمرود بين أجفانى. فور خروجى، صخبت الجارات اللواتى كن يعرشن فى الحوش. تضاحكن، وعلت الزغاريد، وهن يغنين ترنيمة الأفراح التى مطلعها: أقبلى يا عروس سليمان، يا أجمل من بدر التمام.

الثوب ضيق عن عمد من عند صدرى، وأكمامه ضيق منبتها من تحت إبطى، لكن أطرافها واسعة من فوق كفى، ومؤطرة بشريط من قماش لامع. لما خرجت تحوطنى الجارات، يحوطهن أطفالهن؛ كان الهواء قد رق قليلا، وقل الغبار العالق فى الأجواء. رأتنى هزة وهى جالسة على المصطبة التى بآخر الدرب، فدعتنى بتحنان إليها، وحين جئتها جذبتنى حتى احتضنتنى بقوة، ثم علقت بعنقى عقدا مبهجا فيه خرز ملون، كانت تخفيه فى شق ثدييها العظيمين. لما التف حول عنقى العقد، تصايحت النسوة وتضاحكن، وصخبن بالزغاريد مع دخولنا القصر من بابه الخلفى.

قصر الجابى تحوطه حديقة خضراء الأرض، فيها أشجار رمان وبرتقال وليمون. الحديقة صغيرة من الخلف، من جهة الكفر، وفسيحة فى الجهة المقابلة التى فيها الباب الكبير. وفيها هناك حوض ماء مدور نسميه النافورة، لأن بقلبه ماسورة ينفر من قلبها فى الهواء الماء. الطابق الأرضى للقصر، بمدخله بسطة رخامية، وباب، بعده فسحة تفتح عليها غرف أربعة. أولها غرفة الضيوف الواسعة، التى على يمين الداخل من الباب. الغرفة مبلطة، وعلى نوافذها ستائر تمنع عن الجالسين الشمس والغبار. أحب الستائر، فهى رقيقة ناعمة، تسحر عيون الأطفال والصبايا.

لحظة عبورى من أمام غرفة الضيوف، لمحت العرب متكئين فيها على الأرائك، متباعدين، مستريحين كأنهم فى بيوتهم. نسوة الكفر كن يتحشرن فرحات، فى آخر الفسحة، أمام غرفة الطبخ.

احترت لحظة، حتى ألفيت أمى تنظرنى وسط النسوة، وعيناها الدامعتان تبتسمان. أعطتنى إبريقا زجاجيا أزرق، فيه نبيذ أحمر ممزوج بماء، تسبح فيه قطع صغار من التفاح الأخضر. وفى يدى الأخرى وضعت سبعة أكواب، متراكبة، وقالت ادخلى عليهم.

ركبتاى ترتجفان، وأطراف كفى. أم نونا من خلفى تدلك بتحنان كتفى ومنبت ذراعى، وهى تتلو صلوات مهموسة. أصوات الرجال تأتى من غرفة الضيوف عالية، فيهتاج خوفى. رجوت أمى أن تدخل معى، فهزت رأسها غير موافقة. كدت أبكى، فقالت لتهدئنى إن الحبشية ستدخل ورائى، ومعها إبريق آخر ومزيد من الأكواب.
صبى للضيوف أولا، ولا تترددى. وسوف تناولك الحبشية بقية الأكواب.
أمى..
ادخلى يا مارية.

أود لو أهبط إلى الأرض، فأبكى حينا لأهدأ. لكن النسوة أخذننى إلى غرفة الضيوف، ودفعننى من وراء بابها نحو الرجال. لا مفر، دخلت والخجل يعصرنى، وتهصرنى العيون.
الغرفة واسعة جدا، كالدنيا. كأنها أوسع مما كنت أعرفها، وأعلى ارتفاعا. العرب المعرشون، أكثر من عشرة رجال يجلسون على اليمين صفا، وفى مواجهة الباب يتربع بطرس الجابى مفتخرا، وتحت قدميه صرة كبيرة من الكتان. عن يساره واحد من العرب، كبير السن، وعن يمينه ابن أخته السمين، بسنتى، ثم أخى بنيامين. على أرائك الجهة اليسرى، جماعة من رجال الكفر، بأولهم أبونا شنوته كاهن كنيستنا، بجلبابه الأسود متقرح الأطراف والأكمام. على بطنه الكبير، يتدلى من عنقه الصليب الخشبى، المعلق بالحبل الخشن.. لو كان يلبس برنس القداس اللامع، والقفطان الأسود، لكان منظره أليق بمجالسة الخاطبين.

العرب جاءوا يخطبون، ولا نساء معهم. أين سأجلس بعدما أصب لهم ما يشربون؟ لا امرأة فى الغرفة لأجلس بجوارها، ولا نسمة هواء. العرب يتشابهون فى الأردية الواسعة المخططة بالسيور اللامعة العراض، والعمائم البيضاء المعصوبة فوق رؤوسهم. عيونهم مكحلة. نظرت مشدوهة نحو بطرس الجابى، الجالس هناك فى جلباب فاقع اللون، أصفر. من كتفيه تنسدل عباءة بلون الجميز، ومن حول عنقه يتدلى الحبل الأسود اللامع، المعلق فيه سن التمساح.

كأنهم فوجئوا، كلهم، بدخولى. توقف صخبهم وحدقوا ناحيتى، فازداد اضطرابى. بلغ وجيب قلبى مداه، لحظة قال أحدهم بصوت أجش: ما أحلى العروس. وقال آخر منهم: مرحى، مرحى. وقال الكاهن: بركاتك يا أم النور.

رحت أصب لكل واحد كأسا، فيأخذها من يدى إلى فمه.. فى وسطهم عربى لم يشرب كأسه. أخذها منى بيمناه فوضعها بجواره من دون أن ينظر نحوى، فأمكننى من النظر إليه. ملامحه دقيقة رقيقة، وعيناه المكحلتان واسعتان. ثوبه نظيف أبيض، وعمامته تفوح بعطر خافت. على جانبى وجهه النحيل الرائق، ينسدل غطاء رأسه الشفاف. أتراه خاطبى؟ يا ليته. فهو يبدو مثل قديس شاب، أو ملاك تاه عن طرق السماء، فهبط إلى الأرض بلا قصد، ليعيش حينا بين الناس.

وهو يأخذ الكأس من يدى المرتجفة، قال بصوت خفيض: شكرا يا خالة. تمنيت لحظتها بقلب حالمة، لو كان هو الذى جاء يخطبى.. لكنه لم يكن، كان أخا خاطبى الأصغر منه، المسمى عندهم الكاتب لأنه يكتب لهم عقود التجارات، وهو الملقب هناك بالنبطى مع أنهم كلهم أنباط، وهو الذى سيعلمنى فى حيوة تالية، خفايا كلام العرب وأسرار مس المعانى بالكلمات.

سقيت العرب جميعا وهم ينظرون، ولما وصلت بصب النبيذ إلى بطرس الجابى، لم يرفع وجهه نحوى. قال مزهوا وهو يأخذ الكأس من يدى: يكفيك هذا يا مارية، اجلسى هنا جنب أخيك، الحبشية سوف تصب للباقين من أهلنا.

أفسح بنيامين موضعا فجلست فى الركن، خجلى، وعن يمينى الكاهن شنوته. لم أنظر فى وجوه الخاطبين، من شدة تحديقهم نحوى وهم صامتون. تنحنح بطرس الجابى مرتين، ثم تحدث إلى عربى منهم، والغرفة كلها تسمع: هذه يا شريكى الحبيب، ابنتنا مارية، صالحة وطيعة وتقية، وأنتم أهل لها، وسوف تكون ببلادكم وديعة آمنة، وتصير أما لأطفال كثيرين منكم، بمشيئة الرب.
جاوبه واحد منهم، بصوت خشن: سنكون لها خير الحافظين، وسوف تبقى بيننا عزيزة مكرمة، فنحن فى بلادنا أعزاء مكرمون. ولن يسعنا إلا إكرامها، فهى ابنة جدتنا المصرية هاجر، أم العرب أجمعين.

تداخلت أصواتهم واصطخبوا فيما بينهم بكلام كثير، فالتفت إليهم. لمحت وجوههم المكسوة حمرة وسمرة، لكنى لم أميز خاطبى. فى نظرتهم جرأة تهيل على الخجل، وتسحب وجهى نحو الأرض. بعد حين من حيرتى فى جلستى، ألقى أحدهم إلى الكاهن شنوته كيسا صغيرا من قماش، وقال إنها دراهم لطلبات العرس. باركه الكاهن وهو يدس الكيس مبتهجا فى جيب جلبابه، ثم ينهمك معهم فى كلام كثير عن البابيلون، وعن جند الملك هرقل، وعن حروب تجرى فى نواح بعيدة. هم يسمون البابيلون الفرس، وجند هرقل يسمونهم الروم، ويقولون الدرهم وهم يقصدون الدراخمة.

كان بطرس الجابى يكلمهم بكلامهم، وكأنه منهم، وكنت أتحين اللحظات فأحتال لأنظر إليهم، وإليه. أعادنى لإطراقتى، حين رفع صوته بقوله إن الزواج سيكون فى الكنيسة، بيت الرب، وصخرة الديانة التى تجمعنا. رد عليه جاره العربى، كبير السن: سيتم المراد كله بمعونة الرب يا خال بطرس، مد يدك فخذ منى أمام الرجال مهر العروس. ولسوف نغيب شهرا فى رحلتنا إلى قوص، نعود بعده لنأخذ العروس ونتم الزواج. أمامكم من الآن شهر للأفراح، وسوف نتلوه بشهر أفراح آخر، حين نصل ديارنا سالمين.

... من رواية "مصحف أحمر" لمحمد الغربي عمران



1
حنظلة
"1" وحيدي حنظلة.
هذا هو شهر أغسطس من عام 2000، فيه حاصرتني مشاعر الوداع.
هي المرة الأولى التي تحس فيها بالرهبة من مقابلة جدك (العطوي ).. لحظات الوداع .. تستعد للإقلاع في رحلة إلى بغداد .. لم نفكر يوما بأنك ستتركنا لتغادر خارج اليمن.
المسافة بين (صنعاء) وقرية جدك.. (حصن عرفطة) سبعة وعشرون كيلو متراً غرباً.. أقنعتني بأن تودع جدك دون أن تخبره بسفرك لدراسة الطب.. وعدتني بمهاتفته عند وصولك العراق.
أتتذكر حين عدت من القرية.. حكيت لي مشاعرك.. أتخيل اضطراب قلبك لحظة طرق الباب.. يطل بوجهه الضاحك .. ذقنه المهندمة .. يمد ذراعيه ليحتويك.. هي المرَّة الأولى التي ترتجف فيها.. يرفع صوته: "ما هي أخبارك يا حنظلة؟" هذه هي خطوات الترحيب لديه .. يركز النظر في عينيك .. تتقدم عبر الصالة .. تدخل الغرفة الجنوبية.. المصحف الأحمر الكبير على كرسي القراءة.. تقترب بوجهك من صفحاته.. تقرأ:"وقال داوُد لسليمان ابنه.. تشدد وتشجع واعمل,لا تخف ولا ترتعب لأن الرب الإله إلهي معك لن يخذلك ولن يتركك حتى تكمل كل عمل خدمة لهيكل الرب". تُقلِب عدة صفحات لتجد مؤشراً ثانياً على الآية. وبينما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة من بين الجمع صوتها قائلة له: طوبى للبطن الذي حملك.. والثديين اللذين رضعتهما.. إلا أنه قال: بل طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها. تقلب صفحات أخرى.. لتقرأ: " قال ربِ إني وهن العظمُ مني واشتعلَ الرأسُ شيباً ولم أكن بدعائكَ ربي شقياً " تقفل المصحف.. تتأمل.. تودع تضاريس غرفة جدك.. رشاش(كلاشينكوف) معلَّق فوق النافذة .. عدة صور على الحائط .. مرآة .. مساند.. صندوق خشبي قديم.. سجادة.
أتخيلك تهرب إلى الغرفة الشمالية ..غرفتك التي كنت تستذكر دروسك فيها حين تمكث في القرية.. تستنطق زواياها.. فوق النافذة تتكئ على (القمرية) صورة لك إلى جوار جدك ..التُقِطت سنة1994.. تحتضن باقة من أغصان القات بين ذراعيك.. تتأمل وجه جدك.. الملامح الباسمة .. والشال الملفوف على الرأس شبيهٌ بضمادة هندية .. عينان صغيرتان وشارب حليق .. قارنت بين ملامحك وملامح وجهه:
العينان.. الأنف.. لون البشرة .. حتى الابتسامة..نسخة مصغرة لوجه جدك دون تجاعيد .. يقولون بأنك ورثت عنه الكثير من ملامحه .. في الجدار الآخر لوحة لفتاة مجنحة تطير.. أطرافها حوافر خيل.. عدة كتب على رف علوي.
تتقلب في ظلام غرفتك..هدوء مطبق إلا من ضجيج أفكارك.. هذا جدك يحتل حيزاً من تفكيرك.. قلقاً من صباح الغد .. تفكر في كيفية إخفاء سرك.
حاولت التخلص من كل ما يشغل تفكيرك..الاستعاضة باصطياد ذرات النوم .. ملامح جدك ترتسم هلام وسط ظلام غرفتك..نظراته..ابتسامته, أغمضت جفنيك متلمسا خيوط النعاس .. بعد محاولات أصطادك النوم.. لا تدري كم من الليل مضى حين تهادى إلى سمعك صوت جدك يتلو صلواته.. موسيقى دون أوتار.. تقفز من نشوة إلى أخرى .. يرفعك في معارج النقاء.. حتى لكأنك لم تعد تدرك أأنت في حلم أم أنك لم تنم بعد ؟! حاولت استعادة النوم .. جاهدت .. صوت جدك يملأ المكان بمشاعر تبكيك.. رنين أجراس تختلط بصهيل خيول لا تُرى .. تغمض عينيك من جديد ..تفقد القدرة على الرؤية .. لم يمض وقتٌ حين توهج زجاج الفجر.. زقزقة العصافير.. رائحة الخبز..فتحت النافذة.. أطليت على الوادي السحيق.. بدايات ضوء الأفق .. رياح باردة .. سفوح المنحدر امتلأت بورد أصفر.. زهور الطلح والطنب .. مجرى السيل أخدود تسكنه الحصى .. بقع الوادي.. حقول شجيرات القات تناثرت.. صفوف الجبال تحتضن مشاعرك.. قرى يتنفسها الفجر.. كل شيء ساكن إلاَّ من أعمدة دخان.. فلاحون يسابقون الضوء على منحدرات الوادي.. ينفضون عن أغصان القات قطرات الندى.
 في علياء القرية بقايا (حصن عرفطة) يطل من ربوته كشيخٍ طاعنٍ في السن بعد أن فقد معظم أجزائه .. مازالت بقايا جدران بنوافذها وأفاريزها الملونة تقاوم بعد نسف أجزاءه العلوية في عام 1981م بإيعاز من شيخنا.
عند بزوغ قرص الشمس ودَّعت جدك متحاشياً النظر في عينيه.. حاولت أن تختصر فترة العناق فيما هو يمعن الإطالة.. بلعت رغبة البكاء .. سمعت جدك يردد:
- الله معك يا حنظلة حافظاً ورفيقا.
رددت عليه وأنت تخطو خارج البيت:
- الله معك يا جد.
لوحت بيدك.. عيناك مغلفتان بالدموع.
شقَّت السيارة طريقها وسط القرية ..تفر الدجاج من حولها..كلاب .. أطفال وعجائز فاغرون أفواههم.. رائحة المواقد من شقوق الدور العلوية .. لم تستطع كبح دموعك ..هدير السيارة خارج أطراف القرية صاعدة تعرجات الطريق نحو الجبال الشرقية.. تمنيت لو أنك تحلِّق تحت سماء القرية لترى جدك الواقف أمام باب بيته.. طوال الطريق تحادث نفسك: " لو أني أخبرته بسفري .. هل سيتقبل الأمر ؟.. لو رد عليَّ بالرفض !! هل أمتلك القدرة على مخالفته؟ سامحني يا رب! ساعدني في أن أكتب إليه معتذرا..سأشرح له كل الملابسات.. أنا على يقين من أنه سيغفر لي!"
حين صعدت السيارة المرتفعات ..التفتَّ .. أمعنتَ النظر في القرية.. لسان صخري.. بقايا حصن عرفطة.. وديان غائرة.. جبال عالية تشبه ملامح جدك.. تتداخل لترسم ابتسامته .. كل شيء هادئ إلاَّ من ضوضاء روحك.
أغمضت عينيك تستحضر أيامك الماضية.. لحظات الصباح الباكر حين تهبط الوادي برفقة جدك.. تساعده في قطف أغصان القات وبيعها.. ترافقه ليلاً لحراسة الوادي..تطرب لنباح كلاب الليل.. عواء ذئاب الجبال.. دوي الرصاص بين فينة وأخرى.
أكملَت السيارة الطريق الترابية.. انطلقت شمالاً على طريق معبد باتجاه صنعاء.. قرى تأتي مسرعة..وأخرى عالية تعشش دورها على شفاه المرتفعات.. وتلك تتخذ من السفوح مهاجع لها .. على سفوح الجبال مزارع القات تزاحم شجيرات البن الخضراء.. الهضاب احتلتها عرائش الكروم.
مدينة صنعاء تومض بياضا من بعيد.. سهل مستطيل تحرسه قلاع الجبال العالية.. صفوف سوداء من الغرب والشرق ..سهل موزعةٌ ألوانه بين الأسود والترابي .. مربعات خضراء لحقول البطاطس والبرسيم .. المدينة مآذن حجرية باسقة ..بياض قبابها.. في البدء ولدت وثنية.. ثم يهودية خالطتها المسيحية.. لا أحد يجزم ما تخبئ لها الأيام من مسرات.. يحتضنها طقس بارد.. تحاول عيناك اختزال ما تشاهده..أسوارها الطينية.. دورها الياجورية .. شوارعها المتربة .. الواجهات المزخرفة .. زحام باعة أرصفتها.
عزيزي حنظلة..
حين كنت انتظرك..أنظر إلى مؤشر ساعتي.. تبقَّى على إقلاع الطائرة عدة ساعات وأنت لم تصل بعد.. أرتب حقيبتك: كعك بالمكسرات..زبيب.. زعتر .. بن.. حبة البركة .. علبة زبدة .. برطمان عسل .. عطر.. أمشاط .. كريمات ومعاجين.. أستنشق رائحة ملابسك.
كُنتَ سعيداً لاهتمامي بك.. أستحثك سرعة الانتقال إلى المطار.. خرجنا..أزقة مرصوفة.. دور متراصة..نسير تحت أقواس حجرية عالية.. بمحاذاة سور طيني طويل.. عبرنا باب اليمن.. قُلتَ لي مبتسماً:
- هناك متسع من الوقت يا أماه قبل إقلاع الطائرة.
- ماذا تعني؟
- بي رغبة لأن أودع صنعاء!
- ماذا تقصد؟ .. يجب أن نصل إلى المطار مبكرين .. هناك من ينتظرنا!
- من تقصدين؟!
- خمن من يكون!
- أصدقائي!
- بل من أقرب أقربائك!
- أيعقل أن يكون جدي!
- لا!!
- زوجته!!
- لا.. لن تستطيع تخمين من يكون!
نطقت عبارتي وتركتك للحيرة.. بعد صمت قلت لك: ستغادرنا بعد لحظات.. ستجرب قدرتك على مواجهة الحياة .. أناس لا تعرفهم.. سترحل قطعة من روحي .. ولولا حبي لك لما وافقتك على السفر، لن أقول لك إني سأشعر بالوحدة .. وإني أفتقد العالم بمغادرتك.. وإني امرأة دون أجنحة .. وإن سمائي ستكون كئيبة.. وأوقاتي ستفقد بهجتها.. بل سأقول إني أكثر سعادة وأنا أودعك لتعود طبيباً.
أتذكر تلك اللحظات حين صَمتُ تمسح عينيك الغارقتين بدموع مفاجئة.. لم تسعفك الكلمات.. تصنعت الانشغال بالبحث عن شيء ما ناظرا إلى سماء صنعاء .. تتأمل الشوارع المؤدية إلى المطار .. دور المدينة.. قمم الجبال . قلت وأنا أراقب عقارب الساعة:
- لا تتذمر .. حديثي لك حديث من امتلأ قلبها سعادة بابنها.. وأنت تحقق أحلامك.. سأظل أصلي لسلامتك ..أدعو الله أن تعود سالماً غانماً.
- لن أنساك لحظة .. وكم أتمنى أن يغفر لي جدي.
- ما أنت إلاَّ قلبه الذي ينبض بالحياة .. وعيناه اللتان يرى بهما الدنيا.. فكيف تقول هذا؟
كان أريج الحديث يتدفق طوال الطريق.. لذة الكلام تتوالد دفع لذيذة .. احتضنك..أتأمل عينيك مبتسمة.. أسألك:
- كيف سأكون بدونك؟
- سأهاتفك حين أصل، وفي كل يوم!
- فقط أرجو أن تتذكر بأنك وحيدي.. وأنك أملنا الذي ننتظر عودته.
- وأنتِِ كل الدنيا .. هي أشهر معدودة وأعود إليكم.
أتتذكر حين طلبت منك أن تسمع بعض حكايات جذور أسلافنا.. قلت لك:
- هل أحكي لك حكايات أسلافك؟
- يسعدني ذلك.
- إذاً سأحكي لك عدة حكايات .. قد تراها حكايات ساذجة .. لكنني أشعر بمتعة حكايتها:
- هيا أحكِ.
الحكاية الأولى تقول: إن محارباً قدم من الأناضول ضمن جنود الغزو العثماني الأول لليمن..حارب سنوات.. وحين قرر الأتراك الرحيل.. فضل ذلك المقاتل الاستقرار في صنعاء.. تزوج .. امتهن تجارة السجاد القديم.. ويقال إن ذلك الجندي هو جدك الأول .
وحكاية أخرى أبعد من الأولى زمنياً.. يُحكَى: أن الجد الأول قدم ضمن جيش أبرهة الحبشي كقس يسوعي ..هو صاحب فكرة إنشاء كنيسة في جنوب شبه جزيرة العرب كمركز متقدم للإيمان.. أقنع أبرهة.. وسريعاً ما أنشئت كنيسة(القليس) في قلب صنعاء القديمة.. أضحى ذلك القس راع للكنيسة.. حتى بعد هزيمة أبرهة وفيلته في الحجاز.. وعودته إلى صنعاء.. ثم رحيل (الأحباش).. كان ذلك الراعي قد اختار الاستقرار وأمسى من سكان صنعاء....ومن بعده ابنه ثم حفيده.. وحفيد حفيده حتى اليوم.
الحكاية الثالثة.. وهي المتداولة: أن الجد الأول.. أحد وجهاء(مأرب).. قدم من أطراف الصحراء الشرقية نحو المرتفعات الجبلية بعد أن نفذ خدعة بسيطة.. وقع ذلك في أواخر عصر الدولة السبئية.. كان خبيراً بأحاديث النجوم .. ومن ذوي الأطيان التي ترتوي من مخزون سد مأرب .. حدثته النجوم عن قرب انهيار سدهم العظيم.. فكر في حيلة للرحيل قبل الانهيار.. مسرحية لتكن مبررا لبيع ممتلكاته الثابتة .. أتفق مع أحد أبنائه بأن يعلن العصيان عليه.. اختار الأب السوق الشهري لمدينة مأرب.. وعند ذروة الزحام افتعل الابن خلافاً مع أبيه.. شتمه وهوى بكفه على صدغه وسط دهشة الجميع !! أقسم الأب أن لا يبقى في أرض أُهينت فيها أبوته.. معلنا عرض جميع ممتلكاته للبيع.. انتشر الخبر.. تنافس الجميع على شرائها.. نجحت الخطة ليرحل الأب بقطعانه نحو المرتفعات.. ومن ثم تبعه أبناؤه بعد حين .. وقد تحولت حيلته إلى لعنة.. مات كل أبنائه عدا أكبرهم.. وهكذا ظلت سلالته قائمة على الذكر الواحد.
الحكاية الأخيرة تقول: إنه قدم من شرق البحر المتوسط في القرن الثاني لميلاد يسوع المسيح.. هارباً من الاضطهاد الديني هناك.. التقاه التبع أسعد الكامل في شمال يثرب..وكان عالما بأصول الكهانة.. استحسن التبع ضمه إلى كهنته.. ثم رحل به جنوباً حتى عاصمته .. ليتدرج في مراتب الكهانة حتى وسمه أسعد الكامل بكبير الكهنة.. ويقال إنه مَن أعد قواعدّ محاكمة كل من كان على غير اليهودية.. وكان (أخدود نجران) ومحرقة من تمسكوا بتعاليم يسوع المسطر في الكتب السماوية من أفكاره.... ولهذا حلت لعنة الذكر الواحد على ذريته حتى اليوم.. فالسلف الأول جاء بولد واحد .. وهكذا الذي يليه.. لتستمر ذريتنا مهددة بالزوال.. وسط محيط تحكمه القوة والعنف.
وقد تنبأ أحد السالكين بزوال تلك اللعنة.. إذا جُمِعت الكُتب السماوية في حروفها الأولى.. أخذ أجدادك بالبحث في خزائن صنعاء لجمعها في مصحف واحد.. قرون من البحث.. أستمر الأجداد خلفاً بعد سلف.. حتى جمعت الكتب.. مع شيء من مبادئ الصابئة والبوذية من أسواق صنعاء.. وتقول النبوءة: "ستزول تلك اللعنة في الجيل السابع والسبعين" ولهذا يحمل جدك المصحف الثلاثي أينما ذهب.. فالجزء الأقدم منه التوراة.. وبدايته تعود إلى الجد الأول والذي توارثهُ أحفاده منذ مئات السنين.. والجزء الثاني للإنجيل بالحروف السريانية..
ثم الفرقان بحروف غير منقوطة.. تتكون أوراقه من جلد الماعز الجبلي.
صمتُ أنظر وقع حكاياتي على نفسك.. كمن خالطك سحر.. قلت وأنت تفكر:
- حكايات شيقة.. لم يحدثني أحد بها..لكني موجودا وكفى.. ولن تغير تلك الحكايات ما أنا عليه.
أجبتك مشفقة:
- ستدرك يوما أهمية أن يكون للفرد حكايته الخاصة.. حين تبحث عن ذاتك.. الإنسان بحاجة إلى ما يميزه.. حينها سيتحرك شيء ما بداخلك لتحكي.
- سأتخيل أن ذلك قد حدث.. فأي حكاية أنتسب إليها؟
- أن تكون ما تنوي على فعله.
- ما الحكمة من أن أنتسب أو لا أنتسب؟
- ستعلمك الأيام .. وستدرك أن الإنسان يظل جاهلا لذاته.. وعندها يبحث عما يلبي غروره.
- كيف؟
- كل فرد يظل يؤمن بصفة الاختلاف والتميز..ولهذا تختلف أقدارنا عن أقدار سوانا .
- سأنتظر الغد.
- نحن جميعاٌ رهن الغد.. محكومون بانتظاره.
وصلنا الشارع الأمامي للمطار..واجهات معدنية. مواقف انتظار السيارات شبيهة ببئر عميق .. حركة رتيبة .. أزيز.. زوايا معتمة.. ملامح وسِحَن مختلفة.. جنود.. جدران زجاجية.. صالة يملؤها الضجيج.. ألوان وروائح جديدة.. عابرون في كل اتجاه. أبحث عن مقعد لخفقان قلبي.. في وجوه الحاضرين..أحدث نفسي: "لقد وعدني" .. لم يتمالك قلبي حين بدأت إجراءات وزن أمتعتك.. أتابع تحركاتك..عُدت إليَّ مستأذناً:
- لا أحد في وداعي غيرك..أين من قلتِ إنه سينتظرنا؟
- حتما هو بين الزحام.
أحسستُ فجأة بدنو لحظات الفراق..أرتفع نبض قلبي.. احتضنتني مواسياً:
- لن أكمل إجراءات سفري إذا طلبتِ مني ذلك!
- سأكون بخير.. هي فقط مشاعر اللحظة..اطمئن سأكون بخير.
لمحت (تبعة) هناك حين التفتُ أبحث عنه.. لقد صدق: ملابسه بلون البُن ..نظارة تغطي نصف وجهه..نهضتُ ملوحة..أشرتُ عليك:
- أنظر من أخبرتك أنه سيأتي لوداعك!
التفتُ أنت وقد اقترب نحونا بخطوات مرتبكة .. رجل أقترب من الأربعين.. بوجه صغير.. ضامر الجسد.. انحسر شعر رأسه.. تهتز قامته بشيء من الإعاقة.. لف جذعه بفوطة فضفاضة.. اعتصرت أنت ذاكرتك.. يبدو لك وجهه مألوفاً..أيقنتُ أن ذاكرتك خانتك.. مشاعر الإحراج تجتاحك فيما هو يقترب .. مد كفه مصافحاً..علت وجهي ابتسامة.. التفت أحتضنك وأنا أحدثه:
- هذا هو حنظلة ابنك!!
وقف يتأملك ..فارداً ذراعيه مبتسما!!
- حنظلة.. ابني العزيز.. لقد أصبحت رجلاً!
بادلته بأحضان فاترة..تحدث نفسك.. أيعقل أن يكون هذا أبي؟ تبحث في تلابيب ذاكرتك.. في حكاياتي.. جدك.. زوجة جدك.. نساء القرية حين يتحدثن عنه..أمطرك بكلمات الثناء .. تراجعت أنت إلى الخلف وابتسامة مصطنعة على ملامحك.. أنكرت أن يكون ذلك الرجل هو( تبعة..) همست في أذني: "أين ما رسمتِهِ يا أمي" تتأمله من جديد..بقايا إنسان.
جلسنا على مقعد جانبي.. تسترق إليه نظرات عجلى.. أزال تبعة نظارته.. عينان غائرتان....ملامح مشوشة.. تبحث أنت عن ذلك الفارس الذي تختزنه ذاكرتك.. فرد ذراعيه مرة أخرى.. احتضنك.. أجلسني جوارك..
وقف خطيبا.. بحركات مسرحية يحرك يديه:
- ابني العزيز .. يا من سميتك حنظلة .. زوجتي الغالية (سمبرية) .. حبيبتي .. فاتنتي ..
اليوم أقف بين أيديكم لأعتذر.
توقف عن الحديث.. لحظ الجموع تحاصرنا في صالة الانتظار..واصل موجها حديثه اليهم: أيها الناس أشهدكم .. هذا هو ابني الوحيد.. وهذه هي زوجتي.. إني أعتذر لهم عن تقصيري.. أتصدقون؟ لن تصدقوا إذا قلت لكم :أني أقابل ابني لأول مرة ..أنا لا أعرفه.. وهو لم يرني منذ مولده.. لكن أرجوكم انظروا.. أليست ملامحه هي ملامحي..؟ أنا مناضل كبير.. لم أتخلَ خوفاً أو جبناً.. بل كنت أحاول أن أرسم حلمي..حلم اليمن الواحد.. الموحد بالحرية والعدالة.. أنا مقاتل وحبيبتي سمبرية تعرف ذلك .. مناضل مخلص لوطني..ولهذا لم أرَ ابني.. الأن لا أزال مطارداً .. مهدداً بالقتل في أي لحظة..!! هذه إصابات جسدي.
أخذ يخلع ملابسه وهو يتحدث.. يشير إلى مواطن الإصابات.. وقفت محاولا مساعدته.. قال أحدهم:
- عجوز مخمور.
شعرت بطعنة في قلبي..قُلتَ أنت لتبعة مواسياً:
- عفوا.. نحن بين الناس؟
- ألم تخبرك أمك؟
التفتَّ إلي.. إلى عيون من حولنا .. دوائر الخجل والحيرة تحاصرك:
- أماااه؟ بقدر سعادتي لحضوره حزني على ما هو فيه.
رددتُ عليك مرتبكة.
- إنهُ والدك!!
حركت كلماتي إحساسك .. حاولت تهدئتك..لاحظت أن تبعة غير متماسك في خطواته..
همست لك:
- كثيرا ما سألتني بشوق عنه.. وكثيرا ما حدثتك..اليوم جاء لوداعك.. عليك أن تعذره..
لم أكن أعلم أن حالته بهذا السوء!!
لاحظ تبعة همسنا.. صرخ :
- يبدو أنني أخطأت المجيء!
ثم رفع صوته أكثر موجها حديثه لمن في الصالة :
- أعترف أن مخاطرتي بالمجيء كانت في غير مكانها.. اشهدوا أيها الجمع أنني أعترف بخطئي!!
2
سمبرية

"2" ابني الغالي حنظلة
غامت الأضواء أمام عينَّي.. تداخلت الألوان.. الروائح.. إحساس مشوش.. سقطت بين يدي تبعة..
جاهد في إفاقتي.. نطقت بجمل غير مرتبة.. نظرات البعض تضايقني.. حدثته:
- الله يخبو بداخلي من جديد.. كنت مخطئة حين رجوتك بالمجيء لوداعه .. أراك تبتسم كالأبله..
لا كمن يفارق ابنه.. أنت لست تبعة..!
اعترف..!!
- فضحتينا .. لست أول من تفارق إلِفها.
- أنت من فضَحتَنا.. أنا من ظللت طوال تلك السنين أرسم لك صورة فارس.. ثم تأتينا اليوم مخمورًا تترنح!!
- توقعت أن تستقبليني بالأحضان بعد كل هذه السنوات!
- لقد حاولت.. لكنك لم تعطني فرصة .. أريد أن يتعرف عليك ابنك.. وأنت فاقد التوازن!!
- أعتذر لك!
- تعتذر لي.. ومن يعتذر له؟
- أنتِ من تستحقين الاعتذار .. هيا انهضي.
بدأت أستجمع قواي.. عيني تبحث في محيطها عنك.. ملامح صالة المغادرين.. لا أحد يشبهك.. أحدق فيما حولي: فواصل زجاجية.. أضواء.. أسقف لامعة..مقاعد.. أقدام.. سيقان.. قامات مختلفة.. مؤخرات.. وجوه.. لوحات إعلانية.. مكبرات صوت.. زحام.. وجوه غير مألوفة.. لف ذراعه يستنهضني.. أنعشتني رائحة جسده.. لأول مرة أسير بين الناس ملتصقة برجل.. كما لو أني لم أعد أنا.. لم يعد يهمني شيء..عند بوابة الخروج همست ارجوه:
- لا أريد مغادرة الصالة.. علينا الانتظار .. قد يعود فلا يجدني !
- هو الآن في الفضاء .
- أخاف انه لا يزال بالداخل!
كنت أحدثه بصوت لم يعد صوتي.. أنظر الشوارع.. لم تعد كما كانت قبل رحيلك.. رجوت تبعة:
- نبقى قليلاً؟
- سنجول معاً في شوارع صنعاء قبل أن أودعك!
- أين ستذهب؟
- إلى مكان آمن لدى أحد الرفاق!!
إحساس بالضياع غلف مشاعري.. توغلت لذة الدموع في أعماقي.. أستقلينا سيارة أجرة.. قلت له:
- قال لي حنظلة: إن الرحلة لن تتجاوز الثلاث ساعات .. وبعدها سيكون في بغداد.
- صحيح.
- إذن ستكون معي في البيت لنسمع صوته معاً.
- لا يمكن المخاطرة.. البيت مراقب.. ينتظرون وصولي منذ سنين!!
- إذن خذني معك .. لا تتركني!
- أين؟
- أينما تريد .. المهم أكون معك.
نظر بعينين ذابلتين..ثم خرج صوته حزيناً:
- طوال الطريق من عدن وأنا أخشى هذا الموقف.
- المكان الآمن هو البيت.. هيا ؟
- تنتظرني فوهات بنادقهم.. يمكننا أن نكون معاً في أحد الفنادق الصغيرة!!
- سيرتفع جرس هاتف بيتنا ولا يرد عليه أحد .. لماذا تجعلني بعيداً عن صوت ابني؟
أود أن أسمع صوته .. وعندها أنا على يقين من أني سأشفى من كمدي هذا.
- ستكونين غداً في بيتك وستسمعين صوته .
- وأنت؟
- سأختفي.. كُتب عليَّ التشرد أو الموت.


نقلاً عن موقع "جدارية"