إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، يناير 13، 2011

... من رواية "مصحف أحمر" لمحمد الغربي عمران



1
حنظلة
"1" وحيدي حنظلة.
هذا هو شهر أغسطس من عام 2000، فيه حاصرتني مشاعر الوداع.
هي المرة الأولى التي تحس فيها بالرهبة من مقابلة جدك (العطوي ).. لحظات الوداع .. تستعد للإقلاع في رحلة إلى بغداد .. لم نفكر يوما بأنك ستتركنا لتغادر خارج اليمن.
المسافة بين (صنعاء) وقرية جدك.. (حصن عرفطة) سبعة وعشرون كيلو متراً غرباً.. أقنعتني بأن تودع جدك دون أن تخبره بسفرك لدراسة الطب.. وعدتني بمهاتفته عند وصولك العراق.
أتتذكر حين عدت من القرية.. حكيت لي مشاعرك.. أتخيل اضطراب قلبك لحظة طرق الباب.. يطل بوجهه الضاحك .. ذقنه المهندمة .. يمد ذراعيه ليحتويك.. هي المرَّة الأولى التي ترتجف فيها.. يرفع صوته: "ما هي أخبارك يا حنظلة؟" هذه هي خطوات الترحيب لديه .. يركز النظر في عينيك .. تتقدم عبر الصالة .. تدخل الغرفة الجنوبية.. المصحف الأحمر الكبير على كرسي القراءة.. تقترب بوجهك من صفحاته.. تقرأ:"وقال داوُد لسليمان ابنه.. تشدد وتشجع واعمل,لا تخف ولا ترتعب لأن الرب الإله إلهي معك لن يخذلك ولن يتركك حتى تكمل كل عمل خدمة لهيكل الرب". تُقلِب عدة صفحات لتجد مؤشراً ثانياً على الآية. وبينما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة من بين الجمع صوتها قائلة له: طوبى للبطن الذي حملك.. والثديين اللذين رضعتهما.. إلا أنه قال: بل طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها. تقلب صفحات أخرى.. لتقرأ: " قال ربِ إني وهن العظمُ مني واشتعلَ الرأسُ شيباً ولم أكن بدعائكَ ربي شقياً " تقفل المصحف.. تتأمل.. تودع تضاريس غرفة جدك.. رشاش(كلاشينكوف) معلَّق فوق النافذة .. عدة صور على الحائط .. مرآة .. مساند.. صندوق خشبي قديم.. سجادة.
أتخيلك تهرب إلى الغرفة الشمالية ..غرفتك التي كنت تستذكر دروسك فيها حين تمكث في القرية.. تستنطق زواياها.. فوق النافذة تتكئ على (القمرية) صورة لك إلى جوار جدك ..التُقِطت سنة1994.. تحتضن باقة من أغصان القات بين ذراعيك.. تتأمل وجه جدك.. الملامح الباسمة .. والشال الملفوف على الرأس شبيهٌ بضمادة هندية .. عينان صغيرتان وشارب حليق .. قارنت بين ملامحك وملامح وجهه:
العينان.. الأنف.. لون البشرة .. حتى الابتسامة..نسخة مصغرة لوجه جدك دون تجاعيد .. يقولون بأنك ورثت عنه الكثير من ملامحه .. في الجدار الآخر لوحة لفتاة مجنحة تطير.. أطرافها حوافر خيل.. عدة كتب على رف علوي.
تتقلب في ظلام غرفتك..هدوء مطبق إلا من ضجيج أفكارك.. هذا جدك يحتل حيزاً من تفكيرك.. قلقاً من صباح الغد .. تفكر في كيفية إخفاء سرك.
حاولت التخلص من كل ما يشغل تفكيرك..الاستعاضة باصطياد ذرات النوم .. ملامح جدك ترتسم هلام وسط ظلام غرفتك..نظراته..ابتسامته, أغمضت جفنيك متلمسا خيوط النعاس .. بعد محاولات أصطادك النوم.. لا تدري كم من الليل مضى حين تهادى إلى سمعك صوت جدك يتلو صلواته.. موسيقى دون أوتار.. تقفز من نشوة إلى أخرى .. يرفعك في معارج النقاء.. حتى لكأنك لم تعد تدرك أأنت في حلم أم أنك لم تنم بعد ؟! حاولت استعادة النوم .. جاهدت .. صوت جدك يملأ المكان بمشاعر تبكيك.. رنين أجراس تختلط بصهيل خيول لا تُرى .. تغمض عينيك من جديد ..تفقد القدرة على الرؤية .. لم يمض وقتٌ حين توهج زجاج الفجر.. زقزقة العصافير.. رائحة الخبز..فتحت النافذة.. أطليت على الوادي السحيق.. بدايات ضوء الأفق .. رياح باردة .. سفوح المنحدر امتلأت بورد أصفر.. زهور الطلح والطنب .. مجرى السيل أخدود تسكنه الحصى .. بقع الوادي.. حقول شجيرات القات تناثرت.. صفوف الجبال تحتضن مشاعرك.. قرى يتنفسها الفجر.. كل شيء ساكن إلاَّ من أعمدة دخان.. فلاحون يسابقون الضوء على منحدرات الوادي.. ينفضون عن أغصان القات قطرات الندى.
 في علياء القرية بقايا (حصن عرفطة) يطل من ربوته كشيخٍ طاعنٍ في السن بعد أن فقد معظم أجزائه .. مازالت بقايا جدران بنوافذها وأفاريزها الملونة تقاوم بعد نسف أجزاءه العلوية في عام 1981م بإيعاز من شيخنا.
عند بزوغ قرص الشمس ودَّعت جدك متحاشياً النظر في عينيه.. حاولت أن تختصر فترة العناق فيما هو يمعن الإطالة.. بلعت رغبة البكاء .. سمعت جدك يردد:
- الله معك يا حنظلة حافظاً ورفيقا.
رددت عليه وأنت تخطو خارج البيت:
- الله معك يا جد.
لوحت بيدك.. عيناك مغلفتان بالدموع.
شقَّت السيارة طريقها وسط القرية ..تفر الدجاج من حولها..كلاب .. أطفال وعجائز فاغرون أفواههم.. رائحة المواقد من شقوق الدور العلوية .. لم تستطع كبح دموعك ..هدير السيارة خارج أطراف القرية صاعدة تعرجات الطريق نحو الجبال الشرقية.. تمنيت لو أنك تحلِّق تحت سماء القرية لترى جدك الواقف أمام باب بيته.. طوال الطريق تحادث نفسك: " لو أني أخبرته بسفري .. هل سيتقبل الأمر ؟.. لو رد عليَّ بالرفض !! هل أمتلك القدرة على مخالفته؟ سامحني يا رب! ساعدني في أن أكتب إليه معتذرا..سأشرح له كل الملابسات.. أنا على يقين من أنه سيغفر لي!"
حين صعدت السيارة المرتفعات ..التفتَّ .. أمعنتَ النظر في القرية.. لسان صخري.. بقايا حصن عرفطة.. وديان غائرة.. جبال عالية تشبه ملامح جدك.. تتداخل لترسم ابتسامته .. كل شيء هادئ إلاَّ من ضوضاء روحك.
أغمضت عينيك تستحضر أيامك الماضية.. لحظات الصباح الباكر حين تهبط الوادي برفقة جدك.. تساعده في قطف أغصان القات وبيعها.. ترافقه ليلاً لحراسة الوادي..تطرب لنباح كلاب الليل.. عواء ذئاب الجبال.. دوي الرصاص بين فينة وأخرى.
أكملَت السيارة الطريق الترابية.. انطلقت شمالاً على طريق معبد باتجاه صنعاء.. قرى تأتي مسرعة..وأخرى عالية تعشش دورها على شفاه المرتفعات.. وتلك تتخذ من السفوح مهاجع لها .. على سفوح الجبال مزارع القات تزاحم شجيرات البن الخضراء.. الهضاب احتلتها عرائش الكروم.
مدينة صنعاء تومض بياضا من بعيد.. سهل مستطيل تحرسه قلاع الجبال العالية.. صفوف سوداء من الغرب والشرق ..سهل موزعةٌ ألوانه بين الأسود والترابي .. مربعات خضراء لحقول البطاطس والبرسيم .. المدينة مآذن حجرية باسقة ..بياض قبابها.. في البدء ولدت وثنية.. ثم يهودية خالطتها المسيحية.. لا أحد يجزم ما تخبئ لها الأيام من مسرات.. يحتضنها طقس بارد.. تحاول عيناك اختزال ما تشاهده..أسوارها الطينية.. دورها الياجورية .. شوارعها المتربة .. الواجهات المزخرفة .. زحام باعة أرصفتها.
عزيزي حنظلة..
حين كنت انتظرك..أنظر إلى مؤشر ساعتي.. تبقَّى على إقلاع الطائرة عدة ساعات وأنت لم تصل بعد.. أرتب حقيبتك: كعك بالمكسرات..زبيب.. زعتر .. بن.. حبة البركة .. علبة زبدة .. برطمان عسل .. عطر.. أمشاط .. كريمات ومعاجين.. أستنشق رائحة ملابسك.
كُنتَ سعيداً لاهتمامي بك.. أستحثك سرعة الانتقال إلى المطار.. خرجنا..أزقة مرصوفة.. دور متراصة..نسير تحت أقواس حجرية عالية.. بمحاذاة سور طيني طويل.. عبرنا باب اليمن.. قُلتَ لي مبتسماً:
- هناك متسع من الوقت يا أماه قبل إقلاع الطائرة.
- ماذا تعني؟
- بي رغبة لأن أودع صنعاء!
- ماذا تقصد؟ .. يجب أن نصل إلى المطار مبكرين .. هناك من ينتظرنا!
- من تقصدين؟!
- خمن من يكون!
- أصدقائي!
- بل من أقرب أقربائك!
- أيعقل أن يكون جدي!
- لا!!
- زوجته!!
- لا.. لن تستطيع تخمين من يكون!
نطقت عبارتي وتركتك للحيرة.. بعد صمت قلت لك: ستغادرنا بعد لحظات.. ستجرب قدرتك على مواجهة الحياة .. أناس لا تعرفهم.. سترحل قطعة من روحي .. ولولا حبي لك لما وافقتك على السفر، لن أقول لك إني سأشعر بالوحدة .. وإني أفتقد العالم بمغادرتك.. وإني امرأة دون أجنحة .. وإن سمائي ستكون كئيبة.. وأوقاتي ستفقد بهجتها.. بل سأقول إني أكثر سعادة وأنا أودعك لتعود طبيباً.
أتذكر تلك اللحظات حين صَمتُ تمسح عينيك الغارقتين بدموع مفاجئة.. لم تسعفك الكلمات.. تصنعت الانشغال بالبحث عن شيء ما ناظرا إلى سماء صنعاء .. تتأمل الشوارع المؤدية إلى المطار .. دور المدينة.. قمم الجبال . قلت وأنا أراقب عقارب الساعة:
- لا تتذمر .. حديثي لك حديث من امتلأ قلبها سعادة بابنها.. وأنت تحقق أحلامك.. سأظل أصلي لسلامتك ..أدعو الله أن تعود سالماً غانماً.
- لن أنساك لحظة .. وكم أتمنى أن يغفر لي جدي.
- ما أنت إلاَّ قلبه الذي ينبض بالحياة .. وعيناه اللتان يرى بهما الدنيا.. فكيف تقول هذا؟
كان أريج الحديث يتدفق طوال الطريق.. لذة الكلام تتوالد دفع لذيذة .. احتضنك..أتأمل عينيك مبتسمة.. أسألك:
- كيف سأكون بدونك؟
- سأهاتفك حين أصل، وفي كل يوم!
- فقط أرجو أن تتذكر بأنك وحيدي.. وأنك أملنا الذي ننتظر عودته.
- وأنتِِ كل الدنيا .. هي أشهر معدودة وأعود إليكم.
أتتذكر حين طلبت منك أن تسمع بعض حكايات جذور أسلافنا.. قلت لك:
- هل أحكي لك حكايات أسلافك؟
- يسعدني ذلك.
- إذاً سأحكي لك عدة حكايات .. قد تراها حكايات ساذجة .. لكنني أشعر بمتعة حكايتها:
- هيا أحكِ.
الحكاية الأولى تقول: إن محارباً قدم من الأناضول ضمن جنود الغزو العثماني الأول لليمن..حارب سنوات.. وحين قرر الأتراك الرحيل.. فضل ذلك المقاتل الاستقرار في صنعاء.. تزوج .. امتهن تجارة السجاد القديم.. ويقال إن ذلك الجندي هو جدك الأول .
وحكاية أخرى أبعد من الأولى زمنياً.. يُحكَى: أن الجد الأول قدم ضمن جيش أبرهة الحبشي كقس يسوعي ..هو صاحب فكرة إنشاء كنيسة في جنوب شبه جزيرة العرب كمركز متقدم للإيمان.. أقنع أبرهة.. وسريعاً ما أنشئت كنيسة(القليس) في قلب صنعاء القديمة.. أضحى ذلك القس راع للكنيسة.. حتى بعد هزيمة أبرهة وفيلته في الحجاز.. وعودته إلى صنعاء.. ثم رحيل (الأحباش).. كان ذلك الراعي قد اختار الاستقرار وأمسى من سكان صنعاء....ومن بعده ابنه ثم حفيده.. وحفيد حفيده حتى اليوم.
الحكاية الثالثة.. وهي المتداولة: أن الجد الأول.. أحد وجهاء(مأرب).. قدم من أطراف الصحراء الشرقية نحو المرتفعات الجبلية بعد أن نفذ خدعة بسيطة.. وقع ذلك في أواخر عصر الدولة السبئية.. كان خبيراً بأحاديث النجوم .. ومن ذوي الأطيان التي ترتوي من مخزون سد مأرب .. حدثته النجوم عن قرب انهيار سدهم العظيم.. فكر في حيلة للرحيل قبل الانهيار.. مسرحية لتكن مبررا لبيع ممتلكاته الثابتة .. أتفق مع أحد أبنائه بأن يعلن العصيان عليه.. اختار الأب السوق الشهري لمدينة مأرب.. وعند ذروة الزحام افتعل الابن خلافاً مع أبيه.. شتمه وهوى بكفه على صدغه وسط دهشة الجميع !! أقسم الأب أن لا يبقى في أرض أُهينت فيها أبوته.. معلنا عرض جميع ممتلكاته للبيع.. انتشر الخبر.. تنافس الجميع على شرائها.. نجحت الخطة ليرحل الأب بقطعانه نحو المرتفعات.. ومن ثم تبعه أبناؤه بعد حين .. وقد تحولت حيلته إلى لعنة.. مات كل أبنائه عدا أكبرهم.. وهكذا ظلت سلالته قائمة على الذكر الواحد.
الحكاية الأخيرة تقول: إنه قدم من شرق البحر المتوسط في القرن الثاني لميلاد يسوع المسيح.. هارباً من الاضطهاد الديني هناك.. التقاه التبع أسعد الكامل في شمال يثرب..وكان عالما بأصول الكهانة.. استحسن التبع ضمه إلى كهنته.. ثم رحل به جنوباً حتى عاصمته .. ليتدرج في مراتب الكهانة حتى وسمه أسعد الكامل بكبير الكهنة.. ويقال إنه مَن أعد قواعدّ محاكمة كل من كان على غير اليهودية.. وكان (أخدود نجران) ومحرقة من تمسكوا بتعاليم يسوع المسطر في الكتب السماوية من أفكاره.... ولهذا حلت لعنة الذكر الواحد على ذريته حتى اليوم.. فالسلف الأول جاء بولد واحد .. وهكذا الذي يليه.. لتستمر ذريتنا مهددة بالزوال.. وسط محيط تحكمه القوة والعنف.
وقد تنبأ أحد السالكين بزوال تلك اللعنة.. إذا جُمِعت الكُتب السماوية في حروفها الأولى.. أخذ أجدادك بالبحث في خزائن صنعاء لجمعها في مصحف واحد.. قرون من البحث.. أستمر الأجداد خلفاً بعد سلف.. حتى جمعت الكتب.. مع شيء من مبادئ الصابئة والبوذية من أسواق صنعاء.. وتقول النبوءة: "ستزول تلك اللعنة في الجيل السابع والسبعين" ولهذا يحمل جدك المصحف الثلاثي أينما ذهب.. فالجزء الأقدم منه التوراة.. وبدايته تعود إلى الجد الأول والذي توارثهُ أحفاده منذ مئات السنين.. والجزء الثاني للإنجيل بالحروف السريانية..
ثم الفرقان بحروف غير منقوطة.. تتكون أوراقه من جلد الماعز الجبلي.
صمتُ أنظر وقع حكاياتي على نفسك.. كمن خالطك سحر.. قلت وأنت تفكر:
- حكايات شيقة.. لم يحدثني أحد بها..لكني موجودا وكفى.. ولن تغير تلك الحكايات ما أنا عليه.
أجبتك مشفقة:
- ستدرك يوما أهمية أن يكون للفرد حكايته الخاصة.. حين تبحث عن ذاتك.. الإنسان بحاجة إلى ما يميزه.. حينها سيتحرك شيء ما بداخلك لتحكي.
- سأتخيل أن ذلك قد حدث.. فأي حكاية أنتسب إليها؟
- أن تكون ما تنوي على فعله.
- ما الحكمة من أن أنتسب أو لا أنتسب؟
- ستعلمك الأيام .. وستدرك أن الإنسان يظل جاهلا لذاته.. وعندها يبحث عما يلبي غروره.
- كيف؟
- كل فرد يظل يؤمن بصفة الاختلاف والتميز..ولهذا تختلف أقدارنا عن أقدار سوانا .
- سأنتظر الغد.
- نحن جميعاٌ رهن الغد.. محكومون بانتظاره.
وصلنا الشارع الأمامي للمطار..واجهات معدنية. مواقف انتظار السيارات شبيهة ببئر عميق .. حركة رتيبة .. أزيز.. زوايا معتمة.. ملامح وسِحَن مختلفة.. جنود.. جدران زجاجية.. صالة يملؤها الضجيج.. ألوان وروائح جديدة.. عابرون في كل اتجاه. أبحث عن مقعد لخفقان قلبي.. في وجوه الحاضرين..أحدث نفسي: "لقد وعدني" .. لم يتمالك قلبي حين بدأت إجراءات وزن أمتعتك.. أتابع تحركاتك..عُدت إليَّ مستأذناً:
- لا أحد في وداعي غيرك..أين من قلتِ إنه سينتظرنا؟
- حتما هو بين الزحام.
أحسستُ فجأة بدنو لحظات الفراق..أرتفع نبض قلبي.. احتضنتني مواسياً:
- لن أكمل إجراءات سفري إذا طلبتِ مني ذلك!
- سأكون بخير.. هي فقط مشاعر اللحظة..اطمئن سأكون بخير.
لمحت (تبعة) هناك حين التفتُ أبحث عنه.. لقد صدق: ملابسه بلون البُن ..نظارة تغطي نصف وجهه..نهضتُ ملوحة..أشرتُ عليك:
- أنظر من أخبرتك أنه سيأتي لوداعك!
التفتُ أنت وقد اقترب نحونا بخطوات مرتبكة .. رجل أقترب من الأربعين.. بوجه صغير.. ضامر الجسد.. انحسر شعر رأسه.. تهتز قامته بشيء من الإعاقة.. لف جذعه بفوطة فضفاضة.. اعتصرت أنت ذاكرتك.. يبدو لك وجهه مألوفاً..أيقنتُ أن ذاكرتك خانتك.. مشاعر الإحراج تجتاحك فيما هو يقترب .. مد كفه مصافحاً..علت وجهي ابتسامة.. التفت أحتضنك وأنا أحدثه:
- هذا هو حنظلة ابنك!!
وقف يتأملك ..فارداً ذراعيه مبتسما!!
- حنظلة.. ابني العزيز.. لقد أصبحت رجلاً!
بادلته بأحضان فاترة..تحدث نفسك.. أيعقل أن يكون هذا أبي؟ تبحث في تلابيب ذاكرتك.. في حكاياتي.. جدك.. زوجة جدك.. نساء القرية حين يتحدثن عنه..أمطرك بكلمات الثناء .. تراجعت أنت إلى الخلف وابتسامة مصطنعة على ملامحك.. أنكرت أن يكون ذلك الرجل هو( تبعة..) همست في أذني: "أين ما رسمتِهِ يا أمي" تتأمله من جديد..بقايا إنسان.
جلسنا على مقعد جانبي.. تسترق إليه نظرات عجلى.. أزال تبعة نظارته.. عينان غائرتان....ملامح مشوشة.. تبحث أنت عن ذلك الفارس الذي تختزنه ذاكرتك.. فرد ذراعيه مرة أخرى.. احتضنك.. أجلسني جوارك..
وقف خطيبا.. بحركات مسرحية يحرك يديه:
- ابني العزيز .. يا من سميتك حنظلة .. زوجتي الغالية (سمبرية) .. حبيبتي .. فاتنتي ..
اليوم أقف بين أيديكم لأعتذر.
توقف عن الحديث.. لحظ الجموع تحاصرنا في صالة الانتظار..واصل موجها حديثه اليهم: أيها الناس أشهدكم .. هذا هو ابني الوحيد.. وهذه هي زوجتي.. إني أعتذر لهم عن تقصيري.. أتصدقون؟ لن تصدقوا إذا قلت لكم :أني أقابل ابني لأول مرة ..أنا لا أعرفه.. وهو لم يرني منذ مولده.. لكن أرجوكم انظروا.. أليست ملامحه هي ملامحي..؟ أنا مناضل كبير.. لم أتخلَ خوفاً أو جبناً.. بل كنت أحاول أن أرسم حلمي..حلم اليمن الواحد.. الموحد بالحرية والعدالة.. أنا مقاتل وحبيبتي سمبرية تعرف ذلك .. مناضل مخلص لوطني..ولهذا لم أرَ ابني.. الأن لا أزال مطارداً .. مهدداً بالقتل في أي لحظة..!! هذه إصابات جسدي.
أخذ يخلع ملابسه وهو يتحدث.. يشير إلى مواطن الإصابات.. وقفت محاولا مساعدته.. قال أحدهم:
- عجوز مخمور.
شعرت بطعنة في قلبي..قُلتَ أنت لتبعة مواسياً:
- عفوا.. نحن بين الناس؟
- ألم تخبرك أمك؟
التفتَّ إلي.. إلى عيون من حولنا .. دوائر الخجل والحيرة تحاصرك:
- أماااه؟ بقدر سعادتي لحضوره حزني على ما هو فيه.
رددتُ عليك مرتبكة.
- إنهُ والدك!!
حركت كلماتي إحساسك .. حاولت تهدئتك..لاحظت أن تبعة غير متماسك في خطواته..
همست لك:
- كثيرا ما سألتني بشوق عنه.. وكثيرا ما حدثتك..اليوم جاء لوداعك.. عليك أن تعذره..
لم أكن أعلم أن حالته بهذا السوء!!
لاحظ تبعة همسنا.. صرخ :
- يبدو أنني أخطأت المجيء!
ثم رفع صوته أكثر موجها حديثه لمن في الصالة :
- أعترف أن مخاطرتي بالمجيء كانت في غير مكانها.. اشهدوا أيها الجمع أنني أعترف بخطئي!!
2
سمبرية

"2" ابني الغالي حنظلة
غامت الأضواء أمام عينَّي.. تداخلت الألوان.. الروائح.. إحساس مشوش.. سقطت بين يدي تبعة..
جاهد في إفاقتي.. نطقت بجمل غير مرتبة.. نظرات البعض تضايقني.. حدثته:
- الله يخبو بداخلي من جديد.. كنت مخطئة حين رجوتك بالمجيء لوداعه .. أراك تبتسم كالأبله..
لا كمن يفارق ابنه.. أنت لست تبعة..!
اعترف..!!
- فضحتينا .. لست أول من تفارق إلِفها.
- أنت من فضَحتَنا.. أنا من ظللت طوال تلك السنين أرسم لك صورة فارس.. ثم تأتينا اليوم مخمورًا تترنح!!
- توقعت أن تستقبليني بالأحضان بعد كل هذه السنوات!
- لقد حاولت.. لكنك لم تعطني فرصة .. أريد أن يتعرف عليك ابنك.. وأنت فاقد التوازن!!
- أعتذر لك!
- تعتذر لي.. ومن يعتذر له؟
- أنتِ من تستحقين الاعتذار .. هيا انهضي.
بدأت أستجمع قواي.. عيني تبحث في محيطها عنك.. ملامح صالة المغادرين.. لا أحد يشبهك.. أحدق فيما حولي: فواصل زجاجية.. أضواء.. أسقف لامعة..مقاعد.. أقدام.. سيقان.. قامات مختلفة.. مؤخرات.. وجوه.. لوحات إعلانية.. مكبرات صوت.. زحام.. وجوه غير مألوفة.. لف ذراعه يستنهضني.. أنعشتني رائحة جسده.. لأول مرة أسير بين الناس ملتصقة برجل.. كما لو أني لم أعد أنا.. لم يعد يهمني شيء..عند بوابة الخروج همست ارجوه:
- لا أريد مغادرة الصالة.. علينا الانتظار .. قد يعود فلا يجدني !
- هو الآن في الفضاء .
- أخاف انه لا يزال بالداخل!
كنت أحدثه بصوت لم يعد صوتي.. أنظر الشوارع.. لم تعد كما كانت قبل رحيلك.. رجوت تبعة:
- نبقى قليلاً؟
- سنجول معاً في شوارع صنعاء قبل أن أودعك!
- أين ستذهب؟
- إلى مكان آمن لدى أحد الرفاق!!
إحساس بالضياع غلف مشاعري.. توغلت لذة الدموع في أعماقي.. أستقلينا سيارة أجرة.. قلت له:
- قال لي حنظلة: إن الرحلة لن تتجاوز الثلاث ساعات .. وبعدها سيكون في بغداد.
- صحيح.
- إذن ستكون معي في البيت لنسمع صوته معاً.
- لا يمكن المخاطرة.. البيت مراقب.. ينتظرون وصولي منذ سنين!!
- إذن خذني معك .. لا تتركني!
- أين؟
- أينما تريد .. المهم أكون معك.
نظر بعينين ذابلتين..ثم خرج صوته حزيناً:
- طوال الطريق من عدن وأنا أخشى هذا الموقف.
- المكان الآمن هو البيت.. هيا ؟
- تنتظرني فوهات بنادقهم.. يمكننا أن نكون معاً في أحد الفنادق الصغيرة!!
- سيرتفع جرس هاتف بيتنا ولا يرد عليه أحد .. لماذا تجعلني بعيداً عن صوت ابني؟
أود أن أسمع صوته .. وعندها أنا على يقين من أني سأشفى من كمدي هذا.
- ستكونين غداً في بيتك وستسمعين صوته .
- وأنت؟
- سأختفي.. كُتب عليَّ التشرد أو الموت.


نقلاً عن موقع "جدارية"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق