تثير دوماً أفكار وآراء الباحث
والروائي حامد عبد الصمد الكثير من الجدل، خاصة أنها تناقش مسائل جوهرية تتعلق
بالأزمة التي يحياها العالم الإسلامي، وتبعات ذلك من أزمات تتعلق بجميع مناحي
الحياة، خاصة السلطة وتعدد أشكالها، بداية من سُلطة النص، وصولاً إلى السلطة
السياسية التي تستظل به كلما دعت مصلحتها ذلك. فكان معه هذا الحوار وفي هذا
التوقيت الذي يحتم علينا مراجعة أفكار موروثة، جعلت هذه البقعة من العالم/الشرق
الأوسط ساحة من الأوبئة الفكرية نشهد ونعيش أثارها أكثر من أي وقت مضى.
ــ بداية ... ما رأيك في فكرة الإصلاح وتنقية
التراث ومقولة تجديد الخطاب الديني
ما فائدة أن تدهن سيارة قديمة بدون فرامل، بلون
جميل وتكتب عليها: سيارة صالحة لكل العصور؟ تنقية التراث وتغيير الخطاب الدينى أمر
هام وضرورى طبعاً، ولكن كيف؟ فصل علم الحديث ومدارس الفقه الإسلامى عن نشأة
الإسلام ليس تنقية للتراث، بل تزييف للحقائق. مَن يريد إصلاحاً حقيقياً عليه أن
يبدأ بالقرآن والسيرة النبوية، لأنهما الأساس الذى بنى عليه التراث الإسلامى كله.
هناك فارق كبير بين التبرير والإصلاح، ولكن الكثيرين ممن يسمون أنفسهم
"مصلحون" مهتمون بتحسين صورة الإسلام أكثر من إهتمامهم بالإصلاح
الحقيقى. ولكن مشكلة الإسلام الحقيقية ليست صورته، بل هى مشكلة الإسلام مع نفسه،
مع نصوصه المقدسة ومع تصوره للعالم و الإنسان والمجتمع والتاريخ.
ــ وهل يجدي دور السلطة السياسية، خاصة مع تكليف
الأزهر بالموضوع، وهل الأزهر كمؤسسة جديرة بالتصدي لهذا الأمر؟
أن يعترف رئيس دولة مسلمة أن لدينا مشكلة مع
النصوص المقدسة وأن ينادى بإصلاح الخطاب الدينى، فهذا شئ جيد لا شك. لكن لا يمكن
للإصلاح الدينى أن يأتى بقرار رئاسى. الدولة تستطيع أن تجرى إصلاحات فى مجال
التعليم وفى هيكلة وزارة الأوقاف، لكنها لا تسطيع أن تصلح ما أفسده 14 قرناً
بقرارات سياسية. والأزهر لا يستطيع أن يكون المنوط بعملية الإصلاح، لأن الأزهر هو
جزء من المشكلة، فكيف يكون جزءاً من الحل؟ بالطبع يستطيع الأزهر حذف بعض مقرراته
الدراسية التى بها تحريض على العنف والقتل، ولكن الإصلاح لا يأتى بحذف النصوص،
ولكن بنزع القدسية عن هذه النصوص والتعامل معها بمنطق عقلى نقدى تحليلى. وهذه هى
مشكلة الأزهر مع المصلحين، لأن الأزهر يرى نفسه كحارس للتراث، وشرعية الأزهر
مستمدة مباشرةَ من الحفاظ على قدسية هذه النصوص. إذن فالإصلاح يعنى أن الأزهر سيقطع
فرع الشجرة الذى يجلس فوقه، وهذا لن يحدث. إصلاح الأزهر مثل إصلاح الإتحاد
السوفيتى: حين تجرأ جورباتشوف على أخذ خطوات جادة نحو الإصلاح، إنهار الكيان
القديم كله فوق رؤوس الجميع.
ــ الأمر يدعونا لمناقشة المفارقة ما بين الأصل
الديني والممارسة الدينية، هناك من يرى أن المشكلة في تطبيق النصوص، دون النصوص
ذاتها؟
مشكلة النصوص لها أكثر من شِق: هناك النص نفسه
ومضمونه وسياقه التاريخى، وهناك قدسية النص والنظر إليه كرسالة أو أمر من الله
يستوجب التطبيق فى كل زمان ومكان، والشق الأخير للمشكلة هو فكرة التطبيق ذاتها. المشكلة
ليست التطبيق الجيد أو السئ للنصوص، ولكن المشكلة هى أننا مهووسون بالتطبيق!
الإرهابيون يستشهدون بنصوص تحض على العنف ويطبقونها بحذافيرها، والمصلحون يستشهدون
بنصوص جميلة تحض على التنوع والتسامح ويريدون أن يطبقونها، ولكن الطرفين هما وجهان
لعملة واحدة. كلاهما يعتبر النص دستوراً وحَكَماَ، وكلاهما يختار النص الذى يوافق
مشروعه أو توجهه بانتقائية فجّة. لماذا يلوم المصلحون السلفيين والإرهابيين فى حين
أنهم أيضاً يستشهدون بالنصوص المقدسة؟ الحل من وجهة نظرى ليس تجاهل النصوص التى
تدعو للعنف والتركيز على النصوص التى تدعو للتسامح، بل تحييد كل النصوص سياسياً
وتشريعياً.
ــ وهل تبدو المفارقة في ما بين النصوص المكية
والمدنية، وما أثر ذلك؟ مسألة الاستناد الدائم للنصوص المكية، لتصحيح الصورة أو
تجميل الوجه
حاول المفكر السودانى محمود محمد طه طرح فكرة أن
النصوص المكية صالحة لكل زمان لأنها تحتوى على مبادئ عامة، أما النصوص المدنية فهى
تعالج ظروف معينة وقد انتهت صلاحية هذه النصوص بإنتهاء ظروفها. أما أنا فأرى أن كل
من نصوص مكة ونصوص المدينة هى انعكاس لظروف زمانها، وقد انتهت صلاحية كل منهما
بانتهاء ظروفها وزمانها. تاريخ القرآن واضح: فى مكة لم تكن هناك دولة ولا مجتمع
إسلامى، وكان المسلمون أقلية مستضعفة، لهذا كانت النصوص غير سياسية وكانت تدعو
للتسامح والتدبر فى خلق السماوات والأرض والتركيز على فكرة التوحيد. وحين انتقل
الرسول للمدينة بنى مجتمعاً ودولة وجيش، فأصبحت النصوص تصف حروباً وصراعات لاهوتية
مع اليهود والمسيحيين وتشريعات وحدود. فى مكة قال القرآن للمشركين "لكم دينكم
ولى دين" وهذه آية لا علاقة لها بالتسامح، بل بقلة الحيلة، لأن المسلمين
كانوا مستضعفين، والمستضعف لا يمنّ على من حوله بالتسامح، بل يطلب هذا التسامح
منهم. وحين هاجر النبى للمدينة قال لليهود فى البداية "لا إكراه فى
الدين" لأنه كان يحتاج إلى مساعتدتهم فى حروبه مع كفار مكة. لو كان الرسول
قال لأهل مكة حين فتحها فيما بعد "لا إكراه فى الدين" أو "لكم
دينكم ولى دين" كان من الممكن أن نقول إن الإسلام دين تسامح، ولكنه حطم
أصنامهم ونادى بإخراج المشركين من جزيرة العرب. وبعد حدوث الشِقاق مع اليهود لم
تعد آية "لا إكراه فى الدين" لها أهمية، بل "إن الدين عند الله
الإسلام"، وحُكم على أهل الكتاب أن "يعطوا الجزية عن يدٍ وهم
صاغرون". ومن وجهة نظر إسلاموية فإن نصوص مكة تصلح حين يكون المسلمين أقلية،
أما بعد التمكين وسيطرة المسلمين على أواصر الدولة بات من الضرورة تطبيق النصوص
المدنية. وهذا كلام منطقى لو اتفقنا أن القرآن كلام الله، فالله لا يحتاج سياق
زمنى ومكانى حتى يتكلم، وكلامه أزلى.
ــ
توصلت في كتابك (سقوط العالم الإسلامي) إلى عقم استقراء التاريخ الإسلامي عن إنتاج
صيغة معاصرة قادرة على التعايش، بماذا تفسر محاولات الإصلاحيين من الإسلاميين في
البحث عن هذه الصيغة؟ كمحاولات البعض تأويل
النصوص بعيداً عن حرفيتها للخروج من مأزق ما تحمله من أفكار
كنت أحاور صديق باحث يحاول تطوير رؤية عصرية
للقرآن وقلت له "ما الذى يجعلك على يقين أن تفسيرك للقرآن أصحّ من التفسير
السلفى؟ كون هدفك نبيل لا يجعل قراءتك هى الأصح". نحن نتهم الإسلاميين أنهم
يقومون بتسييس الدين، فلماذا نستشهد نحن أيضاً بالنصوص الدينية لأغراض سياسية
كالتعايش أو السلام؟ مرة أخرى: الحل ليس تفسير عصرى للنصوص، بل تحييد هذه النصوص
ونزع القداسة عنها. الحل هو رفض الوصاية الدينية سواء كانت هذه الوصاية تحمل
سلاحاً أو وروداً. أعتقد أننا بعد صدور الإعلان العالمى لحقوق الإنسان لسنا بحاجة لإعادة
استنطاق النصوص القديمة للحصول منها على موافقة بأثر رجعى على أن نعيش فى حرية
وسلام وألا يجور أحدنا على الآخر. لسنا بحاجة إلى أن نعيد اختراع العجلة من جديد.
المشكلة هى أننا كمسلمين نشعر بالحرج أن الغرب سبقنا إلى تطوير صيغة للتعايش بها
حرية ومساواة أفضل من الصيغة التى جاء بها الإسلام، فردت دول منظمة التعاون
الإسلامى بإعلان القاهرة لحقوق الإنسان فى الإسلام سنة 1990، وهى وثيقة مضحكة تتحدث
عن حقوق الإنسان ولكن بشروط الشريعة الإسلامية، فأصبحت ضد حرية العقيدة وحرية
المرأة والحرية الفردية. المصلحون لا يفعلون شئ آخر سوى أنهم يحاولون أن يجعلوا من
النبى محمد المؤلف الحقيقى للإعلان العالمى لحقوق الإنسان، وفى هذا التواء غير
مبرر وغير ضرورى للحقائق، فالنبى عاش فى زمن آخر وكانت دعوته موجهة لهذا الزمن ولم
تكن تراعى ظروف البشر فى القرن الحادى والعشرين. مشكلة المصلحين مع السلفيين هى أن
أنصار الشريعة يريدون أن يأتوا بالقرن السابع الميلادى ليحكم فى القرن العشرين،
ولكن بعض المصلحين يفعل نفس الشئ ولكن لهدف نبيل.
ــ هل ترى أن "إسلام البحيري" حاول
بالفعل نقد التراث الديني؟ وهل تحرر الرجل من المفاهيم الأولية لنشأة الإسلام؟
أنا أحترم جهد الأستاذ إسلام البحيرى كثيراً، وهو
خلق حالة من النقاش حول مسائل التراث والأحاديث غير مسبوقة. ولكن على مَن يريد أن
يتخلص من حقول ألغام التراث أن يخرج خارج صندوق التراث. مشكلتى مع الأستاذ البحيرى
هى أن محاولته الدؤوبة لتحسين صورة النبى والدفاع عن القرآن تفقده موضوعية الباحث
المحايد. النبى والقرآن ليسوا بحاجة إلى دفاع، ولكن بحاجة أن نضعهم فى سياق زمانهم
وألا نحملهم فوق طاقتهم. الأستاذ إسلام البحيرى يلوم على الفقهاء أنهم إما أساءوا
فهم كلام النبى ونصوص القرآن أو أنهم أوّلوها لتخدم أهدافهم. ولكن فى الحقيقة
الأستاذ إسلام يفعل الشيء نفسه .. يدّعى أنه وحده مَن يفهم المغزى الحقيقى لكلام
النبى والقرآن، وذلك ليخدم أهدافه أو قناعاته الإصلاحية. فلو أن كلام الله والرسول
أُسئ فهمه طوال 1400 سنة، ويحتاج اليوم إلى مَن يشرح للمسلمين ماذ كان يقصد الله،
لو أن الأمر كذلك، إذن فالإسلام دين مزيف وتاريخه كله وما ترتب عليه باطل.
ــ أين ترى المشكلة الأساسية .. النص وتجلياته
في الواقع أم التراث الفقهي؟ فكرة حُكم العالم، والنظرة الصحيحة المطلقة والوحيدة
وخير أمة أخرجت للناس، هذه المقولات التي أصبحت تعبر عن الحلم أكثر من الواقع
المشكلة تبدأ من تصورنا أن الله يتكلم، ويختص
مجموعة من البشر دون غيرهم بكلامه، بل وأنه قرر السكوت إلى الأبد واختصنا بآخر
كلام له قبل أن يسكت. فمن المنطقى أن ننظر لأنفسنا كخير أمة أخرجت للناس. وبما أن
القرآن هو آخر كلام الله والإسلام آخر رسالاته فمن المعتقد أن يشمل هذا الكلام
وهذه الرسالة على آخر مانيفيستو إلهى للبشرية، بما فى ذلك التشريعات والقوانين
والتصور الأمثل للمجتمع والأخلاق. وبما أننا خير أمة أخرجت للناس فمن واجبنا أن
نحقق إرادة الله على الأرض بتطبيق شرائعه وقوانينه. هنا تكمن المشكلة. الديانات
السماوية الأخرى تحررت منذ زمن من فكرة النص الإلهى وصارت تنظر لكتبها المقدسة
كنتاج بشرى، لذلك كان من السهل تفسيرها وتحييدها، ولكن فى الإسلام نحن أمام كلام
الله المباشر، فمَن هذا الذى يستطيع أن يفسر كلام الله؟ فكرة التفسير تتعارض مع
فكرة آخر كتب الله. فلو أن الله أراد أن يعطى البشر آخر رسالة وآخر كتاب، فلماذا
لم يترك هذا الكتاب يشرح نفسه بنفسه، لماذا كل هذا الغموض وهذه الكلمات المبهمة
والسياقات المبتورة؟ لماذا يعتمد الله على بشر يخطؤون وينحازون كى يفسروا لعباده
ماذا كان يقصد بهذه الآية أو بتلك؟ كيف يستطيع الإنسان الضعيف المحدود بالزمان
والمكان وحدود اللغة والتصور أن يفسر كلام الله المتعالى العارف ببواطن كل شئ. هنا
أستطيع أن أفهم السلفى الذى يقول القرآن واضح ولا يحتاج تفسير وحين يقول القرآن
"واهجروهن فى المضاجع واضربوهن" فهو إذن من الله للرجل أن يضرب زوجته لو
نشزت. ولكن يأتى الوسطى المصلح الذى يشعر بالإحراج وسط العالم المتحضر الذى يعتبر
ضرب المرأة جريمة ويبدأ فى تأويل عقيم ويحاول إثبات أن كلمة "إضربوهن"
لا تعنى إضربوهن. هذا هراء وضحك على الذات. التعامل الأمثل مع مثل هذه الآيات هو
أن نقول: حتى لو كان القرآن يسمح للرجل بضرب زوجته، فإننا نتفق أن ضرب المرأة عار
وجريمة. بلا تبرير أو تأويل! هنا تتبلور فكرة الإصلاح التى أؤمن بها: ليس إصلاح
النصوص أو إعادة تفسيرها بصورة عصرية، بل إصلاح تفكير الفرد وأسلوب تعامله مع
النصوص حتى لا ينظر إليها ككتاب إرشادات يشمل كل صغيرة وكبيرة فى الحياة.
ــ تحدثت عن أن أسباب نجاح الدولة الإسلامية الأولى
هي نفسها أسباب أزمة المجتمعات الإسلامية الآن. هل من الممكن توضيح ذلك؟
بداية الإسلام كان بها عيب خلقى غير مقصود، وهو
النجاح الكبير. اليهودية والمسيحسة نشأت كحركات صغيرة عاشت كأقليات لقرون طويلة
وتعلمت من ذلك التعايش مع مجتمعات أخرى لا تطبق تعاليم اليهودية أو المسيحية. أما
الإسلام فتولى الحكم بعد سنوات قليلة من نشأته. الرسول لم يكن فقط نبى بل زعيم
دولة وقائد عسكرى ووزير إقتصاد ومالية ومشرِّع وقاض ورجل شرطة فى نفس الشخص. كل
ذلك كان ضرورياً فى وقته وبسبب الظروف المحيطة به. فكرة الجهاد وتقسيم العالم
لمعسكر الكفار ومعسكر المؤمنين كانت ضرورية لضمان ولاء المسلمين ولتحفيزهم على
القتال. لولا حروب الردة والفتوحات الإسلامية لما بقى الإسلام على قيد الحياة. وقد
أدت هذه الحروب لنشأة اقتصاد إسلامى قائم على فكرة جباية الجزية وفدية أسرى الحروب
وبيع العبيد. وظلت الدولة الإسلامية قوية طالما أن لها جيش قوى يغزو البلدان ويضمن
تدفق الجزية والخراج. ولكن العالم تغير اليوم، وفكرة تقسيم العالم لعدو وصديق
تتنافى مع فكرة العولمة، واقتصاد الجهاد لم يعد يكفى لتحيا البلاد فى رخاء، ولكن
لأننا لا نقدس فقط للقرآن بل أيضاً نقدس التاريخ الإسلامى فما زال الكثيرون يحلمون
بغزو العالم وفرض الجزية عليه. نحن لا نزال محبوسون فى هذا التاريخ المقدس.
ــ أسلوب العلاج بالصدمات وهو ما يتهمك البعض
باتباعه كتشبيهك بنشأة الإسلام بنشأة المافيا على سبيل المثال!
عملت هذه المقارنة فى سلسلة حلقات "صندوق
الإسلام" التى أبثها على اليوتيوب. وهى مقارنة من حيث ظروف نشأة المافيا
والإسلام. كلاهما ملأ فراغاً فى مجتمع تسوده الفوضى واللاقانون. كلاهما اعتمد فى
بداياته على فكرة السطو والجزية أو الأتاوة. كلاهما يعاقب الخائن أو المرتد
بالقتل. فكرة الطاعة العمياء وخمس الغنائم للزعيم .. هذه كلها عوامل تجعل المقارنة
مقبولة. وعلى فكرة كلمة (مافيا) أصلها عربية، وجذور المافيا فى جزيرة صقلية تعود
لقبيلة (المعافر) العربية، التى كانت تغصب سكان باليرمو على دفع الأتاوات. وجانب
آخر من الشبه هو أن أنصار المافيا اليوم يقولون إن المافيا ولدت كمنظمة أخلاقية
بهدف تحقيق العدالة فى صقلية وأخذ المال من الأغنياء وإعطائه للفقراء، ولكن
الأجيال التى جاءت بعد جيل التأسيس أساءت إستخدام الفكرة وانحدرت نحو عالم
الجريمة. هل يذكرنا ذلك بشئ؟! وعموماً الهدف من هذه المقارنة هو تقديم فكرة أن
التاريخ نسبى، فقد تعتبر نفسك وأمتك خير أمة أخرجت للناس فى حين ينظر إليك الآخرون
كأكبر مشكلة عرفها العالم.
ــ ألم تجد حلاً لمعضلة الشرقي وما يحمله من
تراث، عندما يواجه الأمر بقدر من العقلانية؟ حالة الضياع التام هذه التي عاشها بطل
روايتك (وداعاً أيتها السماء)
أعتقد أن الحل هو التحرر من حقائب السفر الثقيلة
التى يحملها "الشرقى" لو صح التعبير- معه فى كل مكان فتعوقه عن الحركة.
ليس كل ما هو قديم جميل أو صحيح، وليس كل ماهو حديث خطأ أو خطير. حقائب السفر
وظيفتها تسهيل السفر لا إعاقته. والمعضلة الحقيقة تبدأ حين يتماهى المسافر مع
حقائب سفره ويظن أنهما نفس الشئ. التاريخ والتراث جزء من حياتنا بالطبع ولكنهما
ليسا حياتنا. ولابد هنا أن نفرق بين ثلاثة أنواع من التاريخ: التاريخ المقدس الذى
صنعه الله، والتاريخ الذى صنعه الأجداد، والتاريخ الذى نصنعه نحن. كثيراً ما نبقى
محبوسين فى النوعين الأولين وننسى النوع الثالث مع أنه هو الأهم.
ــ وعن اللحظة الراهنة مارأيك في ما تفعله
السلطة السياسية من تقويض لأي فكر مخالف، بحجة الحفاظ على الدولة؟
لو تكلمنا عن مصر، فهناك خطر حقيقى على الدولة،
هو خطر الإرهاب والأصولية، ولابد للدولة ومعها الشعب على العمل معاً لصد هذا
الخطر. ولكن هذا يجب ألا يكون ذريعة لتعقب ومعاقبة كل مَن يخالف الدولة أو الحكومة.
فأنت لا تسطيع أن تنادى بالتغيير فى حين أنك تضطهد المعارضين وتنعتهم بالخيانة
والعمالة. لا تستطيع أن تطالب بإصلاح الخطاب الدينى، فى ظل قانون "ازدراء
الأديان" واضطهاد الملحدين. أعتقد أن الملحدين قادرين على إصلاح الخطاب
الدينى أفضل من الأزهر، لأنهم غير مقيدون بالتراث وبما عُلم من الدين بالضرورة حين
ينتقدون الدين وحين يطرحون أسئلة جريئة، وأسئلتهم هذه تستفز رجال الدين وتجبرهم
على تقديم إجابات منطقية بعيدة عن مفهوم القدسية. الشرط الأول من شروط الإصلاح هو
حرية التفكير وحرية التعبير. من يضحى بهذه الحرية من أجل بقاء الدولة، لن يجد فى
النهاية إلا شبح لهذه الدولة لا يسكن فيها إلا مسوخ لا تفكر ولا تغير شئ. الدولة
لا تستطيع أن تصلح الخطاب الدينى بقرارات وإجراءات سيادية، ولكنها تستطيع أن تخلق
المناخ المناسب لهذا الإصلاح، وهذا المناخ يحتاج حرية وتعليم قائم على الأسلوب النقدى
التحليلى، لا على تمجيد الذات وشيطنة الآخرين! ولكن علينا ألا ننسى أن الدولة هى
مجرد اتفاق مبرم بينى وبينك، فلو كنا جادين ستكون الدولة جادة، ولو كنا مترهلين
ستترهل الدولة.
............
حامد
عبد الصمد روائي وباحث متخصص في العلوم السياسية والدراسات الإسلامية، من مواليد
القاهرة 1972
يعيش ويعمل في ألمانيا ويحمل جنسيتها. عمل بمنظمة اليونيسكو كخبير تربوى ومدرساً للدراسات الإسلامية بجامعة إيرفورت، ثم مدرساً
للتاريخ الإسلامي بجامعة ميونخ الألمانية. صدرت روايته (وداعاً
أيتها السماء) في طبعتها الأولى عام 2008 عن دار ميرت للنشر بالقاهرة، ولم تزل
تتوالى طبعاتها حتى هذا العام. إضافة إلى كتابه (سقوط العالم الإسلامي) الصادر بالألمانية
عام 2010، والذي ترجم إلى العربية في العام نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق