إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، يناير 18، 2011

... من رواية "22 درجة مئوية"


...
استفقتُ على صوت رجل يناديني: يا أستاذ .. يا أستاذ . . .
فالتفتُ لأجد سيارة ميكروباص خالية إلا من السائق ورجل يجاوره،
هو الذي ناداني ووجدتُ يده تمتد إليّ بعلبة عصير، فشكرته، ولكنه
أصر، فانكسفت، وأخذتها منه وأنا خجلان جداً، وانطلقت العربة
لأرى على زجاجها الخلفي حروفاً متراصة بالإنجليزية في شكل
قوس، وقد سقط أحدها، فاستنبطه وفق مشيئتي حتى يكتمل القوس،
وكنتُ على وشك اللحاق بالعربة لأعيد العلبة، لكن القوس الذي
ابتعد عني في سخرية جَمّدني مكاني ونظرتُ لأجد علبة العصير
تحتل يدي التي كانت فارغة، فتحتُ سوستة الشنطة ووضعتُ العلبة
بداخلها فوق علبة السجائر، فشعرتُ بوطأة الثقل على كتفي.
عاودتُ النظر إلى الجالسين الآن في نظام دقيق (حوالين الترابيزات)،
مُنتظرين وقد ازدادت أمامهم الأطباق وتنوعت أصناف الطعام.
سرتُ عنهم قليلاً، لتطالعني الحديقة، فأعبر سورها رغم التحذير،
بما أنني فوق الكوبري. استوقفني عسكري عند مَطلع الكوبري
يجلس فوق موتوسيكل غريب الشكل، يشبه موتوسيكلات الأطفال،
نظر إليّ فرددتُ بصري إلى الحديقة لأجد باباً حديدياً صغيراً يعبُره
الرجال حتى يدخلوا إلى باب الجامع، رأيتُ جزءاً من الداخل مُتخطياً
الأحذية اللامعة المُختلفة، المُتراصة عند عتبته، لأطالع مساحة
ضيقة من الموكيت الأخضر، المُستسلِم لقطرات الماء المُتساقطة
من الرجال الذين يعْبرون في لهْوَجَة من دورة المياه إلى الجامع،
وهم لا يزالون غارقين في ماء وضوئهم الطاهر. شعرتُ برغبة في
التبول، مع بعض الألم في إحدى خصيتيّ، أرجعته للبنطلون الضيق
الذي أصبحتُ أرتديه بعدما قلّ وزني كثيراً، وصرتُ ألبَس على
الموضة، وقد كانت بدانتي تمنعني من ارتداء ما أريد، لكنني لم
أكن أشعر بالألم وقتها. ازداد عدد رواد دورة المياه وبالتالي رواد
الجامع، فاستدرتُ لأطالع الساعة، ولم أجدها، فقط . .
لمَحْتُ جزءاً من الفانوس الأصفر، وقد ازداد توهجاً بعد ازدياد
المغيب، دققتُ النظر فأدركتُ الأرقام الحمراء تتخفى وراء نخلة
عالية، انحرفتُ قليلاً حتى كدتُ أسقط من فوق الرصيف إلى مَطلع
الكوبري، ورغم ذلك لم أستطع رؤية أرقام الدقائق، فقط . .
( الساعة  : 4، ودرجة الحرارة 23 )
اعتدلتُ بجسدي فوق الرصيف، ووجدتُ رباط حذائي الأيمن قد انفك
ليتدلى مُلامساً إسفلت الطريق. مرّ جواري رجل مُتقطع النَفَس يجمع
القمامة من فوق الرصيف، وقد جاهد في الإمساك بورقة طاوعَت
الهواء، فانفلتَتْ منه وصارت وسط الطريق، فسقطتْ من يده لفّة
ورقية كان يُمسِك بها في نفس اليد القابضة على كيس بلاستيكي
يجمع فيه القمامة، عليه شعار غريب. تبينتُ أنها لفّة طعام
وقد أصبحتْ في مستوى بصري وأنا أنحني لأعقد رباط الحذاء،
ليشاركني الرجل الانحناء وهو يُلملِم الورقة في سرعة، ويزيح
عنها بعض التراب، ثم أمسكها واحتضنها، وانتصب وقد لمحني
أعتدل فألقى عليّ سلام الله ورحمته، فردَدْتُ عليه السلام، ثم
تركني ومضى مُبتعداً. على امتداد الكوبري  بعد المَطلع
وجدتُ شاباً ممشوق القوام يرتدي بنطلوناً بنيّ اللون وتي شيرت
بيج غالي الثمن نصف كُم، حيث بانَت تفاصيل جسده في تناسق
جميل، شعره أسود ناعم ومُرسَل، حليق الذقن رغم اخضرار يحدد
تفاصيلها في وضوح. كان مُمْسِكاً بكاميرا ويلتقط صوراً للكوبري
الخالي وللشوارع الخالية أسفله، ثم عاد خطوات إلى سيارة ترتكن
الرصيف لم ألحظها من قبل، سيارة سوداء تحمل لافتة خضراء،
مكتوب عليها "هيئة دبلوماسية" أخذ الشاب شيئاً امتدت به يد
من الداخل لم أستطع تبيّن شكلها، كانت علبة سجائر وقد أشعل
واحدة، فتتبعْتُ الدخان الذي بدأ يلفّهُ، ثم يسير خلفه وهو يتحرك
ذهاباً وجيئة مُتخيّراً زاوية مُناسبة للتصوير. كان ضوء الشمس
الغاربة يُغيّم رؤية ما بداخل السيارة، وقد عاد الشاب وارتكنها وهو
يدخن، كأنه فتى إعلانات يُرَوّج لسلعة مضمونة. تقدم الشاب إلى
العسكري الجالس على الموتوسيكل، وأخرَج له سيجارة، فأخذها
العسكري ووضعها في جيبه وحيّاه، فالتقط له الشاب صورة، وقد
اتسعت ابتسامة العسكري عن آخرها، ثم انضم إليهما عسكري آخر
مُتلاحق الأنفاس، يحمل طعاماً، وأخذوا يتحدثون، فالتقط لهما الشاب
صورة غالب فيها حامل الطعام توتر أنفاسه، ولم يبتسم زميله القابع
فوق الموتوسيكل. ومن مكانه نادى الولد:
"هدى . . هدى . . ."
فنزلتْ فتاة من باب السيارة، وقد عَبَرَتهُ يدها من قبل بعلبة
السجائر، كانت ترتدي بنطلوناً واسعاً، وبلوزة صوفية ضيقة مُغلقة
بإحكام عن طريق صف من الأزرار، وتغطي رأسها بإيشارب،
وكانت تدخن. وقفتْ معهم قليلاً، ثم أخذتْ الكاميرا من صديقها،
والتقطتْ صورة تجمعه بالجنديين، بعدها توجَهَتْ إلى باب السيارة،
وانحنت بنصفها إلى الداخل، فتجلت مؤخرتها للطريق وكأنها
جزء مُنفصل عن ملامح وجهها الطفولي، وقد تعلق بصر الواقف
بمؤخرتها، بينما الجالس فوق الموتوسيكل كان إما باصص في
الأرض أو باصص على عضو الشاب، الذي يواجهه ويَسدّ عليه
الطريق. التقطتْ الفتاة من الداخل زجاجة مياه معدنية، وأشارت
برأسها علامة على الرفض، فأدركتُ وجود آخر أو آخرين داخل
السيارة. أعطتهما الزجاجة، ليأخذها الجالس ويدفنها بين ساقيه،
لتستلين ملامحه على إثر برودة خدّرت خصيتيه. أما علبة سجائر
الشاب فاستقرت في الجيب العلوي لسُترة الجندي الواقف. تركتهم
الفتاة وتقدّمتْ قليلاً حتى عَبَرَتْ المَطلع، دون أن تبُص حواليها،
وعَبَرَتني في لا مبالاة، حتى استقرت والتصقتْ بالسور، وانحنتْ
تنظر لأسفل. نظرتُ للناحية الأخرى، ولم أجد إلا الفانوس وقد ازداد
اصفراراً، والرقم (4) مازال يتبادل الغمز مع الرقم (23).
خطفتُ نظرة إلى الفتاة بعيني العائدة، كانت كفيلة بعقد مقارنة ما
بين مؤخرتها ونهدها المضغوط بفضل السور. كانت تقترب من
العشرين وتصغر صديقها بعدة أعوام
تخيّلتها /
في جوب ضيق، كما كنتُ أطلب دائماً من صديقتي القديمة التي
كانت تُصر على ارتداء البناطيل الواسعة، مُتعللة بأنها لا تستطيع
التحرك بسهولة في الجوب، خاصة وأن البنطلون يكفل لها حرية
صعود الباص. قلتُ لها مراراً إنني لا أحب على الإطلاق طريقة
خلعها للبنطلون، لأنه يسمح لي برؤية نصفها السفلي عارياً فجأة
ومن أعلى، على العكس من الجوب الذي أحب طريقة رفعه في
رفق، فيليق بتجلي عُريها. وأنها لو كانت تواظب على قراءة القرآن
كما تقول، كانت ستدرك لعبة الحكيم الملك، حتى يتيح لضيفته أن
تكشف له عن ساقيها كقربان، فتسقط مملكتها ويسقط هو أسفل
ساقيها، ويسقطان معاً في جُب الإيمان. كانت تستعيذ، وتطلب من
الله أن يسامحني. صديقتي القديمة التي لم أستطع الوقوف إلى
جوارها، وتخليتُ عنها، رغم أنها منحتني نفسها عن حب، وأنا
مارستُ عليها عُقدي مُنتهكاً براءتها، آخذاً بثأري من الآخرين،
كصديقي مثلاً والبقرة المشنوقة التي كانت تعتليني. لقد منحتني
صديقتي نفسها عن طيب خاطر، فكانت تتعرى من أجلي، وتبكي في
حضني وهي تتنازل عن براءتها شيئاً فشيئاً، تاركة لساني يتجول
فوق شفتيها ويخترقهما. كما تحادثني عن فرح شديد ينتابها وهي
بعد أن ينام جميع أهلها  تستعرض علاماتي على جسدها،
وتبتسم ثم تبكي وتعاود الابتسام، وتضحك داخلها وهي تزيح أطفالي
النيئين من فوق ملابسها الداخلية، بينما تغلق على نفسها باب
الحمام بالمفتاح، رغم أن البيت لا يكون به سوى أمها وأخواتها
البنات. كانت تستسِلم لإلحاحي بأن أدخلها من الخلف، رغم الآلام
الشديدة التي كانت تستشعرها بعد ذلك، والتي حدثتني عنها مراراً،
بينما أنا لم يكن يشغلني سوى عضوي المُندفن بين ردفيها، ومائها
الذي تذوقته، وقد حَفَرَتْ بقايا شعر عضوها المنزوع على لساني
صراطاً مُستقيماً لن يُمحى. كانت تقول إنها لا تتذكر ما نفعله وبكل
تفاصيله إلا وهي تصلي، حتى أنها في أوقات كثيرة ــ هنا تتوقف
وتطلب من الله أن يسامحها ــ ينتهي بها الأمر إلى الاستمناء فوق
سجادة الصلاة. عندها كنتُ أؤكد اقتناعي التام بأن الصلاة عماد
الدين، فتغضب، وتستغفر الله العظيم. ثم تأخذني في حضنها،
وتبكي في ابتسام وتُقبّلني كأم.
أتذكرنا الآن . .
عرايا في السرير القديم، يلفنا ظلام الحجرة الحقيرة، فلا نرى
أنفسنا إلا على وهج السجائر، وقد علّمتها التدخين أيضاً.
أراها الآن . . .
على مشارف أمومة فعليّة، فلم أعد أعرفها، ولكني أراها وجهاً
ويداً مُتشنجة وأستمع لما يوحى إليّ من صوت أنفاسها المُتلاحقة،
وحرارتها وهي على مشارف لحظة البلل، ثم قبلتها الأخوية على
خدّي وحضنها الأمومي بعدما تستفيق، وذهابها إلى الحمّام مُتلمّسة
جُدران الطُرقة المُظلمة، وإصرارها غلق الباب عليها، وعوْدتها
وقطرات الماء على وجهها وجزء من شعرها، فترتسي حِجْري، ثم
ندخن وخدّها مُلتصق بخدّي. وعندما ننهي سيجارتنا المشتركة تقوم
لتكمل ارتداء ملابسها . . البنطلون ثم الحذاء، وتطالبني بإحكام
أزرار بلوزتها طالما أنا الذي قمتُ بفكّها، فأردّ في برود بأنها تمتلك
يدين فماذا تفعل بهما ؟ وحينما تنظر إليّ وتعني "يعني مش عارف ؟!"
أقول بأنها قليلة الأدب، فتضحك، وأنا أحكم أزرارها في غيظٍ
ونشوة. ثم تحكم الإيشارب جيداً، ولم تنس وضع الدبابيس المُتناثرة
على الترابيزة. الدبابيس التي تتعمد نسيانها في البداية فأحتفظ
بوخزاتها فوق يدي فأتألم وهي تضحك. ثم أمسِك لها بالمرآة
الصغيرة لتضع الماكياج، وأراوغها بالمرآة، فتزعل وتصفني بالفشل
في كل شيء، وحينما أنظر إليها وأعني "في كل شيء ؟!" تنظر
هي وتعني "أيوه . . حتى ف اللي انت بتفكر فيه"، وتواصل
الضحك. ثم تمنحني حضناً حاراً قبل وداعها ونحن عند الباب، وهي
في كامل ملابسها، وحقيبتها مُعلقة بكتفها، تاركة أحمر شفاهها فوق
شفتي لأتذوق غيابها. كان حضناً حاراً حزيناً، لكنه جميل.
"هدى . . اتأخرنا"
التفتتْ إلى صوت صديقها الذي أصبح بيننا، وقد غيّب صوته حضن
صديقتي القديمة. أشارتْ له يدها بأن يقترب، بينما هي لم تزل
في وقفتها تنظر لأسفل، وعندما لاصقها قالت في صوت مخفوض
"بُص . . ." فنظر الولد، وبصيت أنا كان تحتنا  في جزء
من الحديقة الممنوع تخطي سورها  شاباً في ملابس رياضية،
حيث الفانلة بيضاء نصف كُم ومكتوب على صدرها وظهرها بلون
أخضر [ جمعية جيل المستقبل ]، كان مُمْسِكاً بلجام حصان
يستحثه المسير، إلا أن الحصان كان مُنشغلاً بالتبوّل وقد استطال
عضوه المُرتخي حتى كاد يُلامس الحشيش الأخضر، الذي غرق في
البول. قالت ضاحكة "شوف طول إيه !" فوضع الولد يده فوق
يدها، فأصبحتْ مُنضغطة بين يدها وصدرها، وارتفع ضحكهما،
فسمعه الولد بأسفل ورفع رأسه نحونا، ولم يستدر ليواجهنا،
فقط تبادلنا بعينيه، حتى استقرّ المَخْيول وثبّتَ رأسه المقلوبة
عليّ، وشتمني بأن نسبني إلى جمعية المفعول فيهم، فنظرا إليّ
في اندهاش، وقد ارتفع ضحكهما أكثر، حتى أن الولد السافل قد
شاركهما الضحك. لتتوقف السيارة السوداء خلفنا، فتهدأ الضحكات
مع صوت فتح بابيها المُجاورين للرصيف، وليُمسك الولد بيد
"هُداه" ويهبطان الرصيف ويلجان العربة. (هدى) بجوار
السائق الأسود، بينما "المَهْدي" في الكرسي الخلفي، بجوار قِس
في حوالي الخمسين، والذي رَبّتَ على الخد الحليق وقبّل صاحبه
في فمه، ثم عاد القِس برأسه للوراء، فارتفع صوت (فيروز) من
داخل السيارة، التي بدأتْ في التحرك والسير في هدوء، وصوت
الأغنية يملأ المكان. حتى أن مخصييّ الكشك الحديدي قد انتفضا
وأدّيا التحية العسكرية، والصوت لم يزل يحيطني . . .
(. . . عيوننا إليكِ ترحل كل يوم . . ترحل كل يوم،
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة و تمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الإسراء . . يا درب مَن مَرّوا إلى السماء
عيوننا إليكِ ترحل كل يوم . .
وإنني أصلي . . . . . . .)
لم أجد إلا بِركة من البول تحتي، وعلى يميني زجاجة مياه معدنية
مَدفونة بين فخذيّ الجندي الجالس، وانتفاخ الجيب العلوي للآخر
الذي يجاوره، بينما الجامع المُتربة مئذنته لا يزال غارقاً في
السكوت/السكوت الذي قطعته دقات ساق خشبية تسند ساق صاحبها
الأخرى، مَرّت الدقات بجانبي ينسَدِل عليها الكُم الطويل للقميص
الخاوي، بينما يده المُنتسِبَة للجزء السليم استخرَجَت سيجارة من
جيب بنطاله. فتحتُ السوستة مُتحسِساً مشط الكبريت، الذي فرّ منّي
فأخرَجَ الرجل ولاعته من الجيب نفسه، وأشعل سيجارته، وعَبَرَني
ودخانه أمامه يسبقه للناحية الأخرى، فطالعتني الساعة فجأة . .
(الساعة الآن 4:54 ، ودرجة الحرارة)
ليَرُدّني صوت يردد بدِقة الساعة السكانية، لأجد راديو ترانزستور
صغير فوق الرصيف، يُجاور الكيس البلاستيكي العُهدة، يستنده
صاحبه، وأمامه لفّة الطعام، وقد عَزَمَ علي، فشكرته. كنتُ أريد أن
أُخرج له علبة العصير، ولا أدري ما الذي منعني. تعللتُ لنفسي
أن فِعْلتي سوف تجرح شعوره، وقد صعب عليّ وهو جالس على
الأرض يختلط طعامه بالتراب ورائحة القمامة المُزمِنة. ضغطتُ
على نفسي مُتناسياً الفكرة حتى لا يكتشف الرجل ملامحي المُشفِقة،
فأفسد عليه طعامه. سرتُ مُبتعداً حتى وصلتُ أمام الباخرة، فوجدتُ
حركة الرواد قد ازدادت، وعظم صخبهم، فقلتُ في نفسي . .
لن أعتمد على الآذان، فقط حينما أرى أفواههم تتحرك، وأستَرق
السمع إلى ملاعقهم وشوكاتهم وسكاكينهم، عندئذ سأقوم بالتدخين
فوراً، فغابت عنّي الرؤية فجأة على إثر ريح عاتية داهمتني، مُندفعة
ومُحمّلة بتراب ملأ عيني، فأنساني شكاً لئيماً ساورني منذ لحظة.
الغريب أنني لم أعد أسمع أيّة أصوات، حتى الرياح. فقط عاودَتني
(فيروز) التي بُعثت من سيارة (هدى)، تلفني بترديد المقطع
بالكامل، بينما أنا مُنعدم الرؤية وفي حلقي طعم التراب.
التراب . . .
كنتُ وإلهي
في زيارة إلى الكنيسة، بينما
هو

مُنشغل بالتقاط الصور للنقوش والبهو،
وقفتُ أنا
أمام تابوت زجاجي يحوي رفّات القديسين
وأشعلتُ شمعة،
وقد ترحمتُ عليهم وضحكتُ
في سرّي من فاتحةٍ لن أقرأها.
وكانت الإصلاحات المنتشرة في الكنيسة
قد نَثَرَت غباراً ملأ المكان،
فاختنق
إلهي
وألحّ عليّ في الخروج قليلاً للهواء
نظراً لالتهاب جيوبه الأنفيّة،
ودعتُ الرّفات وأشعلتُ شمعة أخرى،
وخرجتُ.
ونحن في الهواء
طلبتُ منه ألاّ أُدفَن في التراب،
فاستغرَبني
مُعتقداً أنها إحدى تخريفاتي،
وحَمَدَ الله
لأننا لم نقم بزيارة إلى المتحف.
فكررتُ طلبي في مزيدٍ من الجديّة،
مُضيفاً
بأن يُحرق جسماني ويوضع في مَرْمَدة
تتصدر بهو منزلنا الذي سيكون،
وألاّ أُترَك وحدي،
وعلى إلهي
إلقاء تحية الصباح عليّ كل يوم،
وأن أظل في مجال بصر
( إزميرالدا )/
ابنتنا
حتى يأتي ميعاد مغادرتها البيت،
وأن يحملني إلهي معه في أسفاره.
صامتاً
كان
والمنديل يحمي أنفه من غبار يلفّني
وحدي
صامتاً كان إلهي،
ثم التَفَتَ برأسه إلى الداخل
وقد تطاير شَعرهُ قليلاً بفعل الهواء،
وأنا
سارحاً في ظِل الشَعر المتطاير،
والمُنعكس
فوق أرض الكنيسة البازلتيّة،
التي امتصت التراب في خشوع.
ثم عاد بوجهه إليّ وابتسم في شرود،
وقال
جَلّ نبضه
إن يُسْرَاه
إما أن تحتمل يدي حياً
أو رمادي ميتاً.
لم أكتشف الخدعة،
مُتيقناً بأن شمعتين لا تزالان
تستجلبان ليّ الرحمة،
ولم أنتبه
لأرضٍ بازلتيّة كانت تحمي نفسها بغبار مقدس
من ظِل يتطاير لن تحتمله
فغادرها بهواء قد أطفأ الشمعتين،
لم أنتبه
لمنزلٍ لن يكون،
وطفلة
ستظل فكرة خياليّة لن تغادرني.
فاخترتُ
مُغتراً بتراب يلفّني،
وعُدنا
فقط
ظِل يدي الفارغة يتقدمني على إسفلت الطريق
صامتَين
ومنديل يحمي أنفه،
وفي حلقي طعم التراب.
بصقتُ،
وبصقتُ، فاستبنتُ المكان، وبرودة قد عاودَتني حاملة معها شكاً
لئيماً نسيَني لحظات، لم تستطع مئذنة مُتربة أن تُعْجِزه. كما أنني
لا أستطيع الوثوق في هؤلاء الدُمى الذين يطالعونني، على الرغم
من موائد عُدّتْ وأطباق رُصّتْ وشوكات وملاعق وضِعَتْ وسكاكين
سُنّتْ وأباريق نُصِبّتْ وكئوس رُفِعَتْ قد طاف بها ولْدان ليسوا
بمُخَلدين. فأنا مثل كثيرين لا أثق بهؤلاء، وبالضرورة عليّ البحث
عن تعويض لنقصي، بأن أدّعي الثقافة مثلاً، وأن أكرَه رواد البواخر
وأنعتهم بأنهم أولاد كلاب، وأن أتشاغل بالتفكير في أشياء أخرى
ليست بمُستحيلة أهم من أكل وشُرب وسيارة وعطور مُدَوّخَة.
وسوف لن أنتظر طعاماً مُختلفة ألوانه وقد زهدتُ الطعام، وسوف
لن أنتظر ما لا عين رأت وقد أعماني تراب المئذنة المُرتخية،
وسوف لن أنتظر ما لا أُذن سمعت وقد خاصمني صوت إلهي،
فأتشَاغَل . . بمشكلاتٍ كونية يُمكن حلها بخمر رخيص أو لفافة
حشيش أو استعجال أطفالي في الحمّام، وأن أقرأ الروايات وأتباهى
بذكر أسماء مؤلفيها، وأردِدُ بعض أقوال دون أن أكون في الحقيقة
قد قرأتها، فقط سمعتها دون أن أفهمها، سمعتها عن آخرين أكثر
منّي حقداً وعفونة، وأقول كما يقول العَجَزَة بأن هناك أشياء هامة/
كالكتب والورق والأقلام والكتابة وما عدا ذلك فهو باطل. وألتقي
بمَن يتبارون معي في العفونة، ونتحدث حول أبخرة الشاي ورائحة
القهوة والدخان، داخل جُدران مقاهٍ مَجْذومة ومُظِلمة اسْوَدّت
من روائح أرواحنا، وتآكلت كراسيها تحت وطأة ثرثراتنا التي
لا تنتهي/عن الكادحين والفقراء وأبناء السبيل وخلل الكون وحال
البلد، أية بلد ؟ والحرامية اللي واكلينها والعة، ونحن نرفع من
أصواتنا لنُغطي حقدنا، لأن أحداً لم يُشِر إلينا حتى نأكل معه. إنها
مجرد إشارة بسيطة يكمُن فيها كل شيء. وقد نُفاجئنا نبكي ونحن
نحتشد داخل غُرف غطتها صور تفوق حجم أصحابها مئات المرّات،
فتخرُج أصواتنا المَبْحُوْحَة مُردِدَة نشيداً وطنياً، تسقط مُفرداته
حينما تنفتح أفواهنا عن آخرها إذا لمَحْنا نهداً استغل طُغيان الإيقاع
فارتعَش، أو مؤخرة انحَشَرَتْ بيننا وبادَلت أعضاءنا المُنتبهة السلام
الحماسي، الذي يفوق حماس النغمات التي صاغها فنان الشعب
المسطول. وقد نمارس الجرأة لنداري وجوهاً كرهناها، وروائح
أخنقتنا، قد نمارس الجرأة في شكل عمل مفيد/ فنتبادل امرأة مثلاً
ونعذبها، أو نتأسى لآخرين لو علِموا أنهم مجال أحاديثنا لأودعونا
أعضاءهم. وقد نتبادل النِكات، التي لا تمُت بالطبع لمن نحقد عليهم
ولا للذين نرثى لحالهم. أتذكر إحداها . .  وهي بالطبع ذات صِبغة
سياسية وأخرى ميتافيزيقية، حتى تليق بمجلسنا
"يُقال إن المخابرات الأمريكية توصّلت إلى رقم المحمول بتاع
ربنا، وأعطته إلى ( كلينتون ) الذي أصبح الآن ( بوش )، فاتصل
وسأل: كم عام ستظل أمريكا سيدة العالم ؟ فرَدّ ربنا وقال له . .
50 سنة. بعدها نجحت المخابرات الروسية في الحصول على الرقم،
فاتصل ( بوتين ) سائلاً: هل ومتى ستعود وتصبح روسيا سيدة
العالم ؟ فرَدّ ربنا وقال له . . بعد 50 سنة. وأخيراً . . . . نجحت
المخابرات المصرية، فسأل ( الرّيس ): متى . . . متى يا رب؟
فرَدّ ربنا . . مُش في عَهدِي"
ونضحك، نضحك لحدودٍ تخطيناها، رغم مؤخراتنا التي تَنَمّلت، وقد
نمارس الجرأة المباشرة . . فنَسُب الدين عَمّال على بَطّال، ونتمادى
فنُجلِس الله فوق ترابيزة المقهى المعدنية، غير المستوية ونفرح
بتمَلمُلِه من أثر الدخان وأفواهنا القذرة، ونجادله في حدةٍ وعُنف،
إلا أن مَفاصِلنا تسيب إذا لمَحْنا جندياً يعْبُرنا دون أن يلتفِت، مُجرد
جندي جاهل ابن وسخة، فنغرق في الصمت، ونرى الله يغادرنا
ضاحكاُ في رحمة، فنموت من الغيظ بعدما مِتنا في جلدنا. وحتى
نقطع الصمت/نبحث عن شيء نتحدث عنه، فنَسُبّ كل الآخرين،
حتى أصحابنا الذين تأخروا فحُشِروا في زُمرَة الآخرين. نَسُبّ
الجميع، خاصة الصفوة اللي صحيح يستاهلوا يبقوا ولاد كلب، لكننا
في الحقيقة نريد الوصول والانتساب لرب عائلة الذيول هذه، لذلك
لا أستطيع الوثوق بهم، اللي ما يعرفوش ربنا. مع ملاحظة أن
ربنا بتاعنا إحنا بَسْ. ووفق نظرية العدل الإلهي، فإن هناك آخرين
يعتقدون في أن ربنا أيضاً بتاعهم بَسْ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق