إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، مارس 14، 2019

فيلم "القضية 23" ... صخب سياسي وافتعال حكاية درامية




أثار فيلم "القضية 23" أو (الإهانة) الكثير من الجدل، سواء بدعوى التشجيع على التطبيع، أو الانتقاص من الفلسطينين والقضية الفلسطينية، حتى أن البعض نادى وقتها بمقاطعة سينما (زاوية) التي عُرض من خلالها الفيلم في القاهرة، رغم أن أكثرهم لا يدري عن الأمر شيئاً، سواء عن الفيلم أو مخرجه اللبناني "زياد دويري". هنا تجد الأصوات العالية مجالاً مناسباً للصياح ومحاولة إثبات الوجود، من خلال العبارات المعهودة عن الخيانات المجانية، وهي فرصة مناسبة تماماً للنضال أمام الميكرفونات، وكذا بعض المقالات في الصحف أو على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي ــ البعض منهم لم يُشاهد الفيلم ويتضح ذلك من تعليقه الذي ينصرف فقط حول الموقف من حكاية الفيلم، الذي بالكاد سمعها ــ من ناحية أخرى تأتي مثل هذه الأعمال الشائكة بموضوعاتها لتختبر من حين لآخر حالة الفصام التي نعيشها، فمن التغني بالحرية ليل نهار، إلى دوغما المواقف التي لا يحيد عنها أصحابها ــ المواقف لا المبادئ ــ وتصبح سلسلة الاتهامات المتواترة تتواصل ضد أي صوت يحاول الاختلاف، ولو لمجرد الدعوة إلى فقط مشاهدة العمل والاحتكام إليه من خلال وجهته الفنية، التي لن تكون في صالح فيلم دويري، اللهم في أنه يريد افتعال جدل سياسي حول ما يسرده، سواء لموقف يتبناه، كمناداته بمحاولة التعايش مع الكيان الصهيوني، أو إزالة بعض من الهالات المقدسة عن القضية الفلسطينية، ولن يضيف إليه ترشيحات الأوسكار، فالسينما العربية معروفة بتاريخها السيئ في مثل هذه المهرجانات. الفيلم أداء .. عادل كرم، كامل الباشا، ريتا حايك، كميل سلامة ودياموند عبود. تصوير دومينيك ماركومب، موسيقى إيريك نيفيه. إنتاج فرنسي لبناني، سيناريو وإخراج زياد دويري.



أعمال مختلفة وموقف متعصب
وبغض النظر عن دويري وموقفه ــ وهو حُر يعتنق ما يشاء ــ هناك العديد من الأعمال السينمائية، التي أخرجها سينمائيون من داخل إسرائيل، اتخذت منهم إسرائيل الموقف نفسه، أي وضعتهم في خانة المغضوب عليهم، هذه الأعمال جاءت أكثر وعياً وفناً من عمل دويري، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر .. العروس السورية، شجرة الليمون، حتى ميشيل خليفي وفيلمه "عُرس الجليل" لم يسلم من الانتقاد حتى الآن، بتهمة التطبيع المعهودة، والعمل الأكثر تماساً من فيلم دويري "فالس مع بشير"، الذي تعرض لما فعلته قوات الاختلال في لبنان. رغم موقف مخرج الفيلم الذي حمّل المؤسسة السياسية والعسكرية جرّاء ما حدث. هؤلاء في الأغلب مرفوضون داخل إسرائيل، وبالطبع يجدون الرفض نفسه من قِبل العرب، دون حتى مشاهدة أفلامهم، فبما أن الفيلم يحمل جنسية دولة الاحتلال، فهو مرفوض بداهة! فهل يستحق مثل هذا العمل المتواضع كل هذه المعارك؟!

تفاصيل مفتعلة
يأتي فيلم زياد دويري، محاولاً نسج حكايته من تفصيلة بسيطة، من خلالها تمتد أحداث الفيلم وتتشابك ــ يذكرنا الفيلم في بناء وتعقد الحكاية بأعمال أصغر فرهادي ــ ولكن الفارق شاسع بين أعمال تتوخى الصدق الفني، وتمتلك الوعي والحرفيه لما تحاول حكيه، وأعمالاً أخرى تتوسل وتفتعل أحداثاً حتى تمرر أفكارها. الأمر هنا يسقط في فخ التنميط، فالشخصيات لا تمثل إلا أفكاراً ليس إلا، دون أن تصبح بالفعل شخصيات درامية تليق بعمل سينمائي ــ الفيلم تم ترشحه لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي ــ فالمشكلة القائمة تأتي بين شخص ماروني يحفظ خطب بشير الجميل، ويعيش من خلالها، وآخر فلسطيني آتى من مخيمات الأردن إلى لبنان بعد أيلول الأسود. فهناك حالة كُره مقيم ومستتر ما بين الاثنين. مجزرة هنا ومجزرة هناك، وكل منهما يحمّل الآخر نتيجة ما حدث، ليظهر الساسة فقط من خلال شاشات التليفزيون، أو يضطرون لمقابلة طرفي النزاع ــ الضحايا بالأساس ــ كما حدث في الفيلم. فالافتعال لا ينتهي.


صراع الضحايا
وبعد العديد من الحوارات وافتعال الأزمات الدرامية ــ مولود ماروني مُبتسر، وفلسطيني خائف دوماً ــ واستعراض مواقف وحياة كل من الشخصيتين، جلسات محاكمة مطولة، تأثير ذلك على الشارع اللبناني، واشتعال الفضائيات ــ معظمها أحداث مفتعلة حد الملل ــ فهناك فكرة يريد صاحبها التأكيد عليها مهما كان الثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو التضحية بمنطق دراما الفيلم ــ ويبدو الأمر وكأنه انتقام الضحايا بالأساس، (ياسر) الفلسطيني، الناجي من مجزرة أيلول بالأردن، و(طوني) اللبناني ابن القرية التي تمت إبادتها على يد الفلسطينيين، من هنا لا يجيد هؤلاء الضحايا سوى توجيه الإهانات والعيش كأعداء من خلالها. وبعد وكما أسلفنا العديد من الحوارات داخل قاعات المحكمة، الفلسطيني الذي سبّ اللبناني وضربه، وقد تمنى اللبناني أن يبيد شارون الفلسطينيين. بعد واصلة الرقص الباهت هذا، يخسر اللبناني القضية، لكنه أصبح أكثر تعاطفاً وتفهماً لموقف الفلسطيني، وكل منهما يتبادل التحية بالإيماء وشبه ابتسامه تعلو وجهه! فرغم ذكاء بعض الحوارات بالفيلم، إلا أن سذاجة التناول وحل المشكلة في النهاية، بحالة من التصالح الموهوم، يهدم كل شيء، ويجعل الأمر مجرد شكل لتمرير هذه الأفكار لا أكثر ولا أقل.

عالم النضال وشخوصه
المثير في ما يخص الفيلم أو عرضه هو الرفض التام وإصدار احكام المسبقة، دونما مناقشة أو محاولة للتفاهم، فكرة أن تكون سلطة ــ وهمية بالطبع أو بالتطبيع ــ كمقاطعة دار للسينما على سبيل المثال. حتى الآن يستغرب البعض مشاهدة فيلم من الأرض المحتلة أو قراءة رواية عبرية. فقط .. افتعال النضال الذي لا يختلف كثيراً عن افتعال فيلم سينمائي كما في القضية 23. فالأمر سيان، والكل يناضل بطريقته ولا يريد إلا سماع صوته وأصوات الرفاق المتوافقين معه. مع العلم بأن فيلم دويري لن يكون العمل الأخير الذي سيفجر مثل هذا الصخب وهذه المواقف، فالعرب ظاهرة صوتية كما قيل بالفعل.

"الهبوط من جبل مورجان" لـ أرثر ميللر ... الرأسمالية وضحاياها الأشد صلفاً




يعد (أرثر ميللر 1915 ــ 2005) أحد أهم رموز الأدب الأمريكي والعالمي، ولعل عمله "وفاة بائع متجول" يعتبر من أهم النصوص المسرحية في القرن العشرين، والذي من خلاله شرّح المجتمع الأمريكي وانتقده في قسوة بالغة، وكشف إلى أي مدى يبدو زيف هذا المجتمع الذي يتغنى ويتباهى بالحرية الفردية، لكنه في الحقيقة يسحق الفرد وفق منظومة رأسمالية لا ترحم. ومؤخراً صدرت ضمن سلسلة المسرح العالمي، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الترجمة العربية الأولى لنص ميللر المسرحي (الهبوط من جبل مورجان)، قام بالترجمة عبد السلام إبراهيم، وراجعه محمد مدين، وقدم له دراسة تأويليه أسامة أبو طالب.


إرث الخسارة ما بين ويلي لومان وليمان فيلت
"لماذا الأمور هكذا، الأسعد هي الأكثر حزناً؟ إنها الموضوعية اللعينة! مثل شعور الخالق عندما ينظر إلى البشر السعداء، يعلم ما يعلمه عن الديدان!". يأتي (ليمان فيلت) بطل مسرحية الهبوط من جبل مورجان كشخص يعرف كيف يعيش الحياة ــ يبدو ظاهرياً ــ مسؤول تأميني، ويعمل ضمن مؤسسة ونظام رأسمالي لا يرحم، واستطاع الرجل أن يحقق النجاح والثروة، والحصول على الحب إيضاً من خلال علاقته بامرأتين. وخلال حادث عارض وسقوط سيارته من طريق جبلي، ووجوده بإحدى المستشفيات، يبدأ في محاكمة نفسة وإعادة تمثل حياته السابقة. الرجل هنا لا يبحث عن فكرة التطهير التقليدية، ولا يتقدم باعترافات باكية، فهو يسترجع ما حدث، ويُصر على ما اتخذه من قرارات ظالمة للكثيرين، لكنها وفق منطقه تبدو عادلة إلى حدٍ كبير. وهو ما يختلف مع شخصية (ويلي لومان) في "وفاة بائع متجول" الشخص المنهزم، والذي اكتشف في النهاية أنه يعمل ويعمل حتى يبتني قبراً يسكنه. لقد استحوذ الحلم الأمريكي على شخصية ويلي لومان، واعتقاداً منه بإحدى قيم المدينة، التي تقول إن القوة تأتي بالمال. وأراد ويلي أن يحقق ذاته من خلال النجاح كبائع متجول، ولكن دافع الربح وغريزة المنافسة ومجموعة من ضغوط العمل تسببت بضعف في الشخصية، وأدى فشله المتكرر إلى فقدانه كل الاحترام لنفسه، وتدمير حياته الخاصة، وبات يشعر بعدم الأمان، وبأنه ليس رجل الأعمال الناجح الذي يدَّعيه. إن خطأ ويلي القاتل أنه بنى حياته ومفهومه للاحترام على كل شيء زائف تماماً، لقد فشل في الحياة إلا أنه يشعر بوطأة أكبر لذلك الفشل بسبب حقيقة افتراضه أن النجاح في الحلم الأمريكي متوافر لأي شخص! (راجع عواد علي/آرثر ميللر استقرائي زمانه والزمان المقبل). وعلى العكس من ذلك، فرغم النجاح الذي حققه (فيلت) إلا أن مأساته تكمن في ذاته، فهو ابن هذا النظام الاقتصادي وهذا النمط الحياتي، قبر الرجل هنا هو ذاته لا أكثر ولا أقل. "ذات مرّة حملت منّي فتاة رائعة كنت أعرفها منذ وقت طويل. أخجل من ذلك. أقنعتها بأن تحتفظ بحملها ... لكن كان عليّ أن أنهي العلاقة أو أفقد زواجي ... بعد سبعة عشر عاماً كنت أنهي إجراءات سفري، ورأيت هذا الشاب أمامي في الطابور. صورتي المنسوخة واضحة تماماً ... كان ملبسه ينم عن فقره، وكانت نظرته تعيسه". ومن خلال الفكرة الكبيرة هذه يبدأ ميللر في مناقشة التفاصيل الاجتماعية والقضايا الوجودية الكبرى .. الحب، الصدق، الحقيقة، الموت. 



محاولات تأويل النص
يبدأ أسامة أبو طالب في رؤيته النقدية للنص المسرحي، من إرشادات (ميللر) إلى مخرج العرض، وقد نص في بداية المسرحية على أن المسرحية "يمكن أن تقدم على مسرح مكشوف، والمشاهِد يفصلها الضوء، وتوزيع وترتيب الأثاث والملابس". هذه التعليمات تبدو من النص نفسه وليست خارجه عنه، فديكور المستشفى لا يمكن تصوّره سوى مساحة بيضاء ناصعة، معقمة، باردة وشفافة، وكأنها شرايين نزفت في جسد، وبالتالي يصبح هذا الجسد أشبه بالجثة، رغم مظاهر الحياة ومحاولات إنقاذ المرضى كما يوحي المكان وظيفياً، بما أنه مستشفى! هذا التقابل ما بين مكان الحدث وحالة الشخصية.
الأمر أيضاً ينسحب على كافة الشخصيات في علاقاتها المتوترة ببعضها البعض، فهم ضحايا لنموذج البطل الأمريكي، المليونير، الذي أصبح بطلاً مأساوياً عصرياً، يقوده قدره نحو مصيره، وفي سبيل ذلك يدمر الجميع. فالبطل هنا مُدمراً لذاته، بفعل ثقته في نفسه المُبالغ بها.
ورغم أن (ميللر) دوماً يعبّر عن المجتمع الأمريكي بكل تنوعه وتناقضاته وصخبه، إلا أنه ينتقي شخصيات قليلة وأماكن محدودة للغاية وزمن محكوم بدقة، ليصوّر من خلال ذلك بطله المأسوي في لغة ومجتمع العصر الحديث. لم يعد أوديب ملكاً الآن، لكنه رجل أعمال ورأسمالي كبير، يحب المال والنساء، وبعض من الحكمة، المتمثلة في موهبة قديمة أو حلم قديم في أن يصبح شاعراً! الأمر لا يخلو من حكمة متجاوزي الحد في الدراما الكلاسيكية، واليونانية بوجه خاص، وفي كل لحظة تتحقق مسيرته نحو سقوطه. "لماذا يجلس ملك الموت دائماً على كتفك، لديك من مقومات الحياة أكثر من أي شخص آخر؟!". هكذا قالت له زوجته.
وتبدو الصورة أوضح في التفاصيل الدقيقة، فالممرضة السوداء، التي بمجرد أن يستفيق "ليمان" يستنكر وجودها حالسة إلى جواره. إلا أنه في لحظات ضعفه يتوسلها البقاء "لا تتركيني وحيداً ... من فضلك اجلسي معي". ويندهش ويتعجب بعد حواره معها، عن طبيعة حياتها وحوارها مع زوجها وطفلها، وسعادتهم بعد شراء أحذية مُستعملة تبدو وكأنها جديدة تماماً. لتصبح حياتها "معجزة" حسب تعبير "ليمان" نفسه. فـ (ميللر) غي النهاية يُعيد صياغة البطل المأسوي القديم، في قياسات وسمات عصرية، ذلك بإعادة تعيين مفهوم البطولة، اللعنة، الخطيئة وتدمير الذات، وصولاً إلى الكارثة. فالبطل يقوم برسم المنطق لأفعاله، رغم أنها مؤثمة دينياً ومخالفة اجتماعياً، إلا أنه يؤمن أمام نفسه بأنه لم يؤذ أحداً.

تماثيل الميادين في مصر ... من محمود مختار إلى أصنام قريش

تمثال نفرتيتي بالمنيا


يبدو أن التدني الذي ضرب مصر سلوكاً وذوقاً قد طال كل شيء، سنوات طويلة ساعدت على انحدار الذوق المصري العام، نلحظ ذلك في نوعيات الطعام وشكل الملابس وألوانها، والسلوك اليومي في الشارع والمقهى والبيت. هذه الرِدة الحضارية التي تعيشها مصر تجلت أخيراً وبالتزامن في النصب التذكارية والتماثيل التي توضع بالميادين الشهيرة، وإن كان الأمر يدعو إلى سخرية من هذه الأعمال المشوهة، إلا أن النظرة الأعمق تدعو إلى الرثاء والإحساس بمدى الخيبة التي نحياها. لا نريد عقد المقارنات وزمن بعيد لحضارة نجحت في تجسيد رؤيتها من خلال أعمالاً فنية ــ وإن كانت دينية وقتها ــ من تشييد معابد وتماثيل ومقابر، ولكن المقارنة من الممكن عقدها بين أعمال مرحلة التحديث المصرية، والتي توّجت بأعمال محمود مختار في بدايات القرن الفائت، والتي توالت بعد ذلك ــ فن النحت خاصة ــ متأثرة بأفكار إيديولوجية، فترة انقلاب يوليو 1952، لتظهر أعمال العديد من رواد النحت المصري، يحدوهم الأمل وحُسن النوايا، وحتى ذلك التوقيت كانت الروح المصري لم تزل قائمة وإن كانت تضربها الروح القومي، وفكرة المد العربي المزعوم.

تمثال أم البطل بمحافظة سوهاج

الرّدة
ما أثار السخرية على صفحات الفيسبوك من الأعمال المشوّهة التي انتصبت في ميادين محافظات مصر المختلفة لم كن وليد المُصادفة، لكنه نتاج أول مَن سافر للعمل في دول الخليج وأتى وقد أطلق اللحية وارتدى الجلباب، حاملاً جهاز كاسيت في يده ويرطن بلهجة الريالات والدينارات ــ لم يكن للمتأسلمين هذا القدر من التأثير بين العامة ــ وبدأ أصوات غريبة تصم آذاننا بقراءة القرآن، وكأن المقرئين المصريين أصبحوا لا يستطيعون التعبير عن هذه المرحلة، الأمر ليس بعيداً عن تصورات ومعتقدات أخرى تضخمت في وعي هؤلاء، ونجحوا بمباركة الدولة ونظامها السياسي التابع إلى انتشارها، فكلمة الفرعون أصبحت معادلاً للكُفر والضلال ــ صورة الفرعون في التوراة، والتي تمت كتابتها في ظل الثأر من المصريين هي الصورة نفسها التي نقلها الإسلام في كتابه المقدس ــ وبالتالي أصبح النظر إلى تماثيل مصر القديمة بأنه شِرك عظيم، ولولا أن الدولة تسترزق من خلال هذه التماثيل والبنايات في ما يُعرف بالسياحة، لهدمتها من زمن. دخل الفن المصري في نطاق المُحرّم، وامتد التحريم الديني ــ منحول المصدر ــ تحريماً اجتماعياً، العديد من أقسام كليات الفنون مؤخراً عانت الكثير من المشكلات، لتحريم رسم ونحت المرأة/الموديل.

عماء الدولة وأجهزتها
وبما أن العقل الجمعي في لاوعيه يُقر بمسألة التحريم، وينتظر النعيم المزعوم، فالساسة بدورهم ــ وهم جزء من هذا الوعي ــ ينظرون إلى الأمر بالطريقة نفسها، بل وصل الأمر غلى الفنانين أنفسهم، سواء المعروفين أو المجهولين الذن قاموا بتصميم التماثيل الأخيرة. فمنهم مَن يعمل بهيئة التدريس ومنهم مَن يعتبر نفسه مَثالاً. يبدو ذلك في عمليات إنشاء أو ترميم وتجديد التماثيل والنصب التذكارية مؤخراً، وهو ما قامت به إدارة المحليات بالمحافظات المصرية، بإعادة طلاء التماثيل، كما فعلت في تمثالي محمد عبد الوهاب بميدان باب الشعرية، وأم كلثوم بالزمالك، وكل منهما للفنان "طارق الكومي". ولكن قبل التشويه وما شابه، هل هذه تماثيل تليق بهؤلاء بالفعل، من حيث النِسب والتصميم! ويبدو أن طارق الكومي يعمل وكأنه متخصص أو متعهد تماثيل الميادين، ومؤخراً قام بعمل تمثال بعنوان (أم الدنيا) بمحافظة السويس، والذى تم وضعه فى مدخل المدينة، وأثار غضب المواطنين، واعتبره البعض أنه لا يليق بطبيعة المحافظة بجانب التصميم السيئ. ليأتي رد الفنان بأنه كان مطلوباً الانتهاء منه فى وقت قصير، ليكون جاهزاً أثناء الاحتفال بافتتاح قناة السويس الجديدة. وهذه آفة الفنان الذي يصبح موظفاً لدى الدولة ومشروعاتها. ولنتذكر تمثال نهضة مصر الذي أصر محمود مختار أن يكون من أموال المصريين، فاشتركوا جميعاً في تكلفته عن طريق الاكتتاب، مفارقة الوعي هذه هي ما تجسد المأساة الآن.

عروس البحر بمحافظة البحر الأحمر

المناخ العام
وفي ظل هذا المناخ المتدني في كافة المجالات، وأهمها السياسي والاقتصادي، تتوالى الإبداعات، كتمثال بعنوان (حارس التاريخ) بمحافظة السويس أيضاً ــ يبدو أن لعنة القناة الجديدة أصابت المحافظة ــ والذي قام بتصميمه "د. سعيد بدر" الأستاذ بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، وهو تمثال طوله 10 أمتار، ويرمز كما أوضح الفنان الأكاديمي صانع التمثال إلى وجود رجل شامخ يقف حارساً قناة السويس التى تشهد على التاريخ والإنسانية كلها، وبالتالي أصبح التمثال يشهد بدوره على ما وصلنا إليه من ذوق فني رفيع.
تمثال آخر جاء في شكل الفضيحة المباشرة، وهو عبارة عن جندي يحتضن سيدة من الخلف ــ لم يكتمل التمثال وتمت إزالته ــ التمثال يحمل اسم (أم البطل) بمحافظة سوهاج جنوب مصر. وبعد السخرية المريرة منه، وما يرمز إليه من الجندي الذي يحمي السيدة، التي هي مصر، ويبدو أنه يتحرش بها أكثر من كونه يتظاهر بحمايتها، جاءت العديد من التعليقات، كان أكثرها تهذيباً أنه محاولة لعمل لقطة من فيلم "تيتانك". والعديد من الأعمال الأخرى كتمثال أحمد عرابي ورفاعة الطهطاوي وهدى شعراوي، الذي يُشبه تمثالاً لوجه مبارك المخلوع، ويبدو أنهم أرادوا الاستفادة منه، فألبسوه غطاء رأس ووضعوا اسم "هدى شعراوي" أسفله. والتمثال المشوّه ليوسف شاهين بالأسكندرية، الذي لولا كتابة اسمه لا يمكن التعرّف على صاحبه.
وما بين الجندي المغوار وراقصة الملهى المعنون بـ "عروس البحر" وهو تمثال وضع بمدينة الغردقة بمحافظة البحر الأحمر، وتمثال العقاد بمحافظة أسوان، الذي بعد تجديده أصبح يُشبه أحد شخصيات الزومبي، الأمر يبدأ من تصميمه المعيب بشدة وليس التجديد أو الترميم، وكذلك تمثال نفرتيتي بمحافظة المنيا، الذي توالت التعليقات بأن مَن قام به بالكاد عامل من عُمال المحارة/عامل بناء ــ يبدو أنه لا فارق بين عامل المحارة وأستاذ الجامعة ــ وصولاً إلى نُصب غريب بمحافظة بورسعيد، أطلق الناس عليه اسم "الببرونة" تتوالى الكوارث، والتي لن تتوقف في القريب.
فردود الفعل على شبكات التواصل الاجتماعي وأهمها الفيسبوك هي ما أدت للتخلص من فضيحة الجندي والمرأة على قارعة الطريق، أما الجهات المتخصصة كنقابة التشكيليين، وجهاز التنسيق الحضاري، الذي لا نعرف ماذا يفعل بالضبط، وأخيراً المجلس الأعلى للثقافة. هيئات ونقابات ومجالس تُعقد ومجالس تُفض، والتشويه على قدم وساق، فلن تسمع لها رِكزا. 

تمثال عباس محمود العقاد بأسوان

"داعش" وحركة البعث الديني ... تنظيم من مخلفات حزب البعث يتوسل بتراث الجهاد التكفيري!



قد تبدو المفارقة واضحة بين تنظيم يسير على صراط مستقيم من تراث حركات الجهاد التكفيرية، التي يحفل بها التاريخ الإسلامي، وبين طبيعته من خلال تأسيسه عبر بقايا قادة حزب البعث العراقي. الذين وجدوا ضالتهم في خطاب إسلامي قادر على استقطاب العديد من أعضاء وجنود هذا التنظيم. سنستعرض في البداية الجذور الفكرية التي يوهم بالاستناد إليها، والتي وجد ضالته في منهاجها المتواتر، ثم نتطرق إلى كتاب صدر حديثاً يحاول توضيح الصورة أكثر، كاشفاً كيفية نشأته وطبيعته وأهدافه. الكتاب للصحافي الألماني "كريستوف رويتر" وجاء تحت عنوان "السُلطة السوداء ... الدولة الإسلامية واستراتيجية الإرهاب". والذي يتوصل من خلاله إلى أن التنظيم يعود في نشأته إلى ضباط بعثيين من أتباع صدام حسين، خاصة العقل المدبر "حجي بكر"، الذي كان ضابطاً رفيعاً في مخابرات سلاح الجو العراقي. واعتمد الكاتب ــ الذي عمل في الشرق الأوسط لأكثر من ربع قرن ــ على العديد من الوثائق التي حصل عليها من مقاتلي المعارضة السورية بعد قتلهم حجي بكر في منطقة "تل رفعت" شمال حلب في يناير العام 2014. إضافة إلى شهادات أعضاء سابقين في التنظيم نفسه.

سقوط الأيدولوجيا
يعتبر تنظيم داعش من أعنف التنظيمات الجهادية والتكفيرية في تاريخ الحركات الدينية، ورغم أن التاريخ الإسلامي يشهد العديد من التنظيمات التي حاولت فرض توجهاتها وفكرها بالقوة، إلا أن الأمر في تنظيم داعش يختلف، ذلك لأنه من البداية يعتمد على الاستقطاب الطائفي قبل الأيديولوجي، إضافة إلى لغة الإرهاب التي لا يعرف سواها، في سبيل تحقيق حلم واهن هو عودة الخلافة وإقامتها على الأراضي العربية. إلا أن اللافت هو وجود جذور فكرية وحوادث سابقة استند إليها التنظيم، فلديه ميراث طويل من الفكر التكفيري والجهادي في تاريخ الإسلام كان من السهل العثور عليه دون مشقة، سعياً وراء هدف سياسي وبسط نفوذ سلطة سياسية لا شك فيها.

الإيهام بنهج تراث التكفير
كعادة الحركات والتنظيمات المتطرفة والمتشددة، هناك سوابق وأفكار يتبنونها، تعضد من الهدف السياسي الذي يسعون إلى تحقيقه. والبعض يرجع ذلك إلى الفرقة الرافضة للتحكيم بين علي ومعاوية، والخروج عليهما، خاصة بعد انتهاء حُكم الخلافة، وتأسيس النظام الملكي الوراثي في الإسلام. وبالتالي فهم ينتمون إلى ما يسمون أنفسهم بالخوارج. هذا الفكر من ناحية أخرى سيجد أساسه الفقهي أو التأسيس له من خلال المذهب الحنبلي، نسبة لأحمد بن حنبل أحد أئمة المذاهب الأربعة، هذا المذهب الذي تمسك بظاهر وحرفية النص، وابتعد تماماً عن التأويل.

من ابن حنبل إلى ابن عبد الوهاب
وسيأتي بعد ذلك ابن تيمية، الذي سيتخذ من فتاوى ابن حنبل مرجعاً لتبرير التشدد والتطرف، لكنه يتفوق عليه بأن تظل أفكاره حتى الآن بين مريديه حيّة، ومثار جدل كبير بين الفقهاء. وابن تيمية الموصوف بـ "شيخ الإسلام" هو صاحب التأثير الكبير على ما يُسمى بالـ "الصحوة الإسلامية" بمختلف تياراتها، خاصة السلفية الجهادية. وبعد ستة قرون ستأتي الحركة الوهابية بقيادة محمد بن عبد الوهاب، التي ستتخذ من ابن تيمية الأب الروحي لها، وما الوهابية إلا إحياء لدعوة ابن تيمية، والعودة بالناس إلى صحيح الدين، وتبني الجهاد كأسلوب لإقامة وتأسيس دولة الخلافة. ومن ناحية أخرى يتشابه تاريخ نشأة الوهابية مع ما تفعله داعش، من هدم للأضرحة وتنفيذ الإعدامات الجماعية، وإقامة ما يُعرف بالحدود دون قيد أو شروط. هذه هي الرؤية التي تحايل التنظيم ونشأ في ظلها، واهماً أتباعه بتبنيها والعمل من خلالها، وشاغلاً المُنظرين بالدوران في فلك المرجعيات والحوادث التاريخية، لكن الأمر في حقيقته حسب مؤلف كتاب "السُلطة السوداء ... الدولة الإسلامية واستراتيجية الإرهاب" يفضح تهافت هذه الأفكار، وكشف الكثير من المفارقات حول طبيعة التنظيم ودوره في إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة.

البحث عن دولة
يسرد المؤلف في البداية أن تنظيم داعش ما هو إلا جهازاً استخباراتياً يسعى لإقامة دولة، ثم يورد قصة "حجي بكر" أو سمير عبد محمد الخليفاوي، الذي كان يعمل عميداً في مخابرات الدفاع الجوي العراقية قبل حلها، فهو المُخطِط الاستراتيجي للتنظيم، مُستعرضا العديد من الوثائق لمخططات وجدت في منزله في تل رفعت بعد مقتله على يد الثوار السوريين في يناير 2014. موضحاً أن جميع الأحداث التي تلت مقتله تؤكد تمسك التنظيم بتعليماته وخططه بشكل كامل. فالتنظيم إذاً وريثاً لأجهزة مخابرات نظام صدام حسين المنقضي، وأغلب ضباطه من البعثيين. وبما أن موجة البعث لم تعد كافية لجذب الأنصار والمتعاطفين، فكان تصدير التنظيم من خلال الخطاب الإسلامي، وذلك لإضفاء شرعية تاريخية ودينية على أعمال التنظيم، ومن ناحية أخرى الضمان له بالإمدادات المالية والبشرية اللازمة، وهذا يمنحهم شرعية لم يكن يتمتع بها حزب البعث قط، ذلك لأنهم سيستندون هكذا إلى تاريخ عمره ألف وأربعمائة عام وليس ستين عاماً فقط. فتنظيم الدولة الإسلامية لا يعود إلى فقهاء وعلماء مسلمين، بل إلى جنرالات وضباط استخبارات علمانيين في حزب البعث العراقي. ويوضح الرجل أكثر .. بأنه عندما قامت القوات الأمريكية بغزو العراق وأقدم رئيس الإدارة الأمريكية السابق في العراق بول بريمر على حل الجيش العراقي، حينها تمت تصفية العديد من ضباط الجيش العراقي، وتسريحهم، فانتقلوا إلى مقاومة قوات الولايات المتحدة، وذلك من خلال تأسيسهم ما يعرف باسم "كتائب البعث"، وهي التي مهدت الطريق إلى تنظم "الدولة الإسلامية". وما الشخصيات التي تتصدر المشهد، كالـ "البغدادي" وغيره، سوى دُمى يتم تصديرها إعلامياً، لتعتبر واجهة مناسبة تضفي على التنظيم الشكل المطلوب، والابتعاد تماماً عن شخصيات وأفكار مؤسسيه الحقيقيين.

النظام السوري
ويذكر المؤلف من خلال العديد من الأحداث والوثائق مدى تورط المخابرات السورية في دعم تنظيم داعش والتعاون معه، منذ احتلال العراق في العام 2003. موضحاً كيف أن سلاح الجو السوري لنظام الأسد كان يعمل دائما في خدمة تنظيم داعش، بإنقاذه في معاركه مع الثوار، في حين أنه لم يتعرض إلا نادراً لقوات داعش التي كانت بدورها تعمل على إنقاذ قوات النظام من خلال قتال قوات الثوار. وهناك العديد من الحوادث الدالة كقصف القوات الجوية السورية التابعة للنظام العديد من فرق المتمردين عليه فقط، أما تنظيم الدولة الإسلامية فلم يتم قصفه، وذلك لأنه ــ بصفته رمزاً للإرهاب ــ يعتبر بمثابة هدية من الله بالنسبة لنظام الأسد، الذي لولاه لكان الجهاديون قد فرضوا سيطرتهم منذ فترة طويلة على دمشق.

الخطط
"سنعين أذكى العملاء شيوخاً للشريعة ... وسيتم اختيار عدداً من الأخوة وتزويجهم ببنات أكثر العائلات نفوذا لضمان التغلغل في هذه العائلات دون إدراكها لذلك". هكذا كتب "حجي بكر" في مذكراته، وهو ما يقوم به التنظيم بدقة، فالخطة دائماً تبدأ بالتفاصيل نفسها .. تجتذب المجموعة تابعيها عبر افتتاح مكتب دعوي. ثم يتم اختيار شخص أو شخصين ممن يحضرون الدروس والندوات الدينية ويوكلون بمهمة التجسس على قراهم للحصول على معلومات عديدة، ثم يتم تحديد الأشخاص المؤثرين والقادة العسكريين ورسم خريطة لتوجهاتهم وميولهم. كما يتم الحرص على الاحتفاظ بتفاصيل مخزية لهم، كالسوابق الإجرامية أو الميول الجنسية الشاذة أو الارتباط بعلاقات غرامية، وذلك لاستخدام هذه المعلومات بهدف الابتزاز في ما بعد. وفي وقت لاحق بات يتم كسب بعض الأعداء من خلال المال والمناصب، وفي نهاية المطاف وفشل هذه المحاولات يتم اختطافهم واغتيالهم. وإلى جانب ذلك كانوا يوزعون في الاحتفالات والفعاليات الدعائية المصاحف المجانية وينظمون في شهر رمضان وجبات الإفطار الجماعية وموائد الرحمن.

مصادر التمويل
ويصف كريستوف رويتر في تفصيل دقيق كيفية حصول التنظيم على الأموال، بداية من السيطرة على حقول النفط، وبالتالي بيعه، خاصة للنظام السوري، وذلك بسبب وجود المصافي لدى نظام الأسد. والمصدر الأهم بعد ذلك لا يتوقف على النفط أو تجارة الآثار، وإنما يتمثل في الضرائب والمصادرات من السكان الخاضعين لمناطق نفوذه. ويُلاحَظ أن التنظيم بعد الاستيلاء والسيطرة على العديد من مستودعات السلاح، شعر بأنه أصبح في غاية القوة، حتى أنه صار يقاتل ضد الجيش السوري نفسه.

السُلطة الدينية والعسكرية
لم تزل المنطقة الموسومة بالشرق الأوسط تقع بين السلطتين الدينية والعسكرية، وإن كانت في السابق تعيش السلطة الدينية في كنف سلطة العسكر، إلا أن هوجة البعث الديني قلبت الموازين، وأصبح تصدير الخطاب الديني هو الأكثر استيعاباً لتفعيل هذه السلطة على أرض الواقع، ولو جماهيرياً وإعلامياً، فالحروب الدينية هي سمة هذا العصر، وهي المنوط بها إعادة تشكيل وترسيم حدود المنطقة من جديد، بمساعدة نظم عربية ديكتاتورية، أضحى النظام الملكي الوراثي هو أساسها، وهنا تكمن المفارقة الأخيرة بين تنظيم مدعوم من هذه النظم، ويوهم باستناده الفكري إلى فرق قاومته بالأساس!



الجمعة، نوفمبر 10، 2017

"الإيمان والقوة .. الدين والسياسة في الشرق الأوسط" ... الخطر الإسلامي ومحاولات تجاوزه




"إن القاعدة فى الولايات المتحدة هى استخدام المال للوصول إلى السلطة، أما فى الشرق الأوسط فإن القاعدة هى استخدام السلطة للوصول الى المال". برنارد لويس. لا تزال مؤلفات برنارد لويس (1916 ــ     ) تثير الكثير من الجدل، خاصة في العالم العربي، وهو المختص بقضاياه وتكوينه الاجتماعي والسياسي والديني. ولا نجد من ردود الفعل تجاه أفكار الرجل إلا وتتسم إما بالرفض الشديد أو التأييد، رغم منطقية الأفكار وترتيبها داخل سياق يرتضيه لويس نفسه، ويستحرج منه النتائج التي تضعها السياسة الأمريكية نصب أعينها، واعتمادها كتابات الرجل وأفكاره في تأصيل وجهة نظرها للشرق الأوسط أو العالم الإسلامي بمعنى أدق. هذه الأفكار التي تتأكد من خلال مؤلفه المعنون بـ "الإيمان والقوة .. الدين والسياسة في الشرق الأوسط"، الذي صدر بالإنجليزية في العام 2010، وترجمه مؤخراً للعربية أشرف كيلاني، والصادر عن المركز القومي بالقاهرة ودار الكتاب العربي في 240 صفحة. وسنحاول استعراض بعض ما جاء من أفكار في هذا الكتاب الهام، والذي كان من المفترض ترجمته للعربية منذ صدوره.

الإسلام والدولة

يشير برنارد لويس بداية إلى أن مفهوم الدولة تأسس من خلال نشأة الديانة المسيحية، حسب مقولة السيد المسيح بإعطاء "مال قيصر لقيصر ومال الله لله". هنا تبدو كل من السلطة المتمايزة عن الأخرى، والتلازم المزمن بينهما، سواء في حالة صراع أو جوار. أما في الإسلام فلم يكن هذا المبدأ له معنى بالأساس، فالتواجد بين المؤسستين حديثاً أصبح من الصعوبة الفصل بينهما، رغم مظاهر هذا الفصل، فالواقع والممارسات الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية لا توحي بالتفريق بين الدين والدولة. ويعقد لويس مقارنته ما بين الإسلام والمسيحية، فقد أسس رسول الإسلام الدولة خلال حياته، وفعل ما يفعله رجال الدولة، فقاد الجيوش وشن الحرب، وعقد المعاهدات وجمع الضرائب/الصدقات، وأقام العدل وهكذا، بينما في حالة المسيحية .. فالذاكرة تحوي قروناً من الاضطهاد والاستشهاد، إنتهاء بالاستيلاء على الدولة، فالذكريات الإسلامية تحوي تطابقاً تاماً بين الإيمان والقوة خلال حياة المؤسس. ورغم المؤثرات الخارجية لتغيير هذا المفهوم، إلا أنه تم مواجهتها من تشكيك في مصداقيها وإضعافها، وأصبحت هذه الأفكار لا يقول بها سوى نخبة صغيرة مغتربة في هذه المتجتمعات، وبذلك وفي حالة رد الفعل كان لابد من العودة إلى المفاهيم الأقدم والأعمق جذوراً.

الآثمون

ويرى برنارد لويس أن التعاليم الإسلامية تحرّم فعل الانتحار، وبالتالي لا يجب الربط ما بين الإسلام والعمليات الانتحارية الإرهابية، والقائمون بهذه العمليات لا يفسرون دينهم تفسيراً صحيحاً، فحالة الاستشهاد ونيل الشهادة يتحقق في حالة الدفاع عن النفس والأرض، دون حالات الهجوم على الغير ــ هنا تتفاوت نظرة لويس ولا يذكر الحقائق كاملة حتى يتفرغ لما هو أهم ولمواصلة فكره حتى نهايتها، فحالات الهجوم و(الغزو) في الإسلام، أو ما اصطلح على تسميته بـ (الفتح) لم يكن بدافع اتقاء الخطر، ولكن ضمن مفهوم دار الإسلام ودار الحرب، إضافة إلى الظرف التاريخي وقوة الوجود الإسلامي وقتها، ككيان ديني ــ ويلفت برنارد إلى طبيعة الجهاد الإسلامي ــ وقت الغزوات ــ حيث تتوافق مبادئ الشريعة وقواعدها وقوانين الحروب، من حيث معاملة المدنيين التي يجب الالتزام بها، كتحريم تعذيب الأسرى وعدم الإساءة إلى النساء والشيوخ والأطفال. لكن أيضاً التجارب المتواترة لتلك الغزوات تنفي إلى حد كبير مقولات لويس البراقة في ظاهرها.

استهداف الحضارة الغربية

وبداية من التوسع الإسلامي، فإن سياسات الغزو لم تتوقف شرقاً وغرباً، لبنان وسوريا والأردن وفلسطين حتى مصر، مروراً ببلاد المغرب الموسومة بالنغرب العربي في ما بعد،وانتهاء بفرض سيطرتهم على إسبانيا، حتى نجاح الغرب المسيحي بعد عدة قرون في إزاحة الغزو العربي واسترداد هذه المنطقة من أوروبا ــ يبدو مدى الفصام العربي هنا في التباكي على ما يسمونه الحضارة العربية، وهو ما يعرف في الأدبيات السياسية والروائية بضياع غرناطة، وانحسار المد الإسلامي! ــ ثم نأتي إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وظهور الدولة العثمانية إسلامية الديانة، وممثلة الإسلام وقتها، عندما حاصرت فيينا، ونجح الغرب المسيحي أيضاً في ردهم. وفي الحالتين السابقتين كانت هناك مظاهر للقوة وظروف تاريخية واجتماعية أدت إلى محاولات اتساع الجغرافية ذات الطابع الإسلامي، ولكن ماذا عن مرحلة الضعف؟

اليائسون

مأزق الجيل الجديد من الإسلاميين يتجلى في المفارقة بين ما كان وما هو كائن، بين مجد غابر لا يستطيعون تصديق عدم عودته، ولا يريدون الاعتراف بعلمية التعاقب الحضاري وأطوار التاريخ، لذا كان اللجوء إلى محاولات اليأس، الي يراها لويس في موجات الهجرات من البلاد الإسلامية إلى أوروبا، ويطلق عليها (الهجمة الثالثة)، هذا الانتقال ليس تسليماً بالارتحال من جغرافيا إلى أخرى، فلم يستطع المسلمون تحقيه بالحرب والغزو، يسعون إليه اليوم من خلال هجراتهم الجماعية، والتي أسفرت عن خلخلة خطيرة، ديموغرافية وسياسية ودينية في المجتمعات الأوروبية التي حلّوا فيها.

ديمقراطيات متباينة

ينتقل برنارد لويس إلى مناقشة فكرة الديمقراطية ومفهومها في العالم العربي، وهل تتوافق مع تعاليم الدين الإسلامي أم لا. فينفي عن تلك الدولة التي نشأت في كنف الدين مبدأ الطبقية، ومُسمى السلطات الزمنية. فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولكن يظل دوماً الفارق ما بين التعاليم والنصوص وما بين الوقائع، فبداية من الخليفة وأمير المؤمنين وصولاً إلى جلالة الملك والأمير والسيد الرئيس، لم تغير الأمر إلا بتغير المُسميات فقط، وما شهده التاريخ من حالات تحققت العدالة والمساواة خلالها، تبدو قاصرة على طبيعة الشخصيات الحاكمة، دون أدنى استناد إلى فكرة أو قواعد قانونية أو أعراف تنتظم من خلالها طريقة عمل وأداء السلطة الحاكمة. ويذكر لويس مفهومه لطبيعة نظم المنطقة السياسية، ويصفها بأنها "الديكتاتوريات الشرق أوسطية"، التي تحتاج دوماً إلى الحروب من أجل تبرير وجودها واستمرارها. لكن المؤلف لا يذكر كيفية نشوء وتعاظم دور هذه الديكتاتوريات وقمعها لشعوبها، وكيف ساعد الغرب هذه الأنظمة، يؤمن لويس بديمقراطيات الغرب وضرورة مساعدة هذه الدول الموبوءة حتى تتنفس نسائم الديمقراطية، وإلا لن ينجو الغرب من تبعات هذا القمع الشرقي.

صراط المحاولات

وفي الأخير يبدو التساؤل المنطقي في إمكانية تحرير هذه الشعوب، وهل من الممكن نقل الحرية الغربية إليها؟ ورغم اعتراف برنارد لويس بالوضع الشائك والمضطرب الآن، لأن هذه الحرية المستوردة محفوفة بمخاطر عدة، فهنام الشعور المتأصل بمعاداة الغرب، لأنه المؤيد للنظم الديكتاتورية الشرقية، ويرى المفارقة في تأييد الشعوب لأمريكا في حال معاداة نظامها السياسي، وإيران المثال المتوفر بالطبع. فالحل وإن كان صعباً ويستغرق وقتاً طويلاً هو الاستمرار والمساعدة في تطوير المؤسسات الحرة، رغم القوى الداخلية التي تعمل بكل طاقتها ضد هذه المؤسسات، فالمحاولة صعبة ــ حسب رأيه ــ ونتيجتها غير مؤكدة، ويختتم بعبارته الدالة .. "إما أن نأتي إليهم بالحرية أو أن يدمرونا".


برنارد لويس


الكتاب: الإيمان والقوة .. الدين والسياسة في الشرق الأوسط
المؤلف: برنارد لويس
ترجمة: أشرف كيلاني
الناشر: المركز القومي للترجمة ودار الكتاب العربي 2017.


*نشر بالقدس العربي في 14 مايو 2017.

الخميس، نوفمبر 09، 2017

Ajami … ما بين جحيم الأعراف العربية والشعب المختار




 بعيداً عن الشعارات الطنانة، والتنديد بمساوئ الاحتلال، ومشاهد الفضائيات ومانشتات الصحف، تأتي الواقائع لتصبح أشد قسوة من معالجات فنية مباشرة، حاولت تجسيد ما يدور في الأرض المحتلة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بـ عرب 1948، والنظرة المشكوك بها على الدوام من قِبل العرب والإسرائيليين إلى هؤلاء، فالعرب وباقي الفلسطينيين يضعونهم في مصاف الخونة، بينما إسرائيل تريدهم أن يرتلوا تراتيل الولاء، بل والإيمان بالدولة العبرية، حتى في مشاحناتهم اليومية بينهم، تبدو تهمة الخيانة هي الأسرع والأكثر شيوعاً على ألسنتهم! فما بين ثقل العادات والتاريخ، وعبء الوضع المختل للكيان الإسرائيلي يشعر الجميع بالمأساة، التي لا يستطيع أحد النجاة من تبعاتها، سواء من الفلسطينيين أو الإسرائيليين، فالجميع منسيون فوق هذه الأرض، وكأن قوى خفيّة تصوغ خطوط حيواتهم، وتتلذذ ساخرة بمشاهدة ألعابهم الطفولية الساذجة. فهم ضحايا على رغم مظاهر القوة المزعومة، وما بعض انتصاراتهم الوهمية سوى لحظة وسَن، يستفيقون منها وقد استهلكوا أعمارهم وحياتهم، بعدما تأكدوا أنهم الخاسرون في النهاية.

وعلى غرار فيلم "مدينة الله" لـ Fernando Meirelles، يأتي فيلم "عجمي" ليستعرض في أسلوب يقترب من التوثيق الحياة في أحد أحياء يافا، والذي يحمل الفيلم اسمه. فالحكايات والشخصيات تمثل أنماطاً ونماذج مختلفة لكل مَن يعيشون داخل هذا الحي، إضافة إلى الوقائع الاجتماعية والصراعات الناتجة عن محاولات العيش والتعايش المستميتة بين ثلاث ديانات وأعراف قبليّة وإيديولوجيات تتحكم في سلوكهم، الذين يحاولون بشتى الطرق الانفلات منه، لكنه في النهاية مصير محتوم، لا يمكن الهرب منه أو حتى التفكير في تجاوزه، رغم المظاهر الهشة لشكل الحياة المشتركة. الفيلم إنتاج كل من إسرائيل وألمانيا، أداء .. فؤاد حبش، نسرين ريحان، إلياس صابا، يوسف صحواني، إسكندر قبطي، رنين كريم، عيران نعيم. سيناريو وإخراج إسكندر قبطي/يارون شاني.

ضحايا خائبون

تبدو لعبة الضحية التي يتمثلها الطرفان ويتقاسماها في الوقت نفسه ذات وجهين .. أولهما يتمثل في ما أورثه تاريخ الشعب اليهودي للعرب، وقد تبادلا الأدوار الآن، وما زال البعض منهم ــ اليهود ــ يصر عليها، بعدما أصبحت من مكونات شخصيته، رغم كل ما تم إنجازه ــ من وجهة نظرهم ــ وقد أصبحت لهم دولة اسمها إسرائيل، التي يتعلل قادتها لمواطنيهم دوماً أنهم لا زالوا يعيشون هذا الدور، ولا بد من تقديم المزيد من التضحيات! والوجه الآخر يتمثل في التقاليد العربية، التي تصبح أشد قسوة من سياسات جيش الاحتلال، التقاليد التي لم تُقْدِم إسرائيل ولن، لا نقول على التخلص أو الحد منها، بل حتى تهذيبها، ليمارس العرب بداوتهم، ونظرة الارتياب في الآخر، حتى لو كان هذا الآخر من جيرته، لكنه ينتمي لعائلة أخرى، كتقاليد الثأر والدِيّة، وهي محاولة توفيقية باهتة ما بين العقل القَبَلي والحل الديني الشرائعي! ذلك كله يحيطه الإطار الأهم، والذي جعلنا نتذكّر سريعاً البيئة التي تدور بها أحداث فيلم "مدينة الله"، هو الوضع الاقتصادي المُتردي، وغياب القانون تماماً، إلا حسب هوى سلطة الاحتلال. فالفيلم من الممكن أن يتم سرد أحداثه في أي مكان من دول العالم الثالث ــ الأمر الذي أزعج إسرائيل بما أنها ترى نفسها ليست في تخلف جيرانها ــ فالفقر والبطالة والجريمة والمخدرات هي أسس هذه المجتمعات، وقانون القوة والعادات القبلية هو الذي يحكمها، ويتحكم بمصائر أفرادها، ومن الطبيعي أن يتم استبدال شرطة المحتل في الفيلم، بجهاز بوليس قمعي في أي دولة عربية، وقتها لن نجد فارقاً يُذكر، وهو ما تؤكده حالة المعاناة الجماعية، التي تعيشها كل شخصيات فيلم "عجمي". فالجميع لديه أملاً في الهرب دون جدوى .. عمر من الثأر، حنا من بيئته، مالك من البوليس، وداندو من حياته الكئيبة.

بناء ملحمي وسرد حداثي

ينسج الفيلم محاوره السردية من خلال ثلاثة شخصيات رئيسية (عمر/حنا/داندو)، تتزامن حكاياتهم وتتداخل مع الصراعات الصغيرة التي تجسد طبيعة الحياة فوق هذه البقعة المشتعلة من الأرض، التي تنوء بأوبئة المجتمعات المنسية، من جرائم منظمة وتجارة مخدرات وبطالة، وفوق كل هذا قوى الاحتلال، التي تحاول السيطرة حسب مشئيتها وتحقيق العدالة وفق هواها، تاركة النزاعات بين العرب وبعضهم، وبين العرب والإسرائيليين رهينة مصالحها العليا، بينما الجميع يعانون المعاناة نفسها، دون تبجيل رومانتيكي لطرف عن آخر. 



عمر

الذي يجد نفسه بالمصادفة هدفاً للقتل، نتيجة تورط أحد أقاربه بإطلاق النار على آخر، جعله قعيداً، فما كان من عائلته إلا تطبيق آفة الثأر المتأصلة في التكوين العربي، وقد أوقع عمر حظه العاثر بأن يصبح هو الضحية، وقربان العرف العربي. هذا القربان نفسه يتم التعامل معه من قِبل (إلياس) المسيحي والد الفتاة التي يحبها عمر، والذي لم يجد عمر في البداية مَن يُساعده على عقد الهدنة بينه وبين العائلة العربية المسلمة، سوى إلياس، المتسامح والمتمتع بسمعة وسطوة لا تتوافر لأحد بالحي. إلا أن تعاطفه مع عمر ينقلب إلى عداء شديد، بمجرد معرفته بعلاقة عمر وابنته، ويتحول الرجل المتسامح في لحظات إلى أحد المتشددين المتعصبين، طارحاً اختلاف الديانة عائقاً أمام قصة الحب، ثانياً لأن عمر ــ الآن ــ شبه محكوماً عليه بالموت، وما هي إلا مسألة وقت. فهو يرفض أية علاقة بينه وبين ابنته، بل ويتواطأ مع الشرطة للإيقاع بعمر، والتخلص منه نهائياً. التسامح نفسه الذي يجعل إلياس يأوي مسلماً آخر (مالك) ليعمل لديه دون إقامة شرعية، ويدبّر له نفقات علاج أمه المريضة، حتى أنه وابنته يتذكران جيداً عيد ميلاد مالك، الذي أتم السادسة عشر، ويقيمان له حفلاً صغيراً، وكأنهما بالفعل أسرته الحقيقية، وهو أصغر أفرادها. لينقلب إلياس أيضاً عند مواجهة موقف حقيقي يمسّه مباشرة، فلا تعود الحكمة هي التي تقوده، بل التعصب، حتى أنه يرسل مالك لمرافقة عمر، وهو يعلم أن فرصة نجاته شبه منعدمة.

حنا

يرتبط بصديقة إسرائيلية، ويحاول الفرار من الحي العتيق الذي ولد به، والانتقال للعيش مع صديقته في تل أبيب، ويلاقي التوبيخ من رفاقه، بأنه منذ زمن وهو يرفض حياتهم وبيئتهم، ويتعلق باليهود، وها هو الآن يريد ترك الحي تماماً والسعي خلف امرأة إسرائيلية. إلا أنه يتورط في تجارة المخدرات التي يقوم بها أخيه، فيصبح هدفاً للشرطة، التي تحاول السيطرة على هؤلاء التجار. فالحياة التي يحياها حنا، هي المثل والحلم بالنسبة لباقي شباب الحي، بداية من الملابس الغالية الثمن، إلى بيته الخاص، وحفلاته التي تجمعهم، وحالة الحريّة ونسيان الخوف والقلق الدائم الملازم لهم، كعمر والموت الذي يلاحقه، ومالك والموت الذي يلاحق أمه. حنا الوحيد الذي يوفر للجميع أوقات مسروقة من السعادة، وكأنهم في حلم لا يريدون مغادرته أبداً. ورغم ذلك يقع حنا بين لوم أصدقائه على ترك الحي ومصادقة فتاة يهودية، لا يمكن حُسبانها سوى من الأعداء، إضافة لاختلاف الديانة بينهما. أما على الجانب الآخر يحاول حنا التعلق بمجتمع وطريقة حياة صديقته، يرقص ويشرب ويتحدث العبرية، إلا أنه عندما يغضب أو ينفعل، لا يجد سوى العربية التي تخرج بها مفرداته أكثر صدقاً وقسوة، فيفشل في الانتساب إلى مجتمع هارب إليه، ليعود سيرته أمام نفسه، وكأن حالة التصالح أو الهرب، ما هي إلاّ حالة مصطنعة، تنكشف فور خروجه عن سيطرة عقله.

داندو

ضابط الشرطة الإسرائيلي بالحي نفسه، والمكلّف بتحقيق الأمن، والقبض على تجار المخدرات، الذين يفوق عددهم الحصر، إلا أنه يعاني أمراً آخر يرمي بظلاله على حياته وحياة أسرته، فأخيه المجند مفقود منذ زمن، وهو يحاول البحث عنه دون جدوى، فقط للتأكد بأنه مازال على قيد الحياة. يُلاحظ على الجميع أن الصراع النفسي بالأساس هو ما يحاولون الفكاك منه، أو مواجهته كل بطريقته .. عمر الذي يحب فتاة أقرب إلى الثراء، أو الاستقرار المادي إلى حد كبير، أصبح مُضطراً للعمل بالمخدرات، كما أن الموت ينتظره في النهاية، بينما حنا حائر بين بين هويته، التي تسبب له الكثير من المشكلات، وبين حياة أخرى يرغب العيش في ظلها، وأخيراً داندو .. الذي يحاول أن يتعامل بعقلية ضابط الشرطة المنضبط، وأن يكون هدفه هو تطبيق القانون، فلا يجد غير لوم الزملاء، الذين يصفون طريقته بأنها غير مجدية، ولكن فقده أخيه، جعله أكثر تشدداً، مما أدى به الأمر في النهاية إلى نسيانه القانون ومهنته، وأن يصبح قاتلاً.




مزحة ديمقراطية إسرائيل وتهافت العرب

كلمة أخيرة حول ما أثاره الفيلم من ردات فعل متباينة داخل إسرائيل وخارجها ..
بدايةً اعترض الكثير من العرب على الفيلم بحجتهم الواهية نفسها بأنه من إنتاج إسرائيل، التي لا يقتصر اعترافهم بها إلا جهراً. والبعض الآخر من العرب أثنى على الفيلم، بل وعُرض في العديد من المهرجانات العربية، رغم كونه إنتاج إسرائيلي، لكن السبب يعود إلى موقف "إسكندر قبطي" حينما أعلن عند وصول فيلمه للترشيحات النهائية للأوسكار وقتها، قائلاً "أنا لا أمثل دولة إسرائيل كما أن الدولة ذاتها لا تمثلني". وبينما عبارة (قبطي) ــ الذي عمل في بداياته مساعداً لعيران ريكليس ــ صالحته مع بعض العرب، نجدها فجّرت أزمة حادة داخل إسرائيل، التي لم تتوقع ديمقراطيتها هذا التصريح، فهاجمه العديد من نواب الكنيست، خاصة اليمين بمواقفه المعهودة ــ والتي تتشابه وجهل المتشددين المتأسلمين عندنا ــ حتى أن الأصوات تعالت باقتراح تعديلات على قوانين السينما الإسرائيلية، تتلخص في أن تتوقف الهيئات المعنية في الدولة العبرية عن منح أي عمل سينمائي التأييد والدعم، إلا بعد حصولها على تعهد مكتوب من مخرج الفيلم، والمؤلف والمنتجين والممثلين المشاركين فيه، بعدم المساس بالولاء لدولة إسرائيل، ورموزها اليهودية والديمقراطية. 



*نشر بالقدس العربي في 23 أبريل 2017.