تمثال نفرتيتي بالمنيا |
يبدو
أن التدني الذي ضرب مصر سلوكاً وذوقاً قد طال كل شيء، سنوات طويلة ساعدت على
انحدار الذوق المصري العام، نلحظ ذلك في نوعيات الطعام وشكل الملابس وألوانها،
والسلوك اليومي في الشارع والمقهى والبيت. هذه الرِدة الحضارية التي تعيشها مصر
تجلت أخيراً وبالتزامن في النصب التذكارية والتماثيل التي توضع بالميادين الشهيرة،
وإن كان الأمر يدعو إلى سخرية من هذه الأعمال المشوهة، إلا أن النظرة الأعمق تدعو
إلى الرثاء والإحساس بمدى الخيبة التي نحياها. لا نريد عقد المقارنات وزمن بعيد
لحضارة نجحت في تجسيد رؤيتها من خلال أعمالاً فنية ــ وإن كانت دينية وقتها ــ من
تشييد معابد وتماثيل ومقابر، ولكن المقارنة من الممكن عقدها بين أعمال مرحلة
التحديث المصرية، والتي توّجت بأعمال محمود مختار في بدايات القرن الفائت، والتي
توالت بعد ذلك ــ فن النحت خاصة ــ متأثرة بأفكار إيديولوجية، فترة انقلاب يوليو
1952، لتظهر أعمال العديد من رواد النحت المصري، يحدوهم الأمل وحُسن النوايا، وحتى
ذلك التوقيت كانت الروح المصري لم تزل قائمة وإن كانت تضربها الروح القومي، وفكرة
المد العربي المزعوم.
تمثال أم البطل بمحافظة سوهاج |
الرّدة
ما أثار السخرية على صفحات
الفيسبوك من الأعمال المشوّهة التي انتصبت في ميادين محافظات مصر المختلفة لم كن
وليد المُصادفة، لكنه نتاج أول مَن سافر للعمل في دول الخليج وأتى وقد أطلق اللحية
وارتدى الجلباب، حاملاً جهاز كاسيت في يده ويرطن بلهجة الريالات والدينارات ــ لم
يكن للمتأسلمين هذا القدر من التأثير بين العامة ــ وبدأ أصوات غريبة تصم آذاننا
بقراءة القرآن، وكأن المقرئين المصريين أصبحوا لا يستطيعون التعبير عن هذه
المرحلة، الأمر ليس بعيداً عن تصورات ومعتقدات أخرى تضخمت في وعي هؤلاء، ونجحوا بمباركة
الدولة ونظامها السياسي التابع إلى انتشارها، فكلمة الفرعون أصبحت معادلاً للكُفر
والضلال ــ صورة الفرعون في التوراة، والتي تمت كتابتها في ظل الثأر من المصريين
هي الصورة نفسها التي نقلها الإسلام في كتابه المقدس ــ وبالتالي أصبح النظر إلى
تماثيل مصر القديمة بأنه شِرك عظيم، ولولا أن الدولة تسترزق من خلال هذه التماثيل
والبنايات في ما يُعرف بالسياحة، لهدمتها من زمن. دخل الفن المصري في نطاق
المُحرّم، وامتد التحريم الديني ــ منحول المصدر ــ تحريماً اجتماعياً، العديد من
أقسام كليات الفنون مؤخراً عانت الكثير من المشكلات، لتحريم رسم ونحت
المرأة/الموديل.
عماء الدولة وأجهزتها
وبما أن العقل الجمعي في
لاوعيه يُقر بمسألة التحريم، وينتظر النعيم المزعوم، فالساسة بدورهم ــ وهم جزء من
هذا الوعي ــ ينظرون إلى الأمر بالطريقة نفسها، بل وصل الأمر غلى الفنانين أنفسهم،
سواء المعروفين أو المجهولين الذن قاموا بتصميم التماثيل الأخيرة. فمنهم مَن يعمل
بهيئة التدريس ومنهم مَن يعتبر نفسه مَثالاً. يبدو ذلك في عمليات إنشاء أو ترميم
وتجديد التماثيل والنصب التذكارية مؤخراً، وهو ما قامت به إدارة المحليات
بالمحافظات المصرية، بإعادة طلاء التماثيل، كما فعلت في تمثالي محمد عبد الوهاب
بميدان باب الشعرية، وأم كلثوم بالزمالك، وكل منهما للفنان "طارق
الكومي". ولكن قبل التشويه وما شابه، هل هذه تماثيل تليق بهؤلاء بالفعل، من
حيث النِسب والتصميم! ويبدو أن طارق الكومي يعمل وكأنه متخصص أو متعهد تماثيل
الميادين، ومؤخراً قام بعمل تمثال بعنوان (أم الدنيا) بمحافظة السويس، والذى تم
وضعه فى مدخل المدينة، وأثار غضب المواطنين، واعتبره البعض أنه لا يليق بطبيعة
المحافظة بجانب التصميم السيئ. ليأتي رد الفنان بأنه كان مطلوباً الانتهاء منه فى
وقت قصير، ليكون جاهزاً أثناء الاحتفال بافتتاح قناة السويس الجديدة. وهذه آفة
الفنان الذي يصبح موظفاً لدى الدولة ومشروعاتها. ولنتذكر تمثال نهضة مصر الذي أصر
محمود مختار أن يكون من أموال المصريين، فاشتركوا جميعاً في تكلفته عن طريق
الاكتتاب، مفارقة الوعي هذه هي ما تجسد المأساة الآن.
عروس البحر بمحافظة البحر الأحمر |
المناخ العام
وفي
ظل هذا المناخ المتدني في كافة المجالات، وأهمها السياسي والاقتصادي، تتوالى
الإبداعات، كتمثال بعنوان (حارس التاريخ) بمحافظة السويس أيضاً ــ يبدو أن لعنة
القناة الجديدة أصابت المحافظة ــ والذي قام بتصميمه "د. سعيد بدر"
الأستاذ بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، وهو تمثال طوله 10 أمتار، ويرمز
كما أوضح الفنان الأكاديمي صانع التمثال إلى وجود رجل شامخ يقف حارساً قناة السويس
التى تشهد على التاريخ والإنسانية كلها، وبالتالي أصبح التمثال يشهد بدوره على ما
وصلنا إليه من ذوق فني رفيع.
تمثال آخر جاء في شكل الفضيحة
المباشرة، وهو عبارة عن جندي يحتضن سيدة من الخلف ــ لم يكتمل التمثال وتمت إزالته
ــ التمثال يحمل اسم (أم البطل) بمحافظة سوهاج جنوب مصر. وبعد السخرية المريرة
منه، وما يرمز إليه من الجندي الذي يحمي السيدة، التي هي مصر، ويبدو أنه يتحرش بها
أكثر من كونه يتظاهر بحمايتها، جاءت العديد من التعليقات، كان أكثرها تهذيباً أنه
محاولة لعمل لقطة من فيلم "تيتانك". والعديد من الأعمال الأخرى كتمثال
أحمد عرابي ورفاعة الطهطاوي وهدى شعراوي، الذي يُشبه تمثالاً لوجه مبارك المخلوع،
ويبدو أنهم أرادوا الاستفادة منه، فألبسوه غطاء رأس ووضعوا اسم "هدى
شعراوي" أسفله. والتمثال المشوّه ليوسف شاهين بالأسكندرية، الذي لولا كتابة
اسمه لا يمكن التعرّف على صاحبه.
وما بين الجندي المغوار
وراقصة الملهى المعنون بـ "عروس البحر" وهو تمثال وضع بمدينة الغردقة
بمحافظة البحر الأحمر، وتمثال العقاد بمحافظة أسوان، الذي بعد تجديده أصبح يُشبه
أحد شخصيات الزومبي، الأمر يبدأ من تصميمه المعيب بشدة وليس التجديد أو الترميم،
وكذلك تمثال نفرتيتي بمحافظة المنيا، الذي توالت التعليقات بأن مَن قام به بالكاد
عامل من عُمال المحارة/عامل بناء ــ يبدو أنه لا فارق بين عامل المحارة وأستاذ
الجامعة ــ وصولاً إلى نُصب غريب بمحافظة بورسعيد، أطلق الناس عليه اسم
"الببرونة" تتوالى الكوارث، والتي لن تتوقف في القريب.
فردود الفعل على شبكات
التواصل الاجتماعي وأهمها الفيسبوك هي ما أدت للتخلص من فضيحة الجندي والمرأة على
قارعة الطريق، أما الجهات المتخصصة كنقابة التشكيليين، وجهاز التنسيق الحضاري،
الذي لا نعرف ماذا يفعل بالضبط، وأخيراً المجلس الأعلى للثقافة. هيئات ونقابات
ومجالس تُعقد ومجالس تُفض، والتشويه على قدم وساق، فلن تسمع لها رِكزا. تمثال عباس محمود العقاد بأسوان |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق