ستظل أعمال الأديبة الراحلة أندرية شديد موضع دراسة، نظراً لتنوع إنتاجها الأدبي ما بين الشعر والقصة والرواية، ووجة نظرها الوجودية لعلاقة الإنسان والعالم، والروح الشرقية التي لم تفارقها في معظم أعمالها. فهي تنتمي إلى عائلة لبنانية الأصل، وهي مصرية المولد، وخريجة الجامعة الأميركية بالقاهرة، وأخيراً فرنسية اللغة والكتابة. هذا التنوع في المصادر الحياتية والمعرفية جعل لتجربتها الإبداعية عمقاً وعالم خاص تحياه، ويؤكد ذلك قولها " مصر وطني ولبنان وطني وفرنسا وطني..ولا مكان للمنفى في حياتي طالما أنني أعيش في ثمة مكان من عالم الكتابة، عالم اللامكان"
الشعر والتساؤل المستمر
ترى شديد في الشعر أنه جوهر تجربتها الحياتية، رغم اللغز الدائم الذي يوحي به الشعر، وهو لغز ملازم لوجود الإنسان وماهيته. قلقه من جدوى حياته، التي عليه في النهاية احترامها، والنظر إليها في دهشة طفل. هكذا ترى شديد الحياة من خلال الشعر. وتعلق قائلة حول كتابيها نصوص من أجل قصيدة وقصائد من أجل نص " نكتب نصوصاً ونصوصاً في محاولة للوصول إلى القصيدة الأخيرة، متمنين ألا نصل أبداً إلى تلك القصيدة". بهذه الروح تكتب شديد الشعر، وتعتبره جوهر وجودها الإنساني، فهو بحث دائم عن الإنسان في ظل وجود قلِق، وتساؤل مزمن عن الحياة وجدواها، وهل سنمتلك طوال رحلتنا هذا اليقين الزائف لمعرفة أرواحنا، المختبئة دوماً خلف وجوهنا التي لم نختر ملامحها، ولا جغرافيتها التي تتجلى قيمة الإنسان في السفر ومحاولة الوصول إليها..."خلف الوجوه والنظرات/نبقى صامتين/وتخدعنا
الكلمات التي نطقناها/والمثقلة بما نتجاهله أو نصمت عنه.
لا أجرؤ أن أتكلم عن البشر/بالكاد أعرف نفسي".
الكلمات التي نطقناها/والمثقلة بما نتجاهله أو نصمت عنه.
لا أجرؤ أن أتكلم عن البشر/بالكاد أعرف نفسي".
ولكن هذه المعرفة التي تريد شديد محاولة الوصول إليها تجعلها ترى في الشعر رغم غموضه كغموض الحياة نفسها هو الملاذ الوحيد في هذا العالم، وترى فيه أنه الوحيد القادر على تغيير الحياة، فتقول " إذا لم يقلب الشعر حياتنا رأساً على عقب فلا شأن له بنا ولا شأن لنا به. وسواء أكان مسكناً أم منبهاً فعليه أن يطبعنا بطابعه الخاص، وإلا فما عرفنا منه غير الدجل".
وجوه أساءت الحياة معاملتها
تبحث شديد من خلال إنتاجها الروائي عن بشر يتنفسون معاناة الحياة، ورغم ذلك يعيشونها في قوة، ويحتفون بها كآلهة بائسة. ففي روايتها اليوم السادس، التي تحولت إلى فيلم سينمائي من بطولة "داليدا"، وإخراج "يوسف شاهين". تحاول "صديقة" بطلة الرواية إنقاذ حفيدها "حسن" من وباء الكوليرا، الذي ضرب مصر في أربعينات القرن الفائت. هذه الفلاحة المصرية القوية، التي تحمل شقاء الأرض وبأسها في آن، لا ترى سبباً لوجودها حية إلا بهدف إنقاذ هذا الطفل، الذي لا حيلة له في الحياة إلا وجوده، وعبر رحلة مضنية من القاهرة إلى الأسكندرية فوق أحد المراكب تصر صديقة إلى السفر لرؤية حفيدها البحر، تحقيقاً للمقولة الشائعة أن الطفل شيُشفى عند رؤية البحر، وأنه إذا مرّت ستة أيام سينجو من الموت. ولكن شبح الموت يتجسد أخيراً ويخطف الطفل من أحضانها. ورغم ذلك تواصل الحياة، وهنا يكمن سر قوة وعظمة هذه المرأة.
ونموذج المرأة القوية يتكرر في أعمال أندريه شديد بصورة أو بأخرى، ففي روايتها "الرسالة" كانت البطلة "ماري" تناضل من أجل حبها، في ظل عالم الحرب. ودون أن تكشف شديد عن اسم المدينة التي تدور بها الرواية، لتعميم الحالة، وعدم قصرها على مكان بعينه، تحاول ماري الوصول إلى حبيبها، الذي على الجانب الآخر من الأطراف المتحاربة. إنها قوة الحب، مهما كانت النتائج، فتصاب بجراح بليغة من جراء رصاصة أصابتها خلال عبورها للجسر الفاصل بين شطري المدينة للقاء حبيبها في الجانب الآخر، لتؤكد له أنها لا زالت على قيد الحياة وأنها لا زالت تحبه، رغم أنه ينتمي إلى المعسكر المتحارب الآخر. ماري تدفع حياتها ثمناً لهذا الحب. فالحب أقوى وأبقى من الحروب، حتى وإن كان الموت دائماً بالمرصاد لمثل هؤلاء العشاق الصادقين.
فقوة المرأة الحقيقة تظل كامنة داخلها وقد تخرج بركاناً في لحظات اليأس، ففي روايتها "نوم الخلاص" تتزوج "سامية" بالإكراه من رجل قاس، لا يمتلك إلا النقود لمساعدة عائلتها، وبعد معاناة طويلة، انتهت بموت طفلتها الوحيدة، تنتقم سامية من قهرها وتقتل زوجها في النهاية، تعبيراً عن خلاصها من حياة لا تريدها، لطالما صبرت عليها. وهي حكاية تتماس والعديد من النساء الشرقيات، التي خبرت شديد حياتهن ومعاناتهن التي لا تنتهي.
وتأكيداً لمقولة أندرية شديد "إن الزمن هو عدو الإنسان الأول" تأتي روايتها "الآخر" التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج الفرنسي "بيرنار جيرودو" ويدور حول عجوز يحاول بشتى الطرق إنقاذ شاب في مقتبل العمر من تحت أنقاض منزل تهدم في الزلزال. فالرجل يحاول أن يستمد الحياة من إخراج هذا الشاب من تحت الأنقاض، إنها حالة تشبه الولادة، ومن المشاهد الشاعرية في الرواية، والتي جسدت حالة العجوز بالفيلم مشهد خروج الشاب من تحت النقاض، من قِبل رجال الإنقاذ، الذين وصلوا أخيراً، فالعجوز يجلس مُبتعداً مُعطياً ظهره لعملية خروج الشاب، بينما يجلس بجواره رجل يحكي له عما يراه، فيصف خروج الشاب بحالة خروج الجنين، والعجوز روحه على وشك الصعود، فقد منحه الحياة وأنقذه في النهاية من الموت.
الموت الذي رأته شديد أمامها، وعرفت انه وجهاً ىخر لحياة لن تنتهي، فتنبأت به في أبياتها ...
"في أي قبر عار يجب أن استلقي
لأجيب ذلك الصوت
الذي يتكلم مثل روحي؟"
"في أي قبر عار يجب أن استلقي
لأجيب ذلك الصوت
الذي يتكلم مثل روحي؟"
ولدت أندريه شديد في 20 مارس 1921 بالقاهرة لعائلة مسيحية لبنانية هاجرت إلى مصر في العام 1860 وانتقلت للعيش في باريس العام 1946. حتى وفاتها في بداية فبراير 2011. وقد أصدرت حوالى 20 راوية وقصة، فيما ضمت نتاجها الشعري في ديوانين هما "نصوص من اجل قصيدة" (1949-1970) و"قصائد من أجل نص" (1970-1991). من أعمالها الروائية .. الرماد المعتق/ جوناثان/اليوم السادس/نوم الخلاص/دروب الرمل/ بيت بلا جذور/نفرتيتي وحلم أخناتون. وكتبت للمسرح .. بيرنيس المصرية/العارض. وحازت اندريه شديد الكثير من الجوائز الادبية ولا سيما النسر الذهبي للشعر (1972) وجائزة جونكور للرواية العام 1979 عن كتابها "الجسد والزمن". وقد منحت وسام الشرف الفرنسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق