لكل من المخرج الروسي "دزيغا
فيرتوف Dziga Vertov"
والناقد والمُنظّر الفرنسي "أندريه بازان André Bazin"
أفكارهما التنظيرية عن السينما والتفكير الجمالي للفن ووظيفته من خلالها، وإذا كان
بازان وجدت بعض أفكاره حيز تنفيذها من خلال أفلام الموجه الجديدة، التي كانت
انعكاساً مباشراً لكتاباته في كراسات السينما، نجد أن فيرتوف قام بتطبيق نظرياته
الجمالية بنفسه، في عدة أعمال أشهرها فيلم "الرجل والكاميرا". وكل منهما
نادى بواقعية السينما ودورها، وانتقد تزييف الواقع في الأعمال السينمائية الأخرى،
على مستوى الفكر والتقنية، وبالأخص الوسائل التقنية التي تجعل من الفيلم جديراً
بأن يعبّر عن الواقع، في شكل حاد يصل إلى حد التطرف.
تنظيم فوضى الواقع
بداية يرى فيرتوف أن الوثائقي هو الوسيلة الإعلامية للثورة، وأن التوثيق
لابد وأن يحل محل التمثيل، ولذلك على الفيلم الروائي أن يندثر، فالوثائقي يسجل
الحياة كما هي عن طريق الكاميرا، أو الآلة التي تظهر العالم كما هو. ذلك
انطلاقاً من قدرة الوثائقي ــ حسب رأيه ــ أن يكون عيناً على المجتمع بطريقة
تتجاوز قدرة الإنسان على الملاحظة، وهنا تغيب تقاليد الفيلم الوثائقي التقليدي فلا
راو يخبر بحدث، ولا خبراء يمثلون المرجعية الموثوق بها، وموسيقى الفيلم لا تستخدم
للإيعاز بمشاعر مرتبطة بالقصة أو الحكاية. وعلى الرغم من أن "فيرتوف" أكد تأكيداً قاطعاً
على الإعجاز العلمي لعين الكاميرا وقدرتها على إخبار الحقيقة على نحو يتجاوز
الأبعاد البشرية، إلا أنه حذا حذو "فلاهيرتي" و"جريسون"، حين
ذهب إلى أن الراوي البشري كان له أهمية بالغة. ومثل العين البريئة للفنان التي
نادى بها "فلاهيرتي"، وادعاء "جريرسون" بأن الفيلم الوثائقي
معالجة خلاقة للواقع، كان قول "فيرتوف" بحق المونتير في تنظيم فوضى
الحياة الواقعية، وكان هذا تصريح لصانع الفيلم بأن يفعل كل ما يحلو له.
فيرتوف |
التحايل
على ما يُسمى بالواقع
لقد
اطلقوا جميعا ادعاءات مُتطرّفة لقيمة الحقيقة في أعمالهم، وفي نفس الوقت صوّروا
صانع هذا العرض الصادق فناناً يحتاج إلى الحرية كي يبدع. فيرتوف
الذي انطلق من قناعات تدافع عن الثورة الروسية، وصولاً إلى التحايل على الواقع من
أجل قناعات معينة، هذا ما توضحه
أكثر الفقرة التالية "لم يكن يطمح إلى (عرض المعلومات بدون تحيز)، بل على
العكس من هذا تماماً، كان يعمل على (التأثير على العقل ودفعه إلى إتجاه معين)، ولم
تكن هذه البدعة من بنات أفكار Vertov، بل كانت شيئاً مُعتاداً من قِبل الصحافة
السوفيتية، استمد منها الأسلوب والتوجه في عرض المعلومات، ودعم وجهة النظر الخاصة
به، والتواصل مع الجمهور، فخلال تلك الفترة ــ العشرينيات ــ كانت أفلام Vertov امتداداً
لنموذج الصحف الشيوعية. (راجع .. Hicks,
Jeremy. Dziga Vertov.Defining (Documentary.I.B.Tauris&Coltd.UK, P.8. هذه أحد الآراء في أعمال فيرتوف، لكن لا
يمكن الأخذ بها على إطلاقها، لأن الرجل كان ينطلق من منطلقات ثورية بالأساس وليست
دعائية، فقد كان يصدّق ما يفعله، ويُحرّض على فعله، مثله في ذلك مثل
"ماياكوفسكي Mayakovsky"* الذي ارتبط به وبفكره فيرتوف إلى حدٍ
كبير.
ويوضح "فيرتوف" الأمر أكثر من
خلال مقالاته التنظيرية ويومياته العملية في صناعة الأفلام، خاصة وهو يتحدث عن
المونتاج، إذ يقول "نفهم المونتاج على نحو مختلف، فهو تنظيم العالم المرئي".
فالمونتاج وفق فيرتوف ما هو إلا كتابة من خلال الكادرات السينمائية، وهو كما يُطلق
عليه فيرتوف نفسه "نوع أعلى من تنظيم المادة السينمائية الوثائقية".
(راجع .. دزيجا فيرتوف. الحقيقة السينمائية والعين السينمائية،
ترجمة: عدنان مدانات. بيروت 1975، منشورات مجلة الهدف. ص 355).
هذه الوسيلة التقنية هي أسلوب تفكير بالأساس في اللقطة
ومفرداتها ومكوناتها ووظيفتها قبل كل شيء، لم يكن هناك مجالاً لشيء من التسلية أو
المجانية، فالأمر أشبه ــ كما نستشف من كتابات فيرتوف ــ بعمل صارم، له قوانينه وآلياته
التي لم يحد عنها في أعماله قدر المُستطاع، لذا انصب اهتمامه على "ترتيب اللقطات وتنظيمها نظرياً،
مما أوصله لأن يجعل الأشياء تقول كل ما كان يفكر في النطق به". (راجع .. جان
ميتري. علم نفس وعلم جمال السينما. ترجمة: عبد الله عويشق، دمشق 2000، منشوات وزارة
الثقافة السورية، سلسلة الفن السابع، عدد (32). ص 708).
الصورة
السينمائية وأصولها الفوتوغرافية
أما "بازان" الذي ينطلق من الطبيعة
الفوتوغرافية للصورة السينمائية، فيرى الواقعية تتمثل في
اللقطة الطويلة وعمق المجال، لتحقيق
درجة أعلى من الواقعية، وهو أمر أشبه بالمَسرَحة (الميزانسين)، بخلاف مونتاج
إيزنشتين، الذي من وجهة نظر بازان يتلاعب بالمشاهدين ويقضي على حريتهم في الاختيار
بجعلهم لا يشاهدون سوى ما يريده المخرج. من ناحية أخرى يؤكد بازان على الأساس
الفوتوغرافي للفيلم السينمائي، فالمعنى يكمن في اللقطة المنفردة، وليس المونتاج
رغم أهميته هو أداة التعبير الأولى، فالأسلوب السينمائي الهادف هو الذي يوظف
اللقطة الطويلة وعمق المجال، فالحدث الكامل الذي توفره اللقطة الطويلة، يضاهي
الواقع، من حيث المكان وزمنية وقوع الحدث، ويستشهد بازان بـ "المواطن كين Citizen Kane 1941" لـ Orson Welles . ويُلاحظ .. اتفاق كل من دزيجا فيرتوف وأندريه
بازان على رفض أسلوب إيزنشتين، الذي يفصل تماماً بين الصورة
السينمائية والواقع، فاللقطة المفردة ليست بذات معنى، إلا إذا وضعت في سياق بنائي
مُحكم لإنتاج دلالة جمالية وفنية. وهو بذلك يميز تمييزاً حاداً بين الفيلم والصورة
الفوتوغرافية.
بازان |
المونتاج وتأثيره على وعي المُشاهد
أما أسلوب المونتاج فيحد من قدرات المشاهد على الخيال،
ويفرض عليه رؤية صانع الفيلم، وبالتالي تنتفي الموضوعية والواقعية بحسب رأي بازان.
إلا أن مفهوم الواقعي الذي استشهد به بازان، والكامن في اللقطة الطويلة التي
استخدمها فلاهيرتي كتكنيك إخراجي، لم يكن في الحقيقة يعبر عن الواقع بأية حال. إضافة
إلى أن ما يظهر على الشاشة ليس عالم الواقع، بل رؤية للعالم، وهي الرؤية الذاتية
للمخرج، وحريتنا تظل باقية في مواجهة هذا الواقع الثاني، فأحكامنا لم تعد واقعية
بل تقيمية لتجربة جمالية.
جماليات الفن السينمائي
والمفارقة
الجمالية التي يتحدث عنها بازان تكمن في الأسلوب الواقعي في الفن، لذلك يرى بازان
أن الفيلم الفني ينبغي أن يكون مقارباً للواقع، دون أن يطابقه، وإلا انتفت عنه صفة
الفن. ولكن الفيلم في أكثر حالاته اقتراباً من الواقع فهو لا يصوره، وإنما يقترب
منه على أكثر تقدير. إن اعتبار الشخصيات والأحداث والمواقف في فيلم ما واقعية أو
غير واقعية لا يعتمد على توقعاتنا المُطلقة حول العالم خارج الفيلم، أي خبراتنا
بالعالم، وإنما على التوقعات التي يفرضها الفيلم ذاته. كما أن قابلية تصديق
الشخصية يُحكم عليها من خلال علاقاتها داخل الفيلم، "ولهذا لا تحتاج تصرفاتها
إلى اعتبارها غير واقعية في ضوء حكم الواقع، بل اعتبارها واقعية فقط في ضوء
المعتقدات والتوقعات المتولدة من داخل العمل الفني (الفيلم). وحتى تكون الشخصية أو
الشيء أو الفعل أو الحدث غير واقعية داخل عالم الفيلم، يجب أن تكون مجافية لطبيعتها
التي تأسست من قبل خلال الفيلم". (راجع .. آلان كاسبيار. التذوق السينمائي.
ترجمة: وداد عبد الله، القاهرة 1989، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الألف
كتاب الثاني، عدد (74)، ص 101 ــ ص 122). فمهما
بلغت اللقطات من الطول والعمق فهي ستظل محدودة وحكمها في ذلك حكم اللقطات القصيرة
قليلة العمق.
الأسلوب
الفيلمي وتهافت التنظير
كما
أن هذه الأحداث نفسها سواء كانت معاشة أم خيالية، تتألف دائماً من علاقات بين
وقائع، وأقل ما يطرأ عليها بفعل فاعل، من شأنه أن يزيف أصليتها وحقيقتها. وحتى
الصورة الفوتوغرافية لم تسلم من هذا التزييف "لم
يعد الفوتوغرافي في النهاية أكثر مناعة من فن الرسم ضد الشكوك الحديثة حول أي
علاقة واضحة المعالم مع الواقع، فالواقع يحتاج إلى عين كاميرا انتقائية وأكثر دقة،
لأنه ببساطة ما ظهر من الواقع هو أكثر من ذي قبل". (راجع .. سوزان سونتاج. حول
الفوتوغراف. ترجمة: عباس المفرجي. بيروت 2013، دار المدى. ص 141).
إن ما يقدمه بازان كاتجاهين
منفصلين ومتعارضين جذرياً في بناء الفيلم ليسا في الحقيقة سوى دافعين متضادين
ومتعارضين لآلية واحدة، لا يعملان إلا عبر صراعهما، ويحتاج أحدهما للآخر، وتاريخ
السينما هو طوراً نحو البناء وآخر نحو تصوير الواقع. فالسينما المعاصرة ليست
امتداداً آلياً لأحد الاتجاهين، بل نتاج تركيبهما المعقد. فالأسلوب المزدوج
والتقابل ما بين المونتاج واستخدام اللقطة الطويلة هو انقسام خاطئ، فرغم عدم وجود
قطع بالمعنى الحرفي، فهناك الكثير من حركة الكاميرا التي تحقق التأثيرات المماثلة
للقطع، فالحركة هنا انتقائية إلى حد كبير، وتوجه انتباه المتفرج إلى تفاصيل خاصة
بالميزانسين أو اللقطات القريبة لوجوه الشخصيات، بطريقة تحقق التأثير الناتج عن
المونتاج.
*نشر بالقدس العربي اللندنية في 29 يناير 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق