أثار فيلم
"القضية 23" أو
(الإهانة) الكثير من الجدل، سواء بدعوى التشجيع على التطبيع، أو الانتقاص من
الفلسطينين والقضية الفلسطينية، حتى أن البعض نادى وقتها بمقاطعة سينما (زاوية)
التي عُرض من خلالها الفيلم في القاهرة، رغم أن أكثرهم لا يدري عن الأمر شيئاً،
سواء عن الفيلم أو مخرجه اللبناني "زياد دويري". هنا تجد الأصوات
العالية مجالاً مناسباً للصياح ومحاولة إثبات الوجود، من خلال العبارات المعهودة
عن الخيانات المجانية، وهي فرصة مناسبة تماماً للنضال أمام الميكرفونات، وكذا بعض
المقالات في الصحف أو على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي ــ البعض منهم لم يُشاهد
الفيلم ويتضح ذلك من تعليقه الذي ينصرف فقط حول الموقف من حكاية الفيلم، الذي
بالكاد سمعها ــ من ناحية أخرى تأتي مثل هذه الأعمال الشائكة بموضوعاتها لتختبر من
حين لآخر حالة الفصام التي نعيشها، فمن التغني بالحرية ليل نهار، إلى دوغما
المواقف التي لا يحيد عنها أصحابها ــ المواقف لا المبادئ ــ وتصبح سلسلة
الاتهامات المتواترة تتواصل ضد أي صوت يحاول الاختلاف، ولو لمجرد الدعوة إلى فقط
مشاهدة العمل والاحتكام إليه من خلال وجهته الفنية، التي لن تكون في صالح فيلم
دويري، اللهم في أنه يريد افتعال جدل سياسي حول ما يسرده، سواء لموقف يتبناه،
كمناداته بمحاولة التعايش مع الكيان الصهيوني، أو إزالة بعض من الهالات المقدسة عن
القضية الفلسطينية، ولن يضيف إليه ترشيحات الأوسكار، فالسينما العربية معروفة
بتاريخها السيئ في مثل هذه المهرجانات. الفيلم أداء .. عادل كرم، كامل الباشا،
ريتا حايك، كميل سلامة ودياموند عبود. تصوير دومينيك ماركومب، موسيقى إيريك نيفيه. إنتاج فرنسي لبناني، سيناريو وإخراج زياد دويري.
أعمال مختلفة
وموقف متعصب
وبغض النظر
عن دويري وموقفه ــ وهو حُر يعتنق ما يشاء ــ هناك العديد من الأعمال السينمائية،
التي أخرجها سينمائيون من داخل إسرائيل، اتخذت منهم إسرائيل الموقف نفسه، أي
وضعتهم في خانة المغضوب عليهم، هذه الأعمال جاءت أكثر وعياً وفناً من عمل دويري،
نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر .. العروس السورية، شجرة الليمون، حتى ميشيل
خليفي وفيلمه "عُرس الجليل" لم يسلم من الانتقاد حتى الآن، بتهمة
التطبيع المعهودة، والعمل الأكثر تماساً من فيلم دويري "فالس مع بشير"،
الذي تعرض لما فعلته قوات الاختلال في لبنان. رغم موقف مخرج الفيلم الذي حمّل
المؤسسة السياسية والعسكرية جرّاء ما حدث. هؤلاء في الأغلب مرفوضون داخل إسرائيل،
وبالطبع يجدون الرفض نفسه من قِبل العرب، دون حتى مشاهدة أفلامهم، فبما أن الفيلم
يحمل جنسية دولة الاحتلال، فهو مرفوض بداهة! فهل يستحق مثل هذا العمل المتواضع كل
هذه المعارك؟!
تفاصيل
مفتعلة
يأتي فيلم زياد دويري،
محاولاً نسج حكايته من تفصيلة بسيطة، من خلالها تمتد أحداث الفيلم وتتشابك ــ
يذكرنا الفيلم في بناء وتعقد الحكاية بأعمال أصغر فرهادي ــ ولكن الفارق شاسع بين
أعمال تتوخى الصدق الفني، وتمتلك الوعي والحرفيه لما تحاول حكيه، وأعمالاً أخرى
تتوسل وتفتعل أحداثاً حتى تمرر أفكارها. الأمر هنا يسقط في فخ التنميط، فالشخصيات
لا تمثل إلا أفكاراً ليس إلا، دون أن تصبح بالفعل شخصيات درامية تليق بعمل سينمائي
ــ الفيلم تم ترشحه لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي ــ فالمشكلة القائمة تأتي
بين شخص ماروني يحفظ خطب بشير الجميل، ويعيش من خلالها، وآخر فلسطيني آتى من مخيمات
الأردن إلى لبنان بعد أيلول الأسود. فهناك حالة كُره مقيم ومستتر ما بين الاثنين.
مجزرة هنا ومجزرة هناك، وكل منهما يحمّل الآخر نتيجة ما حدث، ليظهر الساسة فقط من
خلال شاشات التليفزيون، أو يضطرون لمقابلة طرفي النزاع ــ الضحايا بالأساس ــ كما
حدث في الفيلم. فالافتعال لا ينتهي.
صراع الضحايا
وبعد العديد
من الحوارات وافتعال الأزمات الدرامية ــ مولود ماروني مُبتسر، وفلسطيني خائف
دوماً ــ واستعراض مواقف وحياة كل من الشخصيتين، جلسات محاكمة مطولة، تأثير ذلك
على الشارع اللبناني، واشتعال الفضائيات ــ معظمها أحداث مفتعلة حد الملل ــ فهناك
فكرة يريد صاحبها التأكيد عليها مهما كان الثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو التضحية
بمنطق دراما الفيلم ــ ويبدو الأمر وكأنه انتقام الضحايا بالأساس، (ياسر)
الفلسطيني، الناجي من مجزرة أيلول بالأردن، و(طوني) اللبناني ابن القرية التي تمت
إبادتها على يد الفلسطينيين، من هنا لا يجيد هؤلاء الضحايا سوى توجيه الإهانات
والعيش كأعداء من خلالها. وبعد وكما أسلفنا العديد من الحوارات داخل قاعات
المحكمة، الفلسطيني الذي سبّ اللبناني وضربه، وقد تمنى اللبناني أن يبيد شارون
الفلسطينيين. بعد واصلة الرقص الباهت هذا، يخسر اللبناني القضية، لكنه أصبح أكثر
تعاطفاً وتفهماً لموقف الفلسطيني، وكل منهما يتبادل التحية بالإيماء وشبه ابتسامه
تعلو وجهه! فرغم ذكاء بعض الحوارات بالفيلم، إلا أن سذاجة التناول وحل المشكلة في
النهاية، بحالة من التصالح الموهوم، يهدم كل شيء، ويجعل الأمر مجرد شكل لتمرير هذه
الأفكار لا أكثر ولا أقل.
عالم النضال
وشخوصه
المثير في ما يخص
الفيلم أو عرضه هو الرفض التام وإصدار احكام المسبقة، دونما مناقشة أو محاولة
للتفاهم، فكرة أن تكون سلطة ــ وهمية بالطبع أو بالتطبيع ــ كمقاطعة دار للسينما
على سبيل المثال. حتى الآن يستغرب البعض مشاهدة فيلم من الأرض المحتلة أو قراءة
رواية عبرية. فقط .. افتعال النضال الذي لا يختلف كثيراً عن افتعال فيلم سينمائي
كما في القضية 23. فالأمر سيان، والكل يناضل بطريقته ولا يريد إلا سماع صوته وأصوات
الرفاق المتوافقين معه. مع العلم بأن فيلم دويري لن يكون العمل الأخير الذي سيفجر
مثل هذا الصخب وهذه المواقف، فالعرب ظاهرة صوتية كما قيل بالفعل.