إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، مارس 14، 2019

"الهبوط من جبل مورجان" لـ أرثر ميللر ... الرأسمالية وضحاياها الأشد صلفاً




يعد (أرثر ميللر 1915 ــ 2005) أحد أهم رموز الأدب الأمريكي والعالمي، ولعل عمله "وفاة بائع متجول" يعتبر من أهم النصوص المسرحية في القرن العشرين، والذي من خلاله شرّح المجتمع الأمريكي وانتقده في قسوة بالغة، وكشف إلى أي مدى يبدو زيف هذا المجتمع الذي يتغنى ويتباهى بالحرية الفردية، لكنه في الحقيقة يسحق الفرد وفق منظومة رأسمالية لا ترحم. ومؤخراً صدرت ضمن سلسلة المسرح العالمي، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الترجمة العربية الأولى لنص ميللر المسرحي (الهبوط من جبل مورجان)، قام بالترجمة عبد السلام إبراهيم، وراجعه محمد مدين، وقدم له دراسة تأويليه أسامة أبو طالب.


إرث الخسارة ما بين ويلي لومان وليمان فيلت
"لماذا الأمور هكذا، الأسعد هي الأكثر حزناً؟ إنها الموضوعية اللعينة! مثل شعور الخالق عندما ينظر إلى البشر السعداء، يعلم ما يعلمه عن الديدان!". يأتي (ليمان فيلت) بطل مسرحية الهبوط من جبل مورجان كشخص يعرف كيف يعيش الحياة ــ يبدو ظاهرياً ــ مسؤول تأميني، ويعمل ضمن مؤسسة ونظام رأسمالي لا يرحم، واستطاع الرجل أن يحقق النجاح والثروة، والحصول على الحب إيضاً من خلال علاقته بامرأتين. وخلال حادث عارض وسقوط سيارته من طريق جبلي، ووجوده بإحدى المستشفيات، يبدأ في محاكمة نفسة وإعادة تمثل حياته السابقة. الرجل هنا لا يبحث عن فكرة التطهير التقليدية، ولا يتقدم باعترافات باكية، فهو يسترجع ما حدث، ويُصر على ما اتخذه من قرارات ظالمة للكثيرين، لكنها وفق منطقه تبدو عادلة إلى حدٍ كبير. وهو ما يختلف مع شخصية (ويلي لومان) في "وفاة بائع متجول" الشخص المنهزم، والذي اكتشف في النهاية أنه يعمل ويعمل حتى يبتني قبراً يسكنه. لقد استحوذ الحلم الأمريكي على شخصية ويلي لومان، واعتقاداً منه بإحدى قيم المدينة، التي تقول إن القوة تأتي بالمال. وأراد ويلي أن يحقق ذاته من خلال النجاح كبائع متجول، ولكن دافع الربح وغريزة المنافسة ومجموعة من ضغوط العمل تسببت بضعف في الشخصية، وأدى فشله المتكرر إلى فقدانه كل الاحترام لنفسه، وتدمير حياته الخاصة، وبات يشعر بعدم الأمان، وبأنه ليس رجل الأعمال الناجح الذي يدَّعيه. إن خطأ ويلي القاتل أنه بنى حياته ومفهومه للاحترام على كل شيء زائف تماماً، لقد فشل في الحياة إلا أنه يشعر بوطأة أكبر لذلك الفشل بسبب حقيقة افتراضه أن النجاح في الحلم الأمريكي متوافر لأي شخص! (راجع عواد علي/آرثر ميللر استقرائي زمانه والزمان المقبل). وعلى العكس من ذلك، فرغم النجاح الذي حققه (فيلت) إلا أن مأساته تكمن في ذاته، فهو ابن هذا النظام الاقتصادي وهذا النمط الحياتي، قبر الرجل هنا هو ذاته لا أكثر ولا أقل. "ذات مرّة حملت منّي فتاة رائعة كنت أعرفها منذ وقت طويل. أخجل من ذلك. أقنعتها بأن تحتفظ بحملها ... لكن كان عليّ أن أنهي العلاقة أو أفقد زواجي ... بعد سبعة عشر عاماً كنت أنهي إجراءات سفري، ورأيت هذا الشاب أمامي في الطابور. صورتي المنسوخة واضحة تماماً ... كان ملبسه ينم عن فقره، وكانت نظرته تعيسه". ومن خلال الفكرة الكبيرة هذه يبدأ ميللر في مناقشة التفاصيل الاجتماعية والقضايا الوجودية الكبرى .. الحب، الصدق، الحقيقة، الموت. 



محاولات تأويل النص
يبدأ أسامة أبو طالب في رؤيته النقدية للنص المسرحي، من إرشادات (ميللر) إلى مخرج العرض، وقد نص في بداية المسرحية على أن المسرحية "يمكن أن تقدم على مسرح مكشوف، والمشاهِد يفصلها الضوء، وتوزيع وترتيب الأثاث والملابس". هذه التعليمات تبدو من النص نفسه وليست خارجه عنه، فديكور المستشفى لا يمكن تصوّره سوى مساحة بيضاء ناصعة، معقمة، باردة وشفافة، وكأنها شرايين نزفت في جسد، وبالتالي يصبح هذا الجسد أشبه بالجثة، رغم مظاهر الحياة ومحاولات إنقاذ المرضى كما يوحي المكان وظيفياً، بما أنه مستشفى! هذا التقابل ما بين مكان الحدث وحالة الشخصية.
الأمر أيضاً ينسحب على كافة الشخصيات في علاقاتها المتوترة ببعضها البعض، فهم ضحايا لنموذج البطل الأمريكي، المليونير، الذي أصبح بطلاً مأساوياً عصرياً، يقوده قدره نحو مصيره، وفي سبيل ذلك يدمر الجميع. فالبطل هنا مُدمراً لذاته، بفعل ثقته في نفسه المُبالغ بها.
ورغم أن (ميللر) دوماً يعبّر عن المجتمع الأمريكي بكل تنوعه وتناقضاته وصخبه، إلا أنه ينتقي شخصيات قليلة وأماكن محدودة للغاية وزمن محكوم بدقة، ليصوّر من خلال ذلك بطله المأسوي في لغة ومجتمع العصر الحديث. لم يعد أوديب ملكاً الآن، لكنه رجل أعمال ورأسمالي كبير، يحب المال والنساء، وبعض من الحكمة، المتمثلة في موهبة قديمة أو حلم قديم في أن يصبح شاعراً! الأمر لا يخلو من حكمة متجاوزي الحد في الدراما الكلاسيكية، واليونانية بوجه خاص، وفي كل لحظة تتحقق مسيرته نحو سقوطه. "لماذا يجلس ملك الموت دائماً على كتفك، لديك من مقومات الحياة أكثر من أي شخص آخر؟!". هكذا قالت له زوجته.
وتبدو الصورة أوضح في التفاصيل الدقيقة، فالممرضة السوداء، التي بمجرد أن يستفيق "ليمان" يستنكر وجودها حالسة إلى جواره. إلا أنه في لحظات ضعفه يتوسلها البقاء "لا تتركيني وحيداً ... من فضلك اجلسي معي". ويندهش ويتعجب بعد حواره معها، عن طبيعة حياتها وحوارها مع زوجها وطفلها، وسعادتهم بعد شراء أحذية مُستعملة تبدو وكأنها جديدة تماماً. لتصبح حياتها "معجزة" حسب تعبير "ليمان" نفسه. فـ (ميللر) غي النهاية يُعيد صياغة البطل المأسوي القديم، في قياسات وسمات عصرية، ذلك بإعادة تعيين مفهوم البطولة، اللعنة، الخطيئة وتدمير الذات، وصولاً إلى الكارثة. فالبطل يقوم برسم المنطق لأفعاله، رغم أنها مؤثمة دينياً ومخالفة اجتماعياً، إلا أنه يؤمن أمام نفسه بأنه لم يؤذ أحداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق