إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، ديسمبر 17، 2011

من حكايات إزميرالدا



(1)
حكاية الرجل المعتوه

الرجل المعتوه، الذي لم يبرح كرسي خياله منذ تعديه العشرين، والذي خلق حياة لغرباء لا يعرفونه، ظل طيلة خمسين عاماً يحاول أن يبادلهم السلام، وأن يجادل ملامحهم، راسماً لهم تجاعيد تليق بهم فوق حائط غرفته المغلقة عليهم، وعليه بالطبع.
المعتوه الذي خلقني كتذكار يقيه شر الوحدة، وملل الخوف . .
لم تشفع له لوحات ملفوفة رتلها عليّ، وعلمني تفاصيلها بيقين مخشوع،
لم تشفع له رحلات كثيرة، ومسافات طويلة لم تتعد بلاطات حجرته/
كنيسة داومتْ على زيارتي/تنيناً مجروحاً أحتفظ بدمائه بين كفيّ/
فأبكي مُشفقة على دمه الحي، وأبصق على شمعة تنير وجه قاتله.
لم تشفع له زيارات آحادٍ كئيبة، ونزهة تتسم بالبراءة، رغم تنانير قصيرة مُهرّبة وأزهاراً تذبل قبل عبوري بوابة حديدية، أسرع من سلام فاتر ألقيه إليه كمتسول. أزهار تتفتت في جيب طفولتي كتعويذة ضد كوابيس أقل سخافة من وجهه، وأكثر احتمالا من ملمس يده كلما مسح دموعي، أو آمني من خوف.
المعتوه .. الذي لم يبرح كرسي خياله وقد لمس أعوامه الخمسين
قرر أن يكون احتفالياً وفق مشيئته، التي لم تتعد عتبة حجرته،
قرر أن يفتح نافذة وحيدة تبادل غباءه الرقص/ترسل السلام والتحيات     لغرباء لم تزل طفولتهم تساومهم على نسيان جرح حي.
 
(2)
حكاية البنت العبيطة
 

وضعتْ جسده فوق ترابيزة التشريح، بعدما نزعت ملابسه في سهولة، أكثر بكثير من تفاصيله الباقية في ذاكرتها. وحتى لا تتوتر أكثر، وتسمح له بالمساومة .. فصلت الرأس عن الجسد في ضربة واحدة ، وهي تدعو في سرها أن تظل عيناه مفتوحتان. وبالمصادفة سقط الرأس بجوار حذاءها، وبالمصادفة أيضاً حدّقت العين المفتوحة في يد صاحبها المدلاة، دون أن تلتفت الواقفة، التي كانت منشغلة بتأمل الجسد الملقى في صورته الجديدة، رغم الدماء المتناثرة على وجهها، والتي لونت مساحة من صدرها العاري.
نظرتْ إلى الدماء التي نمّشت صدرها، وإلى خيط أحمر بدأ يسيل ويرسم له طريقاً نحو الأسفل، تأملته جيداً، وأزاحت بعض من خصلات شعرها الأسود،
وفي التفاته غير مقصودة لمحت العين المفتوحة بجوار حذاءها عالي الكعب،
فوضعت حداً للخيط الأحمر، الذي بدأ يتسلل لأسفل أكثر من اللازم، فأدركت خبث صاحبه .
جاءت بالكرسي الوحيد بالحجرة، واحتوت الرأس بين راحتيها، جلست،
وأراحت الرأس بين فخذيها، وبدأت في تضفير الشعر، محاولة بكل الطرق
ألا تلتقي وعين الرأس المضفورة، ومع كل حركة بدأت الرأس تحتل مساحة
لئيمة بدأت بشبه انفراجة للفخذين القاسيين، ومع كل ضفيرة جديدة تشد جلد الرأس وتزيد من تجاعيد الجبهة، كان هناك مزيد من ليونة تتسرب إلى الجالسة، مع معاودة خيط الدماء السير في مسار صحيح، حتى استقرت الرأس بين مكمن الجالسة، وعينها المفتوحة تطالع الوجه المتحفز في ابتسامة مربكة.

(3)
حكاية القديس


كقديس كهل/
هوايته الوحيدة لملمة اعترافات الأطفال
كتسلية بيضاء
في لون شعره،
دون التورط في ألعاب يجهلها.
احتفظ اليوم بخطيئتين، لم يسمح لهما بالتداول.
تحفظ الأولى درجة خشوعه أمام الآخرين،
والثانية تسمح له بالبكاء بينه وبين نفسه. 
بخطيئتين ومسبحة ..
ساوم رفيقة خياله
ــ رغم خيانات غيبية يجهلها ــ
طيلة أعوامه الخمسين
كتعويذة أو طقس يأخذ فرصته في المباهاه
تدخين أعوامه مثلاً كل ليلة/سماع حكايات عجائز حكيمات
يتقيأ نهاياتها عند مقابرهن/حفظ قصاصات عن لصوص احتفظوا بحبيباتهم
عند حد المقاصل/تربية القطط الشرسات/الجلوس مع الله أحياناً
حينما تكون ربته منشغلة عنه بفيلم السهرة، أو تعد قهوتها
التي يشرب بقاياها باردة فينصرف عنه الله،
لأنه ــ القديس ــ لم يُحسن كرم الضيافة.
وهكذا ..
أخذت تطوله المساومة
دون أن تمَس ربته،
التي أتقنت اللعبة ورسمت ملامحها فوق مسبحته،
مدركة أن ضحك الأطفال سوف يزيد من انحناءة ظهره
واعترافاتهم ستجعله يتعثر في ثوبه الفضفاض،
الذي سيزداد اتساعاً بقدر خبثهم
ولا مبالاتها
التي سيمسكها اليوم بين خطيئتين
تسمحان له
بشرب القهوة في ميعادها
وصلاة سرية
تبرر غيابه عن ميعاده العرضي مع الله.

(4)
حكاية للفتيات الطيبات

الرحيمة التي انتوت وداع الجميع، ابتلعت شريط الأقراص المنومة عن آخره،
واستسلمت لفرح يخصها وحدها، ولكنها نست أزهارها المتراصة ــ كبنيان على شرفتها ــ فاستسلمت لتأنيب الضمير.
الرحيمة تذكرت وصايا قديمة، منقوشة على لوح طفولتها، وصايا عديدة انتهت صلاحيتها عند خدش صغير على فخذها الأيسر، رغماً عن تنانير تتصنع النعومة.
الرحيمة التي أشفقت على أزهارها، لم يشفق عليها آخرون، تنفسوها
في ما بينهم، وعلقوا صورتها على حوائطهم المجروحة بضوء براءتها/
الآخرون تراصوا كبنيان أمام شرفتها، فابتسمت وتلت التعاويذ، وهي تمر بينهم وتهيل التراب، بينما أعضائهم المنتصبة كحراب مسنونة بدأت في الارتخاء والتوَت تلف أعناقهم، كما سيخطف أبصارهم نور خدش قديم، وبراءة مصطنعة من تنانير امرأة أنبها ضميرها حين نظرت إلى أزهارها المتراصة كبنيان.
الرحيمة التي تعودت إحكام غطاء رأسها، حتى يظن الجميع أنها ابنة حلال، والتي تعودت بعد ظهور خيط أحمر رقيق، ألا تتبادل السلام مع أبناء عمومتها، وأن تخجل من نظرة عارضة لأبيها حين يفاجئ شرودها، وأن تستسلم لحكايات قديمة لم تتعرف مصدرها، عن بنات جميلات مخدورات لا يصافحن الشبابيك، ولا وجوه الغرباء/بنات يخفين حرارتهن وقت الصلاة، ويمارسن الوحدة مع الله!
ويتذكرن جلسة جداتهن وعروق أيديهن الخضراء، تمسد شعورهن وتخدش بدون قصد جباههن الناعمة، فيدعون لهن بطيلة العمر.
الرحيمة الآن توحدت وتأنيب الضمير، الذي لم يمنع يدها من التصلب فوق رشاشة الماء، والأخرى تشد تنورة عن آخرها، لتخفي خدش قديم لن يغادرها بسهولة، كما حكايتها التي لن تغادر ذاكرة فتيات طيبات، يخاصمن الزهور ويعشقن المتاريس.   

الأحد، أكتوبر 16، 2011

البائسون


يرى الكثيرون أن الثورات العربية التي بدأت، والتي يبدو أنها لن تنتهي في القريب، يرون أن نجاحها يتوقف على حسم أمر جيوش ومؤسسة العسكر في هذه البلاد، فقد وقفوا بجوار الثورة، والمثال المتحقق الآن للحديث عنه هو حالة تونس ومصر، بغض النظر عن الصراعات الدائرة في ليبيا واليمن وسوريا. ولكن السؤال هنا يدور عن موقف المؤسسة العسكرية في الدول التي يبدو من بعيد أنها انجزت ثورتها ــ وهو ما يخالف الحقيقة ــ عقلية العسكر دوماً تبتعد مسافات شاسعة عن عقلية الثوار، وهو ما يتحقق الآن على أرض الواقع. ومن المفترض أن يراجع الجميع وجهة نظرهم التي تكونت بفعل السلطات القمعية في تمجيد وتبجيل العسكر، وقد أثبتت الأيام أنهم لا يبحثون سوى عن مصالحهم ومنافعهم، بغض النظر عن ثورة أو ما شابه. ويعود هذا على ما نظن إلى بؤس نفسياتهم وتركيبتهم وتربيتهم العسكرية. في فيلم "عودة الابن الضال" ليوسف شاهين، كان الأخ الكبير ورب الأسرة الفعلي هو من يتحكم بالجميع، وبينما أخيه المناضل يقبع في سجن النظام الحاكم، الذي آمن به وبمشروعه القومي! يقوم الأخ الأكبر باستباحة الجميع، حتى خطيبة أخيه، التي تغزل انتظارها، وتمارس صبرها المكبوت، لم تسلم من اعتداء الأخ الأكبر عليها، وقد حول البيت والقرية كلها إلى ما يشبه الثكنة العسكرية. لا أحد يتنفس إلا بأمره، يعيش في عزلة مميته، رغم الصخب والضحك المزعج الذي يثيره حوله دائماً، دون أن ينسى أنه ضحى من أجل الجميع، ضحى بوقته وحياته ومستقبله من أجلهم جميعاً، وينتظر رد الجميل في صمتهم، وتحيته على أفعاله، حتى ولو شوه نفسياتهم وحياتهم. فهو لم يمسه الخطأ قط، ويعرف مصلحة الجميع، السذج، الذين لا يدرون ما يفعلون. هذه النغمة ذاتها يتردد صداها في نبرة كل ديكتاتور، وكل سلطوي، عارضاً تضحياته كجندي مجهول، ولا يريد سوى سماع عبارات الشكر الدائمة من ضحاياه. المفارقة التي جاء بها يوسف شاهين في ذكاء بالغ، مفارقة ومبرر سلوك هذه الشخصية البائسة، هو أنه كان طالب سابق بالكلية الحربية، وتركها لرعاية أملاك أسرته، عسكري سابق ليس أكثر، لم يتحقق حلمه في بدلة عسكرية ونياشين وتصاوير في الصحف، فأراد تحقيقه فوق أحلام ذويه، عسكري السلوك والروح، فكانت نهايته جديره به، فهل سينتهي الآخرون كذلك، ولو بشكل رمزي؟

الأربعاء، أكتوبر 05، 2011

لا أستطيع سوى كتابة رسائل حب!



لم يكن "فلورنتينو إريثا" سوى عرّاب عشاق كبير، وعاشق أكبر. لم يكن يملك سوى روحاً صادقة يبثها عبر رسائلة لـ "فيرمينا داثا" ربة مخيلته وقديسة روحه. كان يسير في طريق بعيدة مجهولة، تليق بوحي خيال معشوقة ظِله. هذا الظل الذي استوى فوقه في صراط ليس بمستقيم مجموعة من العسكر الرسميين، فالحرب مشتعلة في كل مكان، والثوار يحاولون، ويحاولون، كما كان يحاول عرّاب الهوى لملمة ظله من أسفل أحذية خنازير السلطة الأغبياء! ظنوه ثورياً من المغضوب عليهم، "ولكنني لا أستطيع سوى كتابة رسائل حب"، هكذا أجابهم، متوسلاً ببركات قديسته الطاهرة، ليُشهدها على ما يحدث. أيام وأيام من التعذيب، وبيقين نبي كان يدرك أن روح الجميلة تواسيه. نجحت الثورة واحتفل الثوار، وخرج رب العشاق من غياهب التجربة متوجاً من الجميع كثوري ومناضل، و ....، و....، هذه الصفات التي التي لازمته زمن، والتي نفاها في كل لحظة، مؤكداً فقط أنه لم يكن سوى كاتب رسائل حب! وأن وحي الشجاعة الذي كان يزور وحدته كل ليلة، لم يكن سوى رسالة خجولة من حبيبته المخلصة إلى أبد الآبدين. فلورنتينو كان مناضلاً بالمصادفة ليس أكثر، لم يكن يشغله مما يدور في بلاده سوى حكاية حبه الأسطوري لفرمينا، الفتاة المدللة، الحادة والخجولة جداً، والتي أرجع إليها الفضل في تحمله كافة أنواع التعذيب، التي لم تكن سوى إحدى ضرائب حبه الوحيد. لكن ما يميز الفتى كان صدقه العجيب مع نفسه أولاً، ومع الآخرين، فلم ينجرف وراء مفردات زائفة ستكشف عن نفسها في يوم ما. كان "جابريل ماركيز" يدرك جيداً وهو يعيش في بلد يعاني من الانقلابات والثورات، أن الكثيرين سيقنعون أنفسهم ويتحدثون باسم ثورات لم يخوضوها، وسيواجهون الآخرين بكل بجاحة وصلف أكثر قسوة من الذين انتصروا عليهم، فجاء فلورنتينو إريثا بطل "الحب في زمن الكوليرا" ليواجه هؤلاء، ويُعرّي أرواحهم الخربة. فهل يمتلك مسوخنا الثورية اليوم ــ وقد تناسوا تاريخهم ــ طيف شجاعة وصدق رب الوله المزمن، ويهمسون يقين رسائلهم؟ وقتها سيدركون أنهم لا يستطيعون سوى كتابة رسائل حب.

الأحد، أكتوبر 02، 2011

"الأورليانيون" ووصمة أن تكون ثورياً!





في رواية "مائة عام من العزلة" لجابريل ماركيز، جاءت لفظة "الأورليانيون" وهم أبناء إحدى شخصيات الرواية العقيد "أورليانو بوينديا"، هذا الرجل الثوري، الذي أخذ رتبة العقيد نظير خدماته وحروبه الطويلة في سبيل الثورة. وفي غمار رحلاته الثورية، كان يرمي بذور نضاله في أرحام نساء كثيرات مختلفات، حتى تكوّن ما سُميّ بالأورليانيين. هؤلاء الأبناء عادوا في النهاية إلى مسقط رأس أبيهم، للبحث عنه، والعيش في حرية عالمه الثوري، ولكن كان رجل الدين في القرية لهم بالمرصاد، وكمحاولة مستميته للحفاظ على هيبة سلطته، توصل لاتفاق بأن يُعمّد هؤلاء الرجال الأطفال، حتى يصبحون أولاد حلال. وبعد موافقة العقيد على الخدعة، ظل صليب رحلة التعميد فوق جباههم وصمة لا تمحى، مما سهّل عملية اصطيادهم والقضاء عليهم من قِبل أعداء العقيد، وهم بالأساس أعداء الثورة. فلا يجد العقيد في النهاية بعدما فقد أطفاله/مستقبله إلا الجلوس إلى رصيف تاريخه الذي لا يعرفه أحد من الأجيال الجديدة. لقد تهاون الثوري الذي لم يخش طلقات الرصاص، وندوب جسده التي شكلت خريطة روحه. تهاون مع سلطة قائمة، لن تترك دورها ومكانتها بسهولة، سواء تمثلت هذه السلطة في رجال الدين، أو الأعراف والتقاليد البالية لمجتمع يخشى ولو لمرّة أن يتنفس في حرية. لذا نأمل ألا يأتي الوقت الذي يصبح فيه "أورليانيو الثورات العربية" مطاردون في كل مكان، إذا تنازل أحدهم ولو للحظة مع السلطة العتيدة في المجتمع العربي، الذي يتقاسم بطولتها كل من الجيش ورجال الدين، وما يحملونه من فكر لا يرى في المستقبل إلا تجميد الواقع الراهن، ولن يسمحوا لغفلة أخرى تطول عمائمهم وكاباتهم العسكرية، لن يسمحوا لأحد بأن يحلم ولو بينه وبين نفسه، فلا سبيل إلا إرغام هؤلاء للقبول بشرعية ثورية يخطها الثوار، ويسعون إلى تنفيذها بإصرار لا يلين، وإلا سيصبحون في النهاية كحكاية يتيمة يقصّها العواجيز حول أبخرة الشاي، حول جيل أتى ومرّ، لم يحمل من دنياه سوى "وصمة" أنه كان ثورياً.

السبت، أكتوبر 01، 2011

"الرجل الصيني" الذي توقف لحظات يطالع صورة "ماو"


المكان مُضاء إضاءة جيدة تسمع برؤية تفاصيل اللوحات المنتقاة المعروضة، إضافة إلى بعض المنحوتات لفنانين شرقيين وغربيين، دارت أعمالهم حول الشرق وعالمه، من لوحات لنساء متشحات، وأخرى لراقصة شرقية، ووجوه نساء تعكس الغربة والكبت لما يدور بهواجسهن، مقابل مجتمع يفرض عليهن السير على الصراط! وعلى النقيض من الأعمال المعروضة كانت أزياء الحضور من النساء، وكأنهم في كرنفال مهيب لاستعراض آخر ما توصلت إليه بيوت الأزياء العالمية، إضافة إلى الإكسسوارات وتسريحات الشعر المختلفة، كرنفال حقيقي يتنافى تماماً مع الجو العام الذي نتنفسه بالخارج. كما كان الأمر مناسباً تماماً لعقد مقارنات مزمنة بين أجساد الشرقيات والغربيات، لا أنفي وجود شرقيات يحملن سمات الأجساد الغربية التي كانت تتقاطع واللوحات والمنحوتات ــ كان لابد وأن يكنّ جزءً من العرض، لا مجرد زائرات ــ إلا أن بعض الزائرات ذوات الوزن السخي كان لهن وجود، ربما أربك وجودهن المشهد قليلاً، ولكنه دالاً لإثبات الهوية، والتأكيد على أن ما يحدث يدور فوق بلد عربي. توقفت أمام تمثال "كوكب الشرق" لآدم حنين، لأطالع سمة الفن الفرعوني البادية على التمثال، من شموخ وصلابة، وعدم وجود فراغات وكأن جسد المطربة الشهيرة تحول مع فستانها بثنياته إلى كيان يحمل إحساس ونبض عصر قديم مُمتد، ومن خلف التمثال لفتتني لوحة لـ "ماو تسي تونج"، فانحرفت برأسي قليلاً لأحيط باللوحة، وأنا لم أزل أقف أمام تمثال "أم كلثوم"، وعند تقدمي نحو "ماو"، جاء رجل صيني ووقف في هدوء شديد أمام اللوحة، ربما ليؤنس وحدة الزعيم القديم، وسط مظاهر لم يكن يدور في مخيلته أنه سيقابلها، حتى ولو كان مُعلقاً فوق الحائط.

 

كان الرجل الصيني يرتدي "جاكت كاكي" يُشبه إلى حدٍ كبير لون ملابس "ماو" الشهيرة، ولكن الجاكت يليق بمناضل حداثي، فهو كما يبدو غالي الثمن، كما لمحتُ على ذراعه الأيسر علم الولايات المتحدة، الذي لفت نظري لرؤية العلم، هو ذراع الرجل الصيني التي بدأت تهتز وتروح وتجيئ، تحت إصرار يد أنثوية تمسك بها، حتى يتحرك صاحبها من أمام وجه "ماو" الذي تبدو نظرة عينيه ــ اكتشفت هذه النظرة عندما وقفت أمامه بعد ذلك ــ تؤكد للرجل الصيني، والذي تحاول صديقته جاهدة أن تثنية عن التحديق في اللوحة، وأن يكف عن الحديث مع الزعيم المتحفي، الذي تقول عيناه أنه يعلم جيداً بما يحدث، وإن كان يُطمئِن الرجل الصيني الذي ابتعد عن اللوحة تتقدمه يد امرأة أصبحت تشبك أصابعها بأصابعه، بينما هو يلتفت كل لحظة إلى وجه "ماو" الذي صار يبتعد عنه شيئاً فشيئاً، إلا أن حديثه إلى المسحوب من يده لم ينته بعد، تأكد لي ذلك عندما وقفت أمام اللوحة، وعين الرجل المعلق لا تريد مغادرة آخر خطوات المناضل الحداثي!



* لوحة "ماو" للفنان الأميركي التشيكي الأصل "آندي وارهول"

الأربعاء، سبتمبر 28، 2011

محاولة التقاط صورة تاريخية



رجل وامرأة، يجلسان في صخب جماعي،
ونظراً لموقعهما المواجه للجميع، فقد استحقا لقب العريس والعروس.
كل هذا عادي ومُكرر، قد يُصيبنا بالتخمة الذهنية، أو تداعي الأسى عن امرأة طالما حلمنا بها جوارنا في مشهدٍ مُماثل. كل هذا أيضاً من الممكن أن يتبدد وتراكم خبراتنا مع خيبة الأمل، والانتهاء من سيجارتنا الأولى الصباحية!
الشاب والشابة يجلسان في مواجهة الجميع، ونظراً للمُجاملات الاجتماعية المعهودة، يتقدم أي أحد، صديق أو شخص ما، مُبتسماً وفي يده كاميرا، يريد أخذ بعض اللقطات للرجل الشاب والمرأة الشابة ــ مباراة الرجولة والأنوثة لم تحسم نتيجتها بعد ــ هنا يمتثل كلاهما لأوامر المُصوّر، في البداية يكتسبان قوة أمام الجميع نظراً لأهمية ما يحدث، باعتبارهما مركز الحدث، ثم ينفذان فقط أوامر هذا الغريب، دون مسئولية منهما.
فهناك خجل عام، قد يتوارى خلف بعض التلامسات غير المقصودة،
والتعليقات المُعادة، وكل الكلمات التافهة، التي لا تحتمل أية دلالات
سوى تفاهتها. والضحكات على لا شيء، وكل منهما ــ الولد والبنت ــ
يفكر في أشياء أخرى تماماً تزيد من توترهما، أكثر من الصخب الذي يلفهما.
... يلمس الولد البنت، مواجهاً الجميع، مُستظلاً بسُلطة الصورة،
يلف يده حول المرأة التي ستكون، وتزداد ابتسامته، تبتسم الفتاة بدورها، لتستمد الشجاعة مثلاً، أو تداري خجلاً تريد الاحتفاظ به للرجل الذي سيكون بعد قليل!
السلطة هنا مازالت معهما ضد الجميع، حتى أن الفتى كاد أن يحتضن الفتاة.  
هنا ...
يتدخل المصوّر
ليوضح للطفل الساذج أن اللعب مع طفلته البريئة ليس بهذه الطريقة ــ هنا يتخلى الفتى عن سلطته للحظة ــ حتى يلتقط لهما صورة تليق بهما وبحبهما الأبدي.
"يا صغيري ...
هكذا .. يدك هنا/لا/هنا/ كما أضع يدي/إفعل مثلي/بالضبط .."
بينما ملامح الطفلة التائهة، التي تواجه جمهورها بابتسامات بلهاء، من فوق كتف المصور، أو من خلف رأس طفلها الضال، أصبحت تتبادلها أربعة أياد، يدان تائهتان، وأخريان مدربتان لأقصى حد.
هنا يتم الانتقال من سلطة الصورة إلى سلطة المُصور نفسه، دون أن يشعر أحد، فقد أوهمهما بالخلود، وأن وسام اللهفة الذي سيطالعهما كشاهد فوق حائط ذكرياتهما، لن يذكرا منه بعد ذلك سوى شكل وملامح وكلمات المُصوّر، الذي تواترت أوامره في قداسة، لطالما تمنوا نسيانها!!

السبت، أبريل 02، 2011

... من رواية "اليهودي الحالي"


1
ودخلت سنة أربع وخمسين وألف في ما يؤرّخ به المسلمون للزمن. وفيها، بعد أن عصفت
بي رياح الدهر ونكبني الموت، قرّرت أن أدوّن هذه الأخبار عن أيّام فاطمة، وزمنها، حتى هذه السنة التي تزوّجت فيها حلماً، لتنجب توأمين: أملاً وفجيعة.
بدأ ذلك قبل سبع سنوات. حينها كنت أقوم بعمل بعض الخدمات لأسرتها، مقابل ما يجودون به من ذرة وخبز وحلوى.
لم تكن لديّ رغبة في الذهاب إلى بيتهم، حين طُلب إليّ ذلك أول مرّة. كنت أمضي أكثر أوقاتي مع صديقي الجديد، الذي جلبته جرواً، من أحد الأزقّة، في غفلة من أمّه، فقطعت طرفي أذنيه بالموس، وأسميته "علُّوس".
لم أستطع أن آخذه معي إلاّ في المرّة الثالثة. يومها أمرني أبي أن أحمل أعواد حطب إلى بيت المفتي، حسب ما كانوا يسمّونه في قرية ريدة. أخذت أمي حزمة مما جلبته من الجبل مبكراً، ووضعتها فوق رأسي، بعد ربطها بحبل مسلوخ من الأشجار. جرجرت معي صديقي الكلب، الذي ظل يتردد في المشي، كلما شاهد شيئاً مثيراً. معه، لم أحسّ بثقل الحطب كما في المرّتين السابقتين.
أمة الرؤوف كانت تبدو غير مبالية بي، ولا بصديقي الذي يجلس أمام منزلهم ينتظرني. أختها فاطمة هي التي تفتح الباب، عادة، إذا سمعتني أنادي: "يا أهل الله... يا أهل الدار". تأخذني إلى سطح الطابق الثالث، حيث يُطبخ الأكل ويُعمل الخبز، وهناك أضع حمولتي.
حين تبدأ عيناي بالتفتح قليلاً، متغلّبتين على آلام وخز الحطب في الرأس، تكون هي قد نشرت ابتسامتها في أجواء المكان. لم تكن تمضي، بسرعة، لتهبني ما يقرّره أبوها أو أمّها، أو ما تقرّره هي، من حاجيات مقابل ما آتي به. ترفع، قبل ذلك، من قَدْري "هكذا الرجال، وإلاّ فلا". تكرّمني بكلماتها، الداعية لي: "بارك الله فيك... أغناك وقوّاك... حفظك... حفظك".
قولها: "أدام الله شبابك وأبهج عمرك"، كان أكثر ما يفرحني، ففيه تطريني ببلوغي مرحلة الشباب، التي يؤكد كل من حولي أنني ما زلت صغيراً عنها. تكبرني، كما قالت أمي، بخمس سنوات، فيما كنت في الثانية عشرة من عمري.
في أحايين كثيرة، تقدّم لي فاطمة الشاي، وتظل تحدّق ملياً في وجهي. لا أعرف ما الذي يدهشها فيه. لا تقول شيئاً. أحياناً تأخذ رأسي بين يديها، تضمّه إلى خصرها، أو تنحني إلى مستواه، ليلامس صدرها. تهمس: "ما بك؟... ما بك؟"
2

فاجأتني في صباح أحد الأيّام بقولها إنّها ستبدأ منذ الغد تعليمي القراءة
والكتابة، وعليّ الاستعداد للمكوث معها ضحى كلّ يوم من أجل ذلك.
"ألا يعلّمونك يا يهوديَّ الحالي... عندكم؟".
أربكتني كلماتها، وهي تقولها بحنان وغنج لم آلفهما. فأنا يهوديّها، أو اليهوديّ حقّها. ليس هذا، فقط، بل أنا في عينيها مليح (حالي). حرّكتُ كتفيّ مستغرباً سؤالها، فلم أكن أعرف معنى القراءة والكتابة.
في البيت، حين سألت أبي عن ذلك، أفهمني أن الأقوال والأدعية التي يردّدها في صلاته، وُجدت في مدوّنات قديمة؛ نقلها العارفون بالكتابة إلى ألواح وجلود وأوراق، ليقرأها من يجيد القراءة. هو لا يجيدهما، كما قال، لكنّه شاهد الصلوات وسمع تعاليمها وتراتيلها من آخرين؛ كانوا هم أنفسهم قد سمعوها من سابقين.
بدا مندهشاً ومستغرباً وأنا أنقل إليه فكرة تعلّمي القراءة والكتابة لدى بنت المفتي. حدّق فيّ كثيراً ولم يقل شيئاً. مضت لحظات قبل أن أسمعه يحدّث نفسه بكلمات غير واضحة.
في الليل، أيقظني من النوم: "اسمعني وافهمني... تعلّم لديهم القراءة والكتابة، هذا معقول. لكن... انتبه، حذار أن تتعلّم دينهم وقرآنهم... هم مسلمون يا ابني ونحن يهود... هل فهمتني؟"
هززت رأسي بالإيجاب، مع هذا أسمعني الكلام نفسه مجدداً في الصباح، حين ناولني حقيبة جلدية مكسوّة بصوف خرفان، أدخل فيها لوحاً حجرياً أملس للكتابة، ودواة خزفية فيها ماء بنّي فاقع، وعوداً كالسواك قال إنه للكتابة. للمحو أعطاني قطعة حرير ممتلئة بقطن، كمخدّة صغيرة، ترطَّب بالماء أثناء الحاجة إليها.
ملمح الفرح بدا واضحاً على وجه فاطمة، وهي تستقبلني. أدخلتني إلى غرفة بيتهم الطويلة التي يسمّونها الديوان، وفيها جلسنا متقابلين. بدأت تكتب على اللوح: "س... ا... ل... م... سالم". أعجبني إسمي وهي تنطقه من شفتيها. كنت كمن يكتشف اسمه ووجوده لأول مرّة. أمسكت بيدي، وعلّمتني كيف أخطّ الحروف، وأنطق بها بصوت مسموع.
حين أنجزت المطلوب، قالت: "حالي... حالي... يا نبيه". أضافت، وهي تبتسم: "الآن، ما يعجبك؟ أكتب اسمك سالم اليهوديّ وإلاّ سالم الحالي، وإلاّ، أقول لك، اليهوديّ الحالي.. ما رأيك؟"، استحيت ولم أدرِ ماذا أقول. اكتفيت بتنكيس رأسي، حتى لا تواجه عيناي عينيها. قالت: "اليهوديّ الحالي، أعرف أنك تحبّ أن أناديك هكذا"، وراحت تحفّظني حروف اسمي أو صفتي الجديدة. بقيت ترددها بنبرة بدت معها، كأنّها تغنّي.
هكذا، صرت أتلقى دروسها كلّ صباح. علّمتني أوّلاً الحروف الأبجدية، من الألف إلى الياء. ثمّ أفهمتني كيفية جمع حرفين، أو أكثر، لتكوين كلمة واحدة: "أب، أم، حر، ود، حب"
وإذ بدأت أحاول كتابة وقراءة كلمات وعبارات كاملة، جاءت بكتاب خطّ بحبر ملوّن، وطلبت منّي أن أقرأ. رأيت كلماته مزخرفة، في حروف متشابكة ومنقّطة، بشكل لا يساعدني على قراءتها. لكنني ما إن سمعتها بصوت فاطمة حتى حفظتها.
في الحقيقة حفظت صوتها، وليس تلك الكلمات التي لم أستطع، أبداً، مطابقتها به. أداؤها لها، بصوت منغّم، جذبني وأدهشني. بقيت أردد بالأسلوب نفسه، سواء كنت أمامها، أو في الطريق، أو في البيت: "والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاّها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سوّاها".
أتنغّم بكلمات أخرى: "والضّحى، والليل إذا سجى، ما ودّعك ربّك وما قلى، وللآخرة خيرٌ لك من الأولى، ولسوفَ يعطيك ربّك فترضى، ألم يجدك يتيماً فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى، فأمّا اليتيم فلا تقهر، وأمّا السائل فلا تنهر، وأمّا بنعمة ربّك فحدّث".
حين انتبه أبي، في البيت، إلى صوتي، وأنا أتلو به هذه الكلمات كاد يجنّ. ظلّ يقوم ويجلس، يروح ويجيء، وهو يصرخ: "يا غارة الله... يا غارة الله". حاولت أمّي تهدئته، وهي تسأله عن سبب صراخه: "ماذا جرى؟ هو يردد أشعاراً عربيّة، فيها كلام حالي عن الشمس والقمر ورزق الله لليتيم". ارتفع صوته: "ما هو...؟ ماذا تقولين هذا قرآن... دين الإسلام هذا... سيفسدون الإبن... سيفسدون إبن اليهودي.. سيفسدون إبن اليهودي... يا غارة الله... يا غارة الله".
سرعان ما سمعه جارنا أسعد، فنادى من سطح منزله: "ما بك يا نقّاش... ما جرى لك؟"، وما مضت لحظات حتى دفع باب منزلنا، ودخل يستوضح أكثر. ما استوضحه صار من حينها معروفاً لدى كلّ سكان الحيّ.
ما فعلته فاطمة كان كمن أشعل حريقاً في الحي اليهودي، مع أنها لم تعمل شيئاً. علّمتني القراءة والكتابة، فحسب.

3

في صباح اليوم الثامن من غيابي عنها، جاءت إلى منزلنا. بدت أمّي مرتبكة وهي
تستقبلها. سمعتها تحدّث نفسها هامسة، وهي تحضّر لها القهوة: "معقول؟ إمرأة مسلمة في بيت يهودي؟".
أعرف أنّها قد التقتها مرّات كثيرة في منزلهم، أو في منازل مسلمين آخرين؛ لكن، ما لم أعرفه، هو أن زيارة مسلمة إلى الحي اليهودي كانت نوعاً من المستحيل.
بعد أن شربت فاطمة القهوة، التفتت إليّ: "ما به اليهوديّ الحالي لم يعد يجيء عندنا".
"لا أعرف، أبوه منعه" أجابتها أمّي، لتندهش بعدها، وهي تسمع سؤال زائرتها عن أبي. طلبت مقابلته لتستفهمه عن سبب منعه لي.
ذهبت لأناديه، لكنني لم أجده. قال أخي هزّاع الذي يعمل معه في المحلّ، إنّه في اجتماع مع اليهود بسببي.
النقاشات والحوارات الصاخبة التي كانت تجري في اجتماعات بيت الحاخام لم تعد خافية على أحد من اليهود صغاراً وكباراً. جميعها دارت حول ما تلقّيته من دروس في بيت المفتي، حتى ظننت أن القضية لن تنتهي.
حين وصل، أجابها وهو يحاول أن يواري ارتباكه: "لا يوجد شيء... قلت، فقط، يبقى ينفعني... أنا محتاج له".
رأيتها وقد أعادت الحجاب إلى وجهها، فلم يظهر منها سوى عينيها اللتين راحتا تتراقصان بفرح، وهما تنظران إليّ.
"أعتقد أنك غاضب من قراءته لعلم العرب".
بدا أنّه فوجئ بقولها. تمتم ببعض كلمات، كأنّه يرتّبها، لتكون عندها أقل إزعاجاً.
"سأقول لك الحقيقة... أنتم مكانتكم غالية وكبيرة عندنا، وأبوكم على رأسنا وعيوننا، والمسلمون كلّهم سادتنا، ولا نقول لهم: لا، أبداً"
لم أدرِ ماذا قال بعدها. كلماته القليلة هذه، أدارت رأسي في الزمن، أيقظت ذهني، لأكتشف المهانة التي صرت، منذ تلك اللحظة، أسمعها في أصوات اليهود، ألاحظها في خطواتهم وبين أصابعهم.
حدّثها، بعد هذه الإطلالة، كما بدا لي، عن عدم رغبته في تعلّمي القرآن. أوضحت له: "ما درّسته، هو علوم في اللغة العربية، حتى يعرف القراءة والكتابة. أنا أعرف أنّه يهودي، لكم دينكم ولنا ديننا. لا توجد مشكلة. كلّنا من آدم وآدم من تراب. اللغة ليس فيها دين فقط، فيها تاريخ وشعر وعلوم. أقول لك، والله، توجد كتب كثيرة في رفوف بيتنا، لو قرأها المسلمون سيحبّون اليهود، ولو قرأها اليهود سيحبّون المسلمين".
كلماتها الأخيرة أبدت فيه غبطة ودهشة، لم يكن قد عرفها من قبل، كما قال لي في ما بعد.
انبسط وجهه وتجلّى، كمن استعاد بعض كرامته. لم أسمع أي اشتراطات توقّعتها منه لعودتي: "الإبن ابنكم، اعملوا فيه ما تريدونه... كلامكم حالي، يدخل القلب، ويزن العقل... ولا ألف رجل مثلك، ما تريدينه اعمليه، علّميه الذي ترغبين، أنتِ سيّدتنا، عيوننا وتاج رأسنا".
في المساء بدا أخي غاضباً وهو يسمع أمّي تخبره عما جرى. قال: "لم أسمع بمقابلة نساء مسلمات لرجال مسلمين، ولو كنّ محجّبات في ملابس، لا يظهر أي جزء من أجسامهن، فكيف أصدّق أن إحداهن طلبت مقابلة رجل يهودي، وأن ذلك حصل فعلاً".
"أنا نفسي غير مصدّقة أن ما حدث قد حدث أمامي".
أضافت: "سحرته تلك المرأة".
كدت أنفجر من الغضب، وأنا أسمعها تصف فاطمة بصفات غير لائقة، ولم أهدأ إلاّ بعد عودة أبي ليلاً ومناداته لها: "صلّحي لي شاهي يا امرأة".
بدا مبسوط المزاج، فهو عادة لا يطلب منها شيئاً إلاّ بالقول: "هاتي يا امرأة..."، "روحي يا امرأة..."، "أسكتي يا امرأة". شعرت أن أمّي ليس لديها كلمات أخرى تصف بها ما حدث.
رجعت إلى تلقي الدروس. لكن أبي طلب إليّ، أيضاً، في اليوم نفسه أن أذهب إلى بيت الحاخام لأتلقى دروسه هو الآخر.
الأثر الذي أحدثته دروس بيت المفتي في اليهود في توجههم لتعليم أبنائهم كان واضحاً. صاروا من الكثرة بحيث لم تستوعبهم ساحة الحاخام، فقسّموهم إلى فترتين.
اجتهدت لتلقي الدرسين، درس العربية صباحاً، والعبرية عصراً. بقي جارنا أسعد يتردد كثيراً إلى بيتنا، يقول لأبي:
"هيّا عد تمنع ابنك من بيت هؤلاء الكفّار الملاعين".
"أسكت يا أسعد أنا عند الله وعندك. لو يسمعونا".
"مالك خائف هكذا. هم بعيدون".
لم يكن أبي يرفض هذه الضغوط، فقط، بل بدا، بعد تلك الكلمات، التي سمعها لأوّل مرة من بنت مسلمة، بل من إنسان مسلم، حسب قوله، أنّه لا يمانع، حتى لو أصبحت مسلماً.
4

حين وصلت إلى بيت المفتي في صباح اليوم الثالث، من أيّام عيد الأضحى، أو العيد
الكبير، كما يصفه المسلمون، وجدتها تبكي بحرقة، وليس هناك من مجال لتقديم كلمات التهاني إليها وإلى أبيها وأمّها، وأختها أمة الرؤوف، حسب ما حفّظني أبي: "أهنئكم بعيد الأضحى المبارك، أعاده الله عليكم وعلى كل أمّة محمد باليمن والبركة".
أوضحت أختها: "تبكي من الفجر... أبي أمر الجزّار بذبح الخروف المخصّص للتضحية في العيد. ماطلتنا يومين، وصباح اليوم، كان هو الوقت الأخير من أيّام الذبح الشرعية، لهذه المناسبة. في أوّل يوم، قالت إنّه يحتاج إلى علف أخضر، ومزيد من الملح، حتى يصير طعم لحمه ومرقه شهيّين. في اليوم الثاني أقنعتنا أن ذبحه، وهو جائع وظامئ، يعتبر حراماً في كل دين ومذهب... لا يردّ لها أبي طلباً، لكنّه".
كفكفت فاطمة دمعها، وهي تنظر إليها، كأنّها تأمرها بالصمت، أو أنّها لا تريد إكمال سماع الحكاية.
بعد أن هدأت، وصرنا وحيدين، قالت: " لقد قتلوا أخي بدون شفقة... قتلوا أخي، وتركوني في الوحشة.. شعرت أن عضواً من روحي قطع، قتلوا أخي".
لم أكن أعرف أن لديها إخوة غير أمة الرؤوف. في ما بعد، أدركت فقط، أن الأخ الذي تقصده هو الخروف.
يومها سألتني كثيراً عن علّوس، ثم خرجت معي لتراه، كأنّها تتعزى بوجوده. هزّت رأسها وهي تردد الكلمة نفسها التي كنت أنا أيضاً، أحييه وأناديه بها: (س ش ص و)
سألتني: "هل تقدر تكتب هذه الكلمة؟"
"نعم... كيف لا أقدر؟ إنها سهلة".
ابتسمت وهي تدرك، ربّما، أنني أمزح. فالكلمة التي يمكن لأي أحد نطقها؛ هي نفسها التي ليس بمقدور أحد كتابتها مطابقة لما هو منطوق، وإن ظنّ كثيرون أنهم استطاعوا تركيبها، في شكلين "سشصو... شسصو"
يرافقني إلى بيت المفتي، يجلس أمامه عند طرف الحائط. وما إن أخرج حتى تواجهني عيناه، كأنّه يظلّ شاخصاً إلى الباب، في انتظاري.
بعد أن غدا جسده ممشوقاً، وطالت يداه ورجلاه، كان بعض الناس، إذا رأونا نمشي سوية، ولاحظوا يدي على رأسه، أو رقبته، أو ظهره، صاحوا: "يا كلب"
من كانوا يقصدون: علّوس، أم صاحبه سالم؟ عيونهم تصوّب نحوي أثناء حديثهم. ربما، أرادوا شتمي بمناداتي بالكلب. لا أظن أنني شعرت، في يوم ما، أنّ هناك فرقاً بيني وبينه. وفي حال اكتشاف فروق، فإنني كنت أراه أفضل من كثيرين من النّاس.
عندما اختفى، فجأة، في إحدى الليالي، ووجدنا، في الصباح، بيته خالياً منه، واستني فاطمة بإعطائي كتاباً قالت إن اسمه "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب"، ألّفه المرزباني.
"ستعرف قراءته بعد إكمال تعلّمك للغة العربية"
بقيت أربعة أشهر، لا أملّ البحث عنه. كلّ صباح أذهب لأرى ما إذا كان قد عاد ليلاً إلى البيت الذي كوّنته، أمام مسكننا، من قراميد الخشب وأعواد الشجر اليابس. لا ينسى أبي أنّه يتسع لكلبين. بقي يقول، في أية ليلة يغضب عليّ: "روح أرقد بجنب صاحبك"، حتى بعد مرور فترة ليست قصيرة، على فقدان هذا الصاحب، وتهدّم بيته من شدّة الأمطار والرياح.
في اليوم الأوّل من الشهر الخامس، رحت أبحث عن الكتاب لأبدأ أعزّي نفسي به، ولو من خلال تحسّسه. لم أجده، وتأكّدت، بعد أيّام، أنّه ضاع، ولا دليل إليه. اختفى، تماماً، كعلّوس.
5

في السنة الثانية من تردّدي إلى بيت المفتي، صرت أجيد القراءة والكتابة باللغة
العربية. بدأت أقرأ مخطوطات مختصرة في الفلسفة والفقه الإسلامي، وفي علوم الحساب. أعجبني كتاب في علم الفلك، وآخر في الطبّ، بدون عنوان. قالت فاطمة إنّه لابن سينا، مع أنّها ليست متأكّدة، لعدم وجود اسمه عليه. ما فوجئت به هو وجود الأسفار اليهودية باللغة العربية بين هذه الكتب.
صرت أجيد الكتابة والقراءة بالعبرية، أيضاً. درستها في بيت الحاخام، إلى جانب كتاب التلمود، حيث تعمّقت في شروح المنشا والجمارا. حين عرفت فاطمة ذلك، طلبت منّي أن أعلّمها كتابة وقراءة الحروف العبرية. فرحت ولم أندهش. كانت تعرف الكثير عن الديانة اليهودية؛ ربّما أكثر من بعض اليهود.
في وقت غير طويل، بعد أقلّ من سنة، أجادت قراءة العبرية. قالت لي، يومها، بأسلوب المحبّب لديّ: "الآن، لو تتفضّلوا، وتتكرّموا، وتعلّموني الشريعة اليهودية، لأعرف، هل توافق ما قرأته منها وعنها في الكتب العربية؟"، قلت: "لم يبق، بعدها، إلاّ منافستك الحاخام نفسه". ضحكت: "أنتم أبناء عمومتنا، وأحبّتنا في الله، وجيراننا"
بكلماتها، ظلّت تشفي جراح الآلام التي كنت أتلقّاها، وكبرت معها.
أتذكّر ذلك النهار، يوم بدأت أسأل: من نحن؟ كان سؤالاً كبيراً عليّ، أنا الذي لم أتجاوز حينها العاشرة. أعرف، فقط، أن إسمي سالم، وإسم أمّي عفراء، وأبي يوسف النقّاش، وأخي يدعى هزّاع. وأكبر معلومة أعرفها هي إسم القرية، ريدة التي نعيش فيها.
حينها بدأ أبي يأخذني إلى محلّه في السوق. أبقى أشاهده وهو يجهّز القمريّات، وينجر الأبواب والنوافذ الخشبية، إذا لم أجد من يشاركني في اللعب.
"من أين أنتم؟" سألني حسين، ونحن نلعب أمام دكان أبيه، المجاور لمحلّ أبي.
قلت له: "أنا من ريدة... من هذي البلاد". صاح: "مش حق أبوك... هذي بلادنا... أنت يهودي كافر"
لم أعرف ماذا تعني كلمة كافر. أعرف، فقط، أنّني يهودي. الأطفال الذين ليسوا من حيّنا، جميعهم، ينادونني يا يهودي. والكبار منهم يصفون سكّان حيّنا باليهود. رأيت الأمر سهلاً. ظننت يهودي نسبة إلى إسم الحي، ليس إلاّ.
قبل يومين من سماع هذه الكلمات، مازحني عجوز كبير، فنتفت شعرة بيضاء من لحيته. صرخ فيّ وقرص أذني، وهو يقول: "شوف على يهودي إبن يهودي... ملعون".
أثارني، فقط، أسلوب حسين حين نطق عبارته بلغة مفخّمة. بدا مثل المبلّغ الذي شاهدته في السوق، وهو يلقي بياناً رسميّاً صادراً من حضرة أمير المؤمنين، الإمام. ضحكت لأسلوبه هذا، ويبدو أنّه اعتبر ذلك سخرية. قال بلهجة مهدّدة: "أنا شورِّي لك" لكنّه في الحقيقة لم يورّي لي أو يُرني. يعرف أن مهادنته لي تعني التمتع بفرصة اللعب معي، خاصة في تلك الأشكال التي كنت أبدعها، وتثير دهشته، ودهشة الآخرين الذين يجيئون ليلعبوا معنا. مع هذا، لم ينسَ أن يضيف: "أبي قال إن اليهود لا يحقّ لهم أكل الحلوى العدنية"
قلت: "ما أعتقدش؟"، فردّ سريعاً: "أقول لك قال أبي، تقول: ما أعتقدش؟"
كان حسين يبدو في العاشرة من عمره، مثلي تماماً، ولم أكن قد ابتعدت عنه لأتفرّغ للدروس.
في البيت شرح لي أبي ماذا تعني كلمة اليهود، وما هي الممنوعات عليهم. ليس من بينها الحلوى العدنية طبعاً: "هذه الحلوى تُجلب من عدن، هي مرتفعة الثمن، ولا يأكلها إلاّ الإمام وعمّاله، وحاشيته. لا يستطيع الحصول عليها، لا اليهود، ولا المسلمون".