إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، نوفمبر 10، 2017

"الإيمان والقوة .. الدين والسياسة في الشرق الأوسط" ... الخطر الإسلامي ومحاولات تجاوزه




"إن القاعدة فى الولايات المتحدة هى استخدام المال للوصول إلى السلطة، أما فى الشرق الأوسط فإن القاعدة هى استخدام السلطة للوصول الى المال". برنارد لويس. لا تزال مؤلفات برنارد لويس (1916 ــ     ) تثير الكثير من الجدل، خاصة في العالم العربي، وهو المختص بقضاياه وتكوينه الاجتماعي والسياسي والديني. ولا نجد من ردود الفعل تجاه أفكار الرجل إلا وتتسم إما بالرفض الشديد أو التأييد، رغم منطقية الأفكار وترتيبها داخل سياق يرتضيه لويس نفسه، ويستحرج منه النتائج التي تضعها السياسة الأمريكية نصب أعينها، واعتمادها كتابات الرجل وأفكاره في تأصيل وجهة نظرها للشرق الأوسط أو العالم الإسلامي بمعنى أدق. هذه الأفكار التي تتأكد من خلال مؤلفه المعنون بـ "الإيمان والقوة .. الدين والسياسة في الشرق الأوسط"، الذي صدر بالإنجليزية في العام 2010، وترجمه مؤخراً للعربية أشرف كيلاني، والصادر عن المركز القومي بالقاهرة ودار الكتاب العربي في 240 صفحة. وسنحاول استعراض بعض ما جاء من أفكار في هذا الكتاب الهام، والذي كان من المفترض ترجمته للعربية منذ صدوره.

الإسلام والدولة

يشير برنارد لويس بداية إلى أن مفهوم الدولة تأسس من خلال نشأة الديانة المسيحية، حسب مقولة السيد المسيح بإعطاء "مال قيصر لقيصر ومال الله لله". هنا تبدو كل من السلطة المتمايزة عن الأخرى، والتلازم المزمن بينهما، سواء في حالة صراع أو جوار. أما في الإسلام فلم يكن هذا المبدأ له معنى بالأساس، فالتواجد بين المؤسستين حديثاً أصبح من الصعوبة الفصل بينهما، رغم مظاهر هذا الفصل، فالواقع والممارسات الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية لا توحي بالتفريق بين الدين والدولة. ويعقد لويس مقارنته ما بين الإسلام والمسيحية، فقد أسس رسول الإسلام الدولة خلال حياته، وفعل ما يفعله رجال الدولة، فقاد الجيوش وشن الحرب، وعقد المعاهدات وجمع الضرائب/الصدقات، وأقام العدل وهكذا، بينما في حالة المسيحية .. فالذاكرة تحوي قروناً من الاضطهاد والاستشهاد، إنتهاء بالاستيلاء على الدولة، فالذكريات الإسلامية تحوي تطابقاً تاماً بين الإيمان والقوة خلال حياة المؤسس. ورغم المؤثرات الخارجية لتغيير هذا المفهوم، إلا أنه تم مواجهتها من تشكيك في مصداقيها وإضعافها، وأصبحت هذه الأفكار لا يقول بها سوى نخبة صغيرة مغتربة في هذه المتجتمعات، وبذلك وفي حالة رد الفعل كان لابد من العودة إلى المفاهيم الأقدم والأعمق جذوراً.

الآثمون

ويرى برنارد لويس أن التعاليم الإسلامية تحرّم فعل الانتحار، وبالتالي لا يجب الربط ما بين الإسلام والعمليات الانتحارية الإرهابية، والقائمون بهذه العمليات لا يفسرون دينهم تفسيراً صحيحاً، فحالة الاستشهاد ونيل الشهادة يتحقق في حالة الدفاع عن النفس والأرض، دون حالات الهجوم على الغير ــ هنا تتفاوت نظرة لويس ولا يذكر الحقائق كاملة حتى يتفرغ لما هو أهم ولمواصلة فكره حتى نهايتها، فحالات الهجوم و(الغزو) في الإسلام، أو ما اصطلح على تسميته بـ (الفتح) لم يكن بدافع اتقاء الخطر، ولكن ضمن مفهوم دار الإسلام ودار الحرب، إضافة إلى الظرف التاريخي وقوة الوجود الإسلامي وقتها، ككيان ديني ــ ويلفت برنارد إلى طبيعة الجهاد الإسلامي ــ وقت الغزوات ــ حيث تتوافق مبادئ الشريعة وقواعدها وقوانين الحروب، من حيث معاملة المدنيين التي يجب الالتزام بها، كتحريم تعذيب الأسرى وعدم الإساءة إلى النساء والشيوخ والأطفال. لكن أيضاً التجارب المتواترة لتلك الغزوات تنفي إلى حد كبير مقولات لويس البراقة في ظاهرها.

استهداف الحضارة الغربية

وبداية من التوسع الإسلامي، فإن سياسات الغزو لم تتوقف شرقاً وغرباً، لبنان وسوريا والأردن وفلسطين حتى مصر، مروراً ببلاد المغرب الموسومة بالنغرب العربي في ما بعد،وانتهاء بفرض سيطرتهم على إسبانيا، حتى نجاح الغرب المسيحي بعد عدة قرون في إزاحة الغزو العربي واسترداد هذه المنطقة من أوروبا ــ يبدو مدى الفصام العربي هنا في التباكي على ما يسمونه الحضارة العربية، وهو ما يعرف في الأدبيات السياسية والروائية بضياع غرناطة، وانحسار المد الإسلامي! ــ ثم نأتي إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وظهور الدولة العثمانية إسلامية الديانة، وممثلة الإسلام وقتها، عندما حاصرت فيينا، ونجح الغرب المسيحي أيضاً في ردهم. وفي الحالتين السابقتين كانت هناك مظاهر للقوة وظروف تاريخية واجتماعية أدت إلى محاولات اتساع الجغرافية ذات الطابع الإسلامي، ولكن ماذا عن مرحلة الضعف؟

اليائسون

مأزق الجيل الجديد من الإسلاميين يتجلى في المفارقة بين ما كان وما هو كائن، بين مجد غابر لا يستطيعون تصديق عدم عودته، ولا يريدون الاعتراف بعلمية التعاقب الحضاري وأطوار التاريخ، لذا كان اللجوء إلى محاولات اليأس، الي يراها لويس في موجات الهجرات من البلاد الإسلامية إلى أوروبا، ويطلق عليها (الهجمة الثالثة)، هذا الانتقال ليس تسليماً بالارتحال من جغرافيا إلى أخرى، فلم يستطع المسلمون تحقيه بالحرب والغزو، يسعون إليه اليوم من خلال هجراتهم الجماعية، والتي أسفرت عن خلخلة خطيرة، ديموغرافية وسياسية ودينية في المجتمعات الأوروبية التي حلّوا فيها.

ديمقراطيات متباينة

ينتقل برنارد لويس إلى مناقشة فكرة الديمقراطية ومفهومها في العالم العربي، وهل تتوافق مع تعاليم الدين الإسلامي أم لا. فينفي عن تلك الدولة التي نشأت في كنف الدين مبدأ الطبقية، ومُسمى السلطات الزمنية. فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولكن يظل دوماً الفارق ما بين التعاليم والنصوص وما بين الوقائع، فبداية من الخليفة وأمير المؤمنين وصولاً إلى جلالة الملك والأمير والسيد الرئيس، لم تغير الأمر إلا بتغير المُسميات فقط، وما شهده التاريخ من حالات تحققت العدالة والمساواة خلالها، تبدو قاصرة على طبيعة الشخصيات الحاكمة، دون أدنى استناد إلى فكرة أو قواعد قانونية أو أعراف تنتظم من خلالها طريقة عمل وأداء السلطة الحاكمة. ويذكر لويس مفهومه لطبيعة نظم المنطقة السياسية، ويصفها بأنها "الديكتاتوريات الشرق أوسطية"، التي تحتاج دوماً إلى الحروب من أجل تبرير وجودها واستمرارها. لكن المؤلف لا يذكر كيفية نشوء وتعاظم دور هذه الديكتاتوريات وقمعها لشعوبها، وكيف ساعد الغرب هذه الأنظمة، يؤمن لويس بديمقراطيات الغرب وضرورة مساعدة هذه الدول الموبوءة حتى تتنفس نسائم الديمقراطية، وإلا لن ينجو الغرب من تبعات هذا القمع الشرقي.

صراط المحاولات

وفي الأخير يبدو التساؤل المنطقي في إمكانية تحرير هذه الشعوب، وهل من الممكن نقل الحرية الغربية إليها؟ ورغم اعتراف برنارد لويس بالوضع الشائك والمضطرب الآن، لأن هذه الحرية المستوردة محفوفة بمخاطر عدة، فهنام الشعور المتأصل بمعاداة الغرب، لأنه المؤيد للنظم الديكتاتورية الشرقية، ويرى المفارقة في تأييد الشعوب لأمريكا في حال معاداة نظامها السياسي، وإيران المثال المتوفر بالطبع. فالحل وإن كان صعباً ويستغرق وقتاً طويلاً هو الاستمرار والمساعدة في تطوير المؤسسات الحرة، رغم القوى الداخلية التي تعمل بكل طاقتها ضد هذه المؤسسات، فالمحاولة صعبة ــ حسب رأيه ــ ونتيجتها غير مؤكدة، ويختتم بعبارته الدالة .. "إما أن نأتي إليهم بالحرية أو أن يدمرونا".


برنارد لويس


الكتاب: الإيمان والقوة .. الدين والسياسة في الشرق الأوسط
المؤلف: برنارد لويس
ترجمة: أشرف كيلاني
الناشر: المركز القومي للترجمة ودار الكتاب العربي 2017.


*نشر بالقدس العربي في 14 مايو 2017.

الخميس، نوفمبر 09، 2017

Ajami … ما بين جحيم الأعراف العربية والشعب المختار




 بعيداً عن الشعارات الطنانة، والتنديد بمساوئ الاحتلال، ومشاهد الفضائيات ومانشتات الصحف، تأتي الواقائع لتصبح أشد قسوة من معالجات فنية مباشرة، حاولت تجسيد ما يدور في الأرض المحتلة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بـ عرب 1948، والنظرة المشكوك بها على الدوام من قِبل العرب والإسرائيليين إلى هؤلاء، فالعرب وباقي الفلسطينيين يضعونهم في مصاف الخونة، بينما إسرائيل تريدهم أن يرتلوا تراتيل الولاء، بل والإيمان بالدولة العبرية، حتى في مشاحناتهم اليومية بينهم، تبدو تهمة الخيانة هي الأسرع والأكثر شيوعاً على ألسنتهم! فما بين ثقل العادات والتاريخ، وعبء الوضع المختل للكيان الإسرائيلي يشعر الجميع بالمأساة، التي لا يستطيع أحد النجاة من تبعاتها، سواء من الفلسطينيين أو الإسرائيليين، فالجميع منسيون فوق هذه الأرض، وكأن قوى خفيّة تصوغ خطوط حيواتهم، وتتلذذ ساخرة بمشاهدة ألعابهم الطفولية الساذجة. فهم ضحايا على رغم مظاهر القوة المزعومة، وما بعض انتصاراتهم الوهمية سوى لحظة وسَن، يستفيقون منها وقد استهلكوا أعمارهم وحياتهم، بعدما تأكدوا أنهم الخاسرون في النهاية.

وعلى غرار فيلم "مدينة الله" لـ Fernando Meirelles، يأتي فيلم "عجمي" ليستعرض في أسلوب يقترب من التوثيق الحياة في أحد أحياء يافا، والذي يحمل الفيلم اسمه. فالحكايات والشخصيات تمثل أنماطاً ونماذج مختلفة لكل مَن يعيشون داخل هذا الحي، إضافة إلى الوقائع الاجتماعية والصراعات الناتجة عن محاولات العيش والتعايش المستميتة بين ثلاث ديانات وأعراف قبليّة وإيديولوجيات تتحكم في سلوكهم، الذين يحاولون بشتى الطرق الانفلات منه، لكنه في النهاية مصير محتوم، لا يمكن الهرب منه أو حتى التفكير في تجاوزه، رغم المظاهر الهشة لشكل الحياة المشتركة. الفيلم إنتاج كل من إسرائيل وألمانيا، أداء .. فؤاد حبش، نسرين ريحان، إلياس صابا، يوسف صحواني، إسكندر قبطي، رنين كريم، عيران نعيم. سيناريو وإخراج إسكندر قبطي/يارون شاني.

ضحايا خائبون

تبدو لعبة الضحية التي يتمثلها الطرفان ويتقاسماها في الوقت نفسه ذات وجهين .. أولهما يتمثل في ما أورثه تاريخ الشعب اليهودي للعرب، وقد تبادلا الأدوار الآن، وما زال البعض منهم ــ اليهود ــ يصر عليها، بعدما أصبحت من مكونات شخصيته، رغم كل ما تم إنجازه ــ من وجهة نظرهم ــ وقد أصبحت لهم دولة اسمها إسرائيل، التي يتعلل قادتها لمواطنيهم دوماً أنهم لا زالوا يعيشون هذا الدور، ولا بد من تقديم المزيد من التضحيات! والوجه الآخر يتمثل في التقاليد العربية، التي تصبح أشد قسوة من سياسات جيش الاحتلال، التقاليد التي لم تُقْدِم إسرائيل ولن، لا نقول على التخلص أو الحد منها، بل حتى تهذيبها، ليمارس العرب بداوتهم، ونظرة الارتياب في الآخر، حتى لو كان هذا الآخر من جيرته، لكنه ينتمي لعائلة أخرى، كتقاليد الثأر والدِيّة، وهي محاولة توفيقية باهتة ما بين العقل القَبَلي والحل الديني الشرائعي! ذلك كله يحيطه الإطار الأهم، والذي جعلنا نتذكّر سريعاً البيئة التي تدور بها أحداث فيلم "مدينة الله"، هو الوضع الاقتصادي المُتردي، وغياب القانون تماماً، إلا حسب هوى سلطة الاحتلال. فالفيلم من الممكن أن يتم سرد أحداثه في أي مكان من دول العالم الثالث ــ الأمر الذي أزعج إسرائيل بما أنها ترى نفسها ليست في تخلف جيرانها ــ فالفقر والبطالة والجريمة والمخدرات هي أسس هذه المجتمعات، وقانون القوة والعادات القبلية هو الذي يحكمها، ويتحكم بمصائر أفرادها، ومن الطبيعي أن يتم استبدال شرطة المحتل في الفيلم، بجهاز بوليس قمعي في أي دولة عربية، وقتها لن نجد فارقاً يُذكر، وهو ما تؤكده حالة المعاناة الجماعية، التي تعيشها كل شخصيات فيلم "عجمي". فالجميع لديه أملاً في الهرب دون جدوى .. عمر من الثأر، حنا من بيئته، مالك من البوليس، وداندو من حياته الكئيبة.

بناء ملحمي وسرد حداثي

ينسج الفيلم محاوره السردية من خلال ثلاثة شخصيات رئيسية (عمر/حنا/داندو)، تتزامن حكاياتهم وتتداخل مع الصراعات الصغيرة التي تجسد طبيعة الحياة فوق هذه البقعة المشتعلة من الأرض، التي تنوء بأوبئة المجتمعات المنسية، من جرائم منظمة وتجارة مخدرات وبطالة، وفوق كل هذا قوى الاحتلال، التي تحاول السيطرة حسب مشئيتها وتحقيق العدالة وفق هواها، تاركة النزاعات بين العرب وبعضهم، وبين العرب والإسرائيليين رهينة مصالحها العليا، بينما الجميع يعانون المعاناة نفسها، دون تبجيل رومانتيكي لطرف عن آخر. 



عمر

الذي يجد نفسه بالمصادفة هدفاً للقتل، نتيجة تورط أحد أقاربه بإطلاق النار على آخر، جعله قعيداً، فما كان من عائلته إلا تطبيق آفة الثأر المتأصلة في التكوين العربي، وقد أوقع عمر حظه العاثر بأن يصبح هو الضحية، وقربان العرف العربي. هذا القربان نفسه يتم التعامل معه من قِبل (إلياس) المسيحي والد الفتاة التي يحبها عمر، والذي لم يجد عمر في البداية مَن يُساعده على عقد الهدنة بينه وبين العائلة العربية المسلمة، سوى إلياس، المتسامح والمتمتع بسمعة وسطوة لا تتوافر لأحد بالحي. إلا أن تعاطفه مع عمر ينقلب إلى عداء شديد، بمجرد معرفته بعلاقة عمر وابنته، ويتحول الرجل المتسامح في لحظات إلى أحد المتشددين المتعصبين، طارحاً اختلاف الديانة عائقاً أمام قصة الحب، ثانياً لأن عمر ــ الآن ــ شبه محكوماً عليه بالموت، وما هي إلا مسألة وقت. فهو يرفض أية علاقة بينه وبين ابنته، بل ويتواطأ مع الشرطة للإيقاع بعمر، والتخلص منه نهائياً. التسامح نفسه الذي يجعل إلياس يأوي مسلماً آخر (مالك) ليعمل لديه دون إقامة شرعية، ويدبّر له نفقات علاج أمه المريضة، حتى أنه وابنته يتذكران جيداً عيد ميلاد مالك، الذي أتم السادسة عشر، ويقيمان له حفلاً صغيراً، وكأنهما بالفعل أسرته الحقيقية، وهو أصغر أفرادها. لينقلب إلياس أيضاً عند مواجهة موقف حقيقي يمسّه مباشرة، فلا تعود الحكمة هي التي تقوده، بل التعصب، حتى أنه يرسل مالك لمرافقة عمر، وهو يعلم أن فرصة نجاته شبه منعدمة.

حنا

يرتبط بصديقة إسرائيلية، ويحاول الفرار من الحي العتيق الذي ولد به، والانتقال للعيش مع صديقته في تل أبيب، ويلاقي التوبيخ من رفاقه، بأنه منذ زمن وهو يرفض حياتهم وبيئتهم، ويتعلق باليهود، وها هو الآن يريد ترك الحي تماماً والسعي خلف امرأة إسرائيلية. إلا أنه يتورط في تجارة المخدرات التي يقوم بها أخيه، فيصبح هدفاً للشرطة، التي تحاول السيطرة على هؤلاء التجار. فالحياة التي يحياها حنا، هي المثل والحلم بالنسبة لباقي شباب الحي، بداية من الملابس الغالية الثمن، إلى بيته الخاص، وحفلاته التي تجمعهم، وحالة الحريّة ونسيان الخوف والقلق الدائم الملازم لهم، كعمر والموت الذي يلاحقه، ومالك والموت الذي يلاحق أمه. حنا الوحيد الذي يوفر للجميع أوقات مسروقة من السعادة، وكأنهم في حلم لا يريدون مغادرته أبداً. ورغم ذلك يقع حنا بين لوم أصدقائه على ترك الحي ومصادقة فتاة يهودية، لا يمكن حُسبانها سوى من الأعداء، إضافة لاختلاف الديانة بينهما. أما على الجانب الآخر يحاول حنا التعلق بمجتمع وطريقة حياة صديقته، يرقص ويشرب ويتحدث العبرية، إلا أنه عندما يغضب أو ينفعل، لا يجد سوى العربية التي تخرج بها مفرداته أكثر صدقاً وقسوة، فيفشل في الانتساب إلى مجتمع هارب إليه، ليعود سيرته أمام نفسه، وكأن حالة التصالح أو الهرب، ما هي إلاّ حالة مصطنعة، تنكشف فور خروجه عن سيطرة عقله.

داندو

ضابط الشرطة الإسرائيلي بالحي نفسه، والمكلّف بتحقيق الأمن، والقبض على تجار المخدرات، الذين يفوق عددهم الحصر، إلا أنه يعاني أمراً آخر يرمي بظلاله على حياته وحياة أسرته، فأخيه المجند مفقود منذ زمن، وهو يحاول البحث عنه دون جدوى، فقط للتأكد بأنه مازال على قيد الحياة. يُلاحظ على الجميع أن الصراع النفسي بالأساس هو ما يحاولون الفكاك منه، أو مواجهته كل بطريقته .. عمر الذي يحب فتاة أقرب إلى الثراء، أو الاستقرار المادي إلى حد كبير، أصبح مُضطراً للعمل بالمخدرات، كما أن الموت ينتظره في النهاية، بينما حنا حائر بين بين هويته، التي تسبب له الكثير من المشكلات، وبين حياة أخرى يرغب العيش في ظلها، وأخيراً داندو .. الذي يحاول أن يتعامل بعقلية ضابط الشرطة المنضبط، وأن يكون هدفه هو تطبيق القانون، فلا يجد غير لوم الزملاء، الذين يصفون طريقته بأنها غير مجدية، ولكن فقده أخيه، جعله أكثر تشدداً، مما أدى به الأمر في النهاية إلى نسيانه القانون ومهنته، وأن يصبح قاتلاً.




مزحة ديمقراطية إسرائيل وتهافت العرب

كلمة أخيرة حول ما أثاره الفيلم من ردات فعل متباينة داخل إسرائيل وخارجها ..
بدايةً اعترض الكثير من العرب على الفيلم بحجتهم الواهية نفسها بأنه من إنتاج إسرائيل، التي لا يقتصر اعترافهم بها إلا جهراً. والبعض الآخر من العرب أثنى على الفيلم، بل وعُرض في العديد من المهرجانات العربية، رغم كونه إنتاج إسرائيلي، لكن السبب يعود إلى موقف "إسكندر قبطي" حينما أعلن عند وصول فيلمه للترشيحات النهائية للأوسكار وقتها، قائلاً "أنا لا أمثل دولة إسرائيل كما أن الدولة ذاتها لا تمثلني". وبينما عبارة (قبطي) ــ الذي عمل في بداياته مساعداً لعيران ريكليس ــ صالحته مع بعض العرب، نجدها فجّرت أزمة حادة داخل إسرائيل، التي لم تتوقع ديمقراطيتها هذا التصريح، فهاجمه العديد من نواب الكنيست، خاصة اليمين بمواقفه المعهودة ــ والتي تتشابه وجهل المتشددين المتأسلمين عندنا ــ حتى أن الأصوات تعالت باقتراح تعديلات على قوانين السينما الإسرائيلية، تتلخص في أن تتوقف الهيئات المعنية في الدولة العبرية عن منح أي عمل سينمائي التأييد والدعم، إلا بعد حصولها على تعهد مكتوب من مخرج الفيلم، والمؤلف والمنتجين والممثلين المشاركين فيه، بعدم المساس بالولاء لدولة إسرائيل، ورموزها اليهودية والديمقراطية. 



*نشر بالقدس العربي في 23 أبريل 2017.

الأربعاء، نوفمبر 08، 2017

"المرأة في مصر .. العقل النسوي في مواجهة المجتمع الذكوري"





تاريخ طويل من نضال النساء المصريات ومحاولاتهن لتحقيق قدراً من مساواة بينهن وبين الرجال، ورغم تباين الظروف الاجتماعية والسياسية إلا أن اللافت هو وجود بعض المشكلات والعوائق، التي لم يتم تجاوزها طيلة ما يزيد على القرن. حتى أن بعض مظاهر الحداثة وما بعدها التي ضربت المجتمع المصري وحاولت تغيير وجهته، لم ينل منها وضع المرأة إلا قشور فارغة أدت إلى ترسيخ الصورة الأسوأ، التي كانت سبباً للهجمة المتأسلمة في فرض المزيد من القيود الاجتماعية، دون نسيان مُساندة النظام السياسي لفكر هؤلاء. فماذا يعني كون المجتمع ذكورياً بالنسبة لقضايا النساء؟ كمحاولة للإحاطة بهذا السؤال تأتي بحوث/فصول الكتاب المعنون بـ "المرأة في مصر .. العقل النسوي في مواجهة المجتمع الذكوري"، لمؤلفه ماهر عبد العال الضبع، والصادر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.


العقل النسوي وسمات الأسرة

يبدأ المؤلف بالتساؤل حول كيفية تشكُل العقل النسوي، ذلك الذي ينشأ من خلال الأسرة وطبيعتها ــ الأسرة العربية والمصرية ــ حيث أهم سماتها الأبوية والهرمية المرتكزة على الجنس، فالأبوية هنا تعكس دونية النساء والصغار، فالأول هو المُنتِج والمالك، حتى لو عملت المرأة أو الفتاة في بعض الأعمال نفسها التي يوم بها الذكور ــ العمل في موسم جني القطن مثلاً في الريف، فالمقابل المادي للذكور ضعف ما تحصل عليه الفتاة ــ ومن خلال السلطة المطلقة للأب داخل الأسرة يتم تشكيل عقول الأبناء، فالذكر مصدر كسب للعائلة، بخلاف الأنثى التي تظل عبئاً حتى تلتحق بعائل آخر هو الزوج. هذه النظرة يُعاد إنتاجها يومياً من خلال ممارسات الأسرة الفعلية، وبالتالي تأتي التنشئة من خلال أفكار وأعراف مُسبقة يجب السير عليها والامتثال لقوانينها، تبدو هذه التفرقة في أبسط صورها كما في ألعاب الأطفال أو حواديت قبل النوم. فالعقل النسوي هو نتاج مركب اجتماعي نفسي ثقافي، ووفقاً له تشكلت رؤى وأفكار النساء في المجتمع، مقابل الرؤى والأفكار الذكورية، وهو ما يُشكل البنى الاجتماعية ويؤدي حتماً إلى طبيعة السلطة المسيطرة في المجتمع.

تهميش المرأة

وبخلاف العامل الاقتصادي السيئ عامة، إلا أنه الأسوأ بالنسبة إلى المرأة، ولكن الأهم هنا هو المنظور الثقافي بالمعنى الواسع لوجود المرأة، فكرة النظرة الاجتماعية للمرأة ووجودها، وهي فكرة تسعى بكل طاقتها إلى تهميش هذا الوجود، من حيث السلوك الاجتماعي الجمعي تجاه المرأة، والفقيرة بوجه خاص. ويبدو أن التعليم يساهم بنصيب كبير في ترسيخ هذه النظرة، حيث يحصر المرأة في أدوار محددة، وهو ما يكوّن عند الذكور والإناث فكرة عن المكانة المتدنية للمرأة، ويتضح ذلك في النسب المتفاوتة بين أمية الإناث والذكور. وبخلاف النصوص الدستورية التي تؤكد على المساواة وتكافؤ الفرص وعدم التمييز بين الرجال والنساء، إلا أن ممارسات الواقع تناقض ذلك تماماً، وما وجود امرأة أو أكثر في حزب سياسي ــ إذا انوجد من الأساس ــ إلا تجميلاً للصورة ليس أكثر. الأمر الأكثر غرابة أن العديد من النساء ــ القياديات الرسميات ــ يؤمن تماماً بأدوارهن المحدودة في الحياة، ويستندن في ذلك إلى التراث الديني ومقولاته الأغرب.

الفقيرات وأمنهن المفقود

بداية من خطة الإصلاح الاقتصادي وآلياته التي فرضها صندوق النقد الدولي على مصر، في العقود الثلاثة الأخيرة، ونظراً لمخاطر هذه الإصلاحات على العديد من الفئات الاجتماعية، حاولت الدولة وقتها اختلاق مجموعة من البرامج لعلاج آثار هذه السياسات، خاصة النساء الفقيرات. لكن هذه البرامج واجهت العديد من العراقيل الإدارية والبيروقراطية، اللهم كان النجاح فقط في الدعاية الحكومية المعهودة ــ مما زاد من تعرض الكثيرات إلى الإفقار، فلا توجد أمامهن فرصاً للتدريب من أجل العمل، وكذلك الأعراف الاجتماعية التي لم تسع الدولة إلى محاولة تقويمها. ورغم العديد من هذه البرامج ومسمياتها .. بنك ناصر، معاش السادات، الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية، إلا أنها لم تحقق ما جاءت من أجله، خاصة وأنها تتماس مع حالات تنحو من الفقر إلى الأشد فقراً، مثل .. الأرامل والمطلقات، زوجات المساجين، المهجورات، والمعوقات واليتيمات، وأية امرأة تتولى رعاية شؤونها وشؤون أسرتها مادياً وبمفردها، دون استنادها إلى وجود الرجل، فكل هذه المسميات من برامج التمويل المحدودة والوهمية في أغلبها ــ من حيث وصوله بالفعل إلى مَن تستحق ــ زاد من تفاقم الأزمة، ووقوع الكثيرات في شرك النساء الأكثر فقراً، بينما زادت الفجوة عموماً ما بين مجتمع رجال الأعمال والمستثمرين نتيجة هذه السياسات، وبين أغلب فئات المجتمع المصري رجالاً ونساءً، والأخيرات أكثر معاناة بالطبع.
وإن كانت هذه الدراسة تنصب بالأساس على الفترة السابقة، إلا أن الوضع الاتصادي والاجتماعي الآن في أكثر صوره بؤساً، وما تصريحات الصحف الموالية للنظام الحاكم إلا أوهاماً يتم تصدرها للناس، التي تعاني على أرض الواقع من السياسات الاقتصادية الحالية، فالرجال أصبح أكثرهم يهجر بيته ويرحل هرباً من وطأة الفقر، والبعض الآخر لا يجد سوى الانتحار سبيلا، لكن الصحف لم تزل تؤكد أن الجميع بخير فاطمئنوا.

.............
الكتاب: المرأة في مصر .. العقل النسوي في مواجهة المجتمع الذكوري
المؤلف: ماهر عبد العال الضبع
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة دراسات إنسانية، القاهرة 2017. 222  صفحة.


نشر بالقدس العربي في 7 سبتمبر 2017.


الفيلم الوثائقي .. إشكالات التعريف وأزمة النوع الفيلمي


التجربة الفنية دوماً ستظل أسبق من التنظير أو النقد، حتى وإن كان البعض منها يسترشد ويتوسل ببيان تنظيري يحمل فكراً معيناً. إلا أن هذه التجارب سرعان ما تثور على القالب الفكري/النظري، الذي دارت في فلكه بعض الوقت. فالعمل الفني والسينمائي ــ على الأخص ــ أولاً وأخيراً، يحاول إعادة إنتاج الواقع، بإضفاء معنى جمالي، يخضع لقدرة صانع الفيلم على الخيال، أي أن الهدف النهائي هو أن يخلق من هذا الواقع فناً. وفي ما يخص "الفيلم الوثائقي" كما تم الاصطلاح على تسميته، نجد أن المسارات النقدية السينمائية انهمكت في تشعبات مُربكة، كانت انعكاساً لظروف سياسية واجتماعية، وإيديولوجية في المقام الأول، حتى أن الفنانين الذين ساروا في دروبهم، قد ساعدوا بشكل أو بآخر على تفاقم المشكلة ــ بداية من التعريف، ووصولاً للتصنيفات ــ وزادوا الأمر تعقيداً.

وثائقي أم تسجيلي؟

بغض النظر عن معضلات تعريف الفيلم الوثائقي، نتطرّق سريعاً إلى مدى جديّة التفرقة بين لفظة "الوثائقي" و"التسجيلي". فالكلمة اللاتينية لكل من وثائقي أو تسجيلي واحدة Documentary ومصدرها كلمة Document أي "الوثيقة". فلم تثر الكلمة أي لَبس أو تشوّش في مدلولها في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، إلا أن هذا التمايُز جاء عند ترجمة المُصطلح إلى اللغة العربية، نظراً لاختلاف مفهوم المترجمين عن اللغة الأصلية، سواء الإنجليزية أو الفرنسية، كذلك كترجمة حَرفيّة، أو مُستخلصَة من سياق عام لمفهوم هذا الشكل الفيلمي. فالتفرقة جاءت نتيجة ترجمة المصطلح إلى العربية، والجهة التي اعتمدته، والمدرسة التي نقلت عنها. ففي مصر كانت كلمة "التسجيلي" هي التي استقرت، لأن أغلب الترجمات الأولى كانت عن الإنجليزية، بينما نجد الترجمات السورية واللبنانية قد استندت أكثر إلى الترجمة عن الفرنسية، فجاءت كلمة "الوثائقي". فلا يعدو الأمر سوى اختلافاً في صياغة المفردة المُترجَمة ليس أكثر.

التعريف وإشكالاته

لم يستقر تعريف الفيلم الوثائقي منذ بداية إطلاق المصطلح من قِبل "جون جريرسون (1898 –1972)  عام 1926، وحتى الآن. وإن اختلفت وجهة نظر كل تعريف تالٍ، سواء من حيث الموضوع، عناصر الفيلم الأساسية، السمات الشكلية، وحتى من قبيل كونه مُنتَج لا يسعى إلى الربح مقابل السينما التجارية. وكلها تعريفات تطورت في سياق اجتماعي واقتصادي، وتقني. إلا أنه وقبل ظهور مصطلح (Documentary Film) نجد أن جذور السينما الوثائقية "تمتد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك في شكل كان يُطلق عليه (المحاضرة المصوّرة)، والتي كانت عبارة عن عرض لسلسلة من الصور الفوتوغرافية، المصحوبة بتعليق حي، أو موسيقى". (راجع .. تشارلز موسر، الفيلم التسجيلي في عصر السينما الصامتة، ترجمة: هاشم النحاس، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 2010، ص 605.) مع ملاحظة أن هذه العروض اعتمدت على أسلوبها، من حيث التصوير وطريقة العرض، والذي جعلها كشكل أولي للفيلم الوثائقي.


من فيلم نانوك رجل الشمال



معالجة ما يُسمى بالواقع

بداية عرّف "جريرسون" الفيلم الوثائقي بأنه: "المعالجة الخلاقة للواقع". ووفق هذا التعريف اقتصر الفيلم الوثائقي على الأفلام التي لا تكتفي بمجرد الوصف الدقيق للواقع والطبيعة، بل تسعى لإعادة التنظيم والترتيب، ثم التكوين الفني لهذه المادة الواقعية، أما الجرائد والمجلات السينمائية، والأفلام التعليمية والعلمية فأطلق عليها الأشكال التسجيلية. فالأمر إذن لا يتوقف على المادة الواقعية، بل على الأسلوب أو الطريقة الفنية في توظيفها. إضافة إلى أنه تعريف "بالغ العمومية، ويكمن إطلاقه على الأفلام الروائية، بل وعلى أي عمل فني أو أدبي". (راجع .. د. محمد كامل القليوبي. التسجيلي وغير الروائي. دراسة منشورة بمجلة أبيض وأسود. القاهرة. الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد 25، يناير 2014. ص 16). بينما يُعرّفه المعجم السينمائي بأنه "نوع من الأفلام غير الروائية، لا يعتمد على القصة والخيال، بل يتخذ مادته من واقع الحياة، سواء أكان ذلك بنقل الأحداث مباشرة كما جرت في الواقع، أم عن طريق إعادة تكوين وتعديل هذا الواقع بشكل قريب من الحقيقة الواقعية". (أنظر: أحمد كامل مرسي، مجدي وهبة، معجم الفن السينمائي، القاهرة 1973، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 107). وهذا التعريف ينفي عن الفيلم الوثائقي القصة والخيال، وإن تغاضينا عن القصة بمفهومها الكلاسيكي، كحكي على أساس عِلّية الأحداث، فلا يمكن التغاضي عن الخيال الفني، وإلا كيف سيتم إعادة تكوين وتعديل هذا الواقع؟!

خيالي وغير روائي

وهو ما جعل الناقد والمترجم "هاشم النحاس" عند ترجمته لـ non – fiction  بأن يطلق عليه (الفيلم غير الروائي)، بديلاً عن الترجمة بأنه (غير خيالي)، بما أن العمل الفني لا يخلو من خيال، وهو محق في ذلك. أما استبدال غير القصصي بغير الخيالي، فهو لم يحل المشكلة بالكامل، خاصة وأن الحكي الآن اتخذ عدة طرق تختلف تماماً عن الحكي التقليدي من بداية ووسط ونهاية، فالفيلم أياً كان شكله لديه حكاية يريد روايتها، لديه صراع ما يتولد حتى في أبسط أشكاله، ولو عن طريق التناقض/المُفارقة ما بين الصورة المعروضة والتعليق الصوتي. أي خالقاً حالة درامية وفق الأسلوب الذي انتهجه صانع الفيلم. (راجع على سبيل المثال فيلم "وصايا رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" لـ "داوود عبد السيد"، وقبله فيلم "أرض بلا خبز" لـ "لوي بونويل"، وقد انتهج عبد السيد النهج نفسه). 

محاولة عقلنة الواقع

وهناك مَن يعتمد تعريف "الوثائقي" انطلاقاً من طبيعة بناء الموضوع، حيث تتقلص أهمية الأسلوب لصالح قيمة المضمون، أو ما يسمى (عفوية التوثيق)، مما يحد من تدخل صانع الفيلم، والمتمثل في الإعداد للتصوير واختيار الزوايا والتكوينات البصرية. فالواقعية أسبق وأهم من الجماليات، أو ما يكمن في الخشونة، والتي تعد أسلوباً جمالياً في ذاته، وهي نفسها فكرة (دزيجا فيرتوف Dziga Vertov) (1896 ـــ 1954) عن السينما الوثائقية، والتي لم يستطع تحقيقها عملياً بالكامل من خلال فيله "الرجل والكاميرا Man With A Movie Camera 1929". الذي يُعد تطبيقاً مباشراً لها. إلا أن الأكثر صراحة يكمن في تدخل صانع الفيلم وإظهار أسلوبه الجمالي، حتى يستطيع أن ينقل صور صمّاء للواقع من خلال عقلنة الواقع نفسه.


من فيلم المدرعة بوتمكين

المحتوى والمضمون

وهناك تعريف حديث نسبياً، جاء بكتاب "فهم الفيلم" لـ "رون جونسون وجان بون" حاول الإحاطة قدر الإمكان بالتطورات التي طرأت على الشكل الوثائقي، وهو التعريف الذي اعتمدته الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون السينما، التي ذكرت أن الوثائقي هو "الفيلم الذي يتعامل مع مواضيع تاريخية أو اجتماعية أو علمية أو اقتصادية، سواء صوّر وقت وقوع الأحداث الحقيقية، أو أُعيد بناء وتجسيد أحداثه الحقيقية (أُعيد تمثيلها) وحيث يكون تركيز الفيلم الأساسي على المحتوى الحقيقي، أكثر من اهتمامه بالجوانب المتعلقة بالتسلية". (أنظر أمير العمري. "وقائع الزمن الضائع .. البحث عن محمد بيومي"/مقال. مجلة الجزيرة الوثائقية، عدد4، أكتوبر ــ ديسمبر 2009).

الأسلوب الفني

ويتعرّض "Paul Rotha" (1907 ــ 1984) لتعريف "الوثائقي"، فـيُعرّفه من خلال عناصره الأساسية، التي إن لم تتوافر، لخرج عن كونه وثائقياً. وتتلخص هذه العناصر في الفكرة بدلاً من الحبكة، الأحداث الواقعية والشخصيات الحقيقية بدلاً من المُتخيّلة، التركيز على العالم من حولنا. ونلاحظ أن مسألة الحبكة لم يعد يختص بها الفيلم الروائي فقط، فقد تطورت أساليب السرد، بحيث أصبحت الحبكة في الكثير من الأعمال لا أثر لها. وتقوم هذه الأعمال على الفكرة أو الحالة. أما الأحداث والشخصيات الواقعية، فلم تعد قاصرة على الفيلم الوثائقي، أما عبارة التركيز على العالم من حولنا، فهي عبارة لا معنى لها، تتفوق على جُملة جريرسون عند حديثه عن معالجة الواقع الخلاقة. وإن كان "Rotha" قد طوّر من مفهومه للفيلم الوثائقي، في أحد حواراته بقوله: "من الصعب علي أن أضع فارقاً بين ما يُسمى (فيلم وثائقي) وآخر (روائي)، أي فيلم/قصة. في رأيي أن الفرق يوجد في منهج الملاحظة التي نقترب فيها من الموضوع، وطريقة تصويره وأسلوب إخراجه". ثم يستشهد بعد ذلك بفيلمي "قصة لويزيانا Louisiana Story 1948" لـ "روبرت فلاهيرتي" و" أمبرتو دي Umberto D 1952" لـ "فيتور دي سيكا" ويتساءل: أيهما وثائقي وأيهما روائي؟ ومَن يُقرر ذلك؟


من فيلم أمبرتو دي


المعنى الجمالي/الخَلق الفني

من التعريفات السابقة ــ رغم تباينها ــ نجد أن الاتفاق دار حول مظهر حقيقي حدث في الواقع. أما كيفية نقل هذا المظهر في عمل فني، فهو محل خلاف. فأعمال (فلاهيرتي) تم صنعها وإعادة تمثيلها بالكامل، سواء في "نانوك الشمال، أو "موانا". فقد قام بتحريك الشخصيات الرئيسية وفق خطة مُحكمة، أي أنها قامت بدور المُمثل، كما جعل الشخصيات تقوم بأفعال أمام الكاميرا لم تكن تقوم بها في الواقع. من ناحية أخرى نجد أعمالاً يعدها البعض في الكثير من الأحيان أعمالاً وثائقية، رغم أنها بالكامل مصنوعة ومُمَثلة، إلا أن ما يوحي بذلك هو استنادها إلى أحداث واقعية حدثت بالفعل. والمثال الأكبر لذلك فيلمي (سيرجي أيزنشتين Eisenstein) (1898 ــ 1948). "المدرعة بوتمكن 1925" و"أكتوبر 1928". فالأمر في الأخير يتوقف إذاً على "إضفاء المعنى الجمالي" على ما يُسمى بالواقع. أي .. تحويله إلى فن. 

*نشر بالقدس العربي في 10 سبتمبر 2017

الثلاثاء، نوفمبر 07، 2017

الواقع الفيلمي وجمالياته ... بين أعمال "فيرتوف" وتنظير "بازان"


لكل من المخرج الروسي "دزيغا فيرتوف Dziga Vertov" والناقد والمُنظّر الفرنسي "أندريه بازان André Bazin" أفكارهما التنظيرية عن السينما والتفكير الجمالي للفن ووظيفته من خلالها، وإذا كان بازان وجدت بعض أفكاره حيز تنفيذها من خلال أفلام الموجه الجديدة، التي كانت انعكاساً مباشراً لكتاباته في كراسات السينما، نجد أن فيرتوف قام بتطبيق نظرياته الجمالية بنفسه، في عدة أعمال أشهرها فيلم "الرجل والكاميرا". وكل منهما نادى بواقعية السينما ودورها، وانتقد تزييف الواقع في الأعمال السينمائية الأخرى، على مستوى الفكر والتقنية، وبالأخص الوسائل التقنية التي تجعل من الفيلم جديراً بأن يعبّر عن الواقع، في شكل حاد يصل إلى حد التطرف.

تنظيم فوضى الواقع

بداية يرى فيرتوف أن الوثائقي هو الوسيلة الإعلامية للثورة، وأن التوثيق لابد وأن يحل محل التمثيل، ولذلك على الفيلم الروائي أن يندثر، فالوثائقي يسجل الحياة كما هي عن طريق الكاميرا، أو الآلة التي تظهر العالم كما هو. ذلك انطلاقاً من قدرة الوثائقي ــ حسب رأيه ــ أن يكون عيناً على المجتمع بطريقة تتجاوز قدرة الإنسان على الملاحظة، وهنا تغيب تقاليد الفيلم الوثائقي التقليدي فلا راو يخبر بحدث، ولا خبراء يمثلون المرجعية الموثوق بها، وموسيقى الفيلم لا تستخدم للإيعاز بمشاعر مرتبطة بالقصة أو الحكاية. وعلى الرغم من أن "فيرتوف" أكد تأكيداً قاطعاً على الإعجاز العلمي لعين الكاميرا وقدرتها على إخبار الحقيقة على نحو يتجاوز الأبعاد البشرية، إلا أنه حذا حذو "فلاهيرتي" و"جريسون"، حين ذهب إلى أن الراوي البشري كان له أهمية بالغة. ومثل العين البريئة للفنان التي نادى بها "فلاهيرتي"، وادعاء "جريرسون" بأن الفيلم الوثائقي معالجة خلاقة للواقع، كان قول "فيرتوف" بحق المونتير في تنظيم فوضى الحياة الواقعية، وكان هذا تصريح لصانع الفيلم بأن يفعل كل ما يحلو له. 


فيرتوف
التحايل على ما يُسمى بالواقع

لقد اطلقوا جميعا ادعاءات مُتطرّفة لقيمة الحقيقة في أعمالهم، وفي نفس الوقت صوّروا صانع هذا العرض الصادق فناناً يحتاج إلى الحرية كي يبدع. فيرتوف الذي انطلق من قناعات تدافع عن الثورة الروسية، وصولاً إلى التحايل على الواقع من أجل قناعات معينة، هذا ما توضحه أكثر الفقرة التالية "لم يكن يطمح إلى (عرض المعلومات بدون تحيز)، بل على العكس من هذا تماماً، كان يعمل على (التأثير على العقل ودفعه إلى إتجاه معين)، ولم تكن هذه البدعة من بنات أفكار Vertov، بل كانت شيئاً مُعتاداً من قِبل الصحافة السوفيتية، استمد منها الأسلوب والتوجه في عرض المعلومات، ودعم وجهة النظر الخاصة به، والتواصل مع الجمهور، فخلال تلك الفترة ــ العشرينيات ــ كانت أفلام Vertov امتداداً لنموذج الصحف الشيوعية.  (راجع ..  Hicks, Jeremy. Dziga Vertov.Defining (Documentary.I.B.Tauris&Coltd.UK, P.8. هذه أحد الآراء في أعمال فيرتوف، لكن لا يمكن الأخذ بها على إطلاقها، لأن الرجل كان ينطلق من منطلقات ثورية بالأساس وليست دعائية، فقد كان يصدّق ما يفعله، ويُحرّض على فعله، مثله في ذلك مثل "ماياكوفسكي Mayakovsky"* الذي ارتبط به وبفكره فيرتوف إلى حدٍ كبير.
ويوضح "فيرتوف" الأمر أكثر من خلال مقالاته التنظيرية ويومياته العملية في صناعة الأفلام، خاصة وهو يتحدث عن المونتاج، إذ يقول "نفهم المونتاج على نحو مختلف، فهو تنظيم العالم المرئي". فالمونتاج وفق فيرتوف ما هو إلا كتابة من خلال الكادرات السينمائية، وهو كما يُطلق عليه فيرتوف نفسه "نوع أعلى من تنظيم المادة السينمائية الوثائقية". (راجع ..  دزيجا فيرتوف. الحقيقة السينمائية والعين السينمائية، ترجمة: عدنان مدانات. بيروت 1975، منشورات مجلة الهدف. ص 355). هذه الوسيلة التقنية هي أسلوب تفكير بالأساس في اللقطة ومفرداتها ومكوناتها ووظيفتها قبل كل شيء، لم يكن هناك مجالاً لشيء من التسلية أو المجانية، فالأمر أشبه ــ كما نستشف من كتابات فيرتوف ــ بعمل صارم، له قوانينه وآلياته التي لم يحد عنها في أعماله قدر المُستطاع، لذا انصب اهتمامه على "ترتيب اللقطات وتنظيمها نظرياً، مما أوصله لأن يجعل الأشياء تقول كل ما كان يفكر في النطق به". (راجع .. جان ميتري. علم نفس وعلم جمال السينما. ترجمة: عبد الله عويشق، دمشق 2000، منشوات وزارة الثقافة السورية، سلسلة الفن السابع، عدد (32). ص 708).

الصورة السينمائية وأصولها الفوتوغرافية

أما "بازان" الذي ينطلق من الطبيعة الفوتوغرافية للصورة السينمائية، فيرى الواقعية تتمثل في اللقطة الطويلة وعمق المجال، لتحقيق درجة أعلى من الواقعية، وهو أمر أشبه بالمَسرَحة (الميزانسين)، بخلاف مونتاج إيزنشتين، الذي من وجهة نظر بازان يتلاعب بالمشاهدين ويقضي على حريتهم في الاختيار بجعلهم لا يشاهدون سوى ما يريده المخرج. من ناحية أخرى يؤكد بازان على الأساس الفوتوغرافي للفيلم السينمائي، فالمعنى يكمن في اللقطة المنفردة، وليس المونتاج رغم أهميته هو أداة التعبير الأولى، فالأسلوب السينمائي الهادف هو الذي يوظف اللقطة الطويلة وعمق المجال، فالحدث الكامل الذي توفره اللقطة الطويلة، يضاهي الواقع، من حيث المكان وزمنية وقوع الحدث، ويستشهد بازان بـ "المواطن كين Citizen Kane 1941" لـ Orson Welles . ويُلاحظ .. اتفاق كل من دزيجا فيرتوف وأندريه بازان على رفض أسلوب إيزنشتين، الذي يفصل تماماً بين الصورة السينمائية والواقع، فاللقطة المفردة ليست بذات معنى، إلا إذا وضعت في سياق بنائي مُحكم لإنتاج دلالة جمالية وفنية. وهو بذلك يميز تمييزاً حاداً بين الفيلم والصورة الفوتوغرافية.

بازان

المونتاج وتأثيره على وعي المُشاهد

أما أسلوب المونتاج فيحد من قدرات المشاهد على الخيال، ويفرض عليه رؤية صانع الفيلم، وبالتالي تنتفي الموضوعية والواقعية بحسب رأي بازان. إلا أن مفهوم الواقعي الذي استشهد به بازان، والكامن في اللقطة الطويلة التي استخدمها فلاهيرتي كتكنيك إخراجي، لم يكن في الحقيقة يعبر عن الواقع بأية حال. إضافة إلى أن ما يظهر على الشاشة ليس عالم الواقع، بل رؤية للعالم، وهي الرؤية الذاتية للمخرج، وحريتنا تظل باقية في مواجهة هذا الواقع الثاني، فأحكامنا لم تعد واقعية بل تقيمية لتجربة جمالية.

جماليات الفن السينمائي

والمفارقة الجمالية التي يتحدث عنها بازان تكمن في الأسلوب الواقعي في الفن، لذلك يرى بازان أن الفيلم الفني ينبغي أن يكون مقارباً للواقع، دون أن يطابقه، وإلا انتفت عنه صفة الفن. ولكن الفيلم في أكثر حالاته اقتراباً من الواقع فهو لا يصوره، وإنما يقترب منه على أكثر تقدير. إن اعتبار الشخصيات والأحداث والمواقف في فيلم ما واقعية أو غير واقعية لا يعتمد على توقعاتنا المُطلقة حول العالم خارج الفيلم، أي خبراتنا بالعالم، وإنما على التوقعات التي يفرضها الفيلم ذاته. كما أن قابلية تصديق الشخصية يُحكم عليها من خلال علاقاتها داخل الفيلم، "ولهذا لا تحتاج تصرفاتها إلى اعتبارها غير واقعية في ضوء حكم الواقع، بل اعتبارها واقعية فقط في ضوء المعتقدات والتوقعات المتولدة من داخل العمل الفني (الفيلم). وحتى تكون الشخصية أو الشيء أو الفعل أو الحدث غير واقعية داخل عالم الفيلم، يجب أن تكون مجافية لطبيعتها التي تأسست من قبل خلال الفيلم". (راجع .. آلان كاسبيار. التذوق السينمائي. ترجمة: وداد عبد الله، القاهرة 1989، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب الثاني، عدد (74)، ص 101 ــ ص 122). فمهما بلغت اللقطات من الطول والعمق فهي ستظل محدودة وحكمها في ذلك حكم اللقطات القصيرة قليلة العمق.

الأسلوب الفيلمي وتهافت التنظير

كما أن هذه الأحداث نفسها سواء كانت معاشة أم خيالية، تتألف دائماً من علاقات بين وقائع، وأقل ما يطرأ عليها بفعل فاعل، من شأنه أن يزيف أصليتها وحقيقتها. وحتى الصورة الفوتوغرافية لم تسلم من هذا التزييف "لم يعد الفوتوغرافي في النهاية أكثر مناعة من فن الرسم ضد الشكوك الحديثة حول أي علاقة واضحة المعالم مع الواقع، فالواقع يحتاج إلى عين كاميرا انتقائية وأكثر دقة، لأنه ببساطة ما ظهر من الواقع هو أكثر من ذي قبل". (راجع .. سوزان سونتاج. حول الفوتوغراف. ترجمة: عباس المفرجي. بيروت 2013، دار المدى. ص 141). إن ما يقدمه بازان كاتجاهين منفصلين ومتعارضين جذرياً في بناء الفيلم ليسا في الحقيقة سوى دافعين متضادين ومتعارضين لآلية واحدة، لا يعملان إلا عبر صراعهما، ويحتاج أحدهما للآخر، وتاريخ السينما هو طوراً نحو البناء وآخر نحو تصوير الواقع. فالسينما المعاصرة ليست امتداداً آلياً لأحد الاتجاهين، بل نتاج تركيبهما المعقد. فالأسلوب المزدوج والتقابل ما بين المونتاج واستخدام اللقطة الطويلة هو انقسام خاطئ، فرغم عدم وجود قطع بالمعنى الحرفي، فهناك الكثير من حركة الكاميرا التي تحقق التأثيرات المماثلة للقطع، فالحركة هنا انتقائية إلى حد كبير، وتوجه انتباه المتفرج إلى تفاصيل خاصة بالميزانسين أو اللقطات القريبة لوجوه الشخصيات، بطريقة تحقق التأثير الناتج عن المونتاج.

*نشر بالقدس العربي اللندنية في 29 يناير 2017