إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، نوفمبر 15، 2010

عشيق الصين الشمالية ... حكاية الحب الأبدي

        "ما هي حقيقتي؟ إن كنت تعرفها فأخبرني بها" مارجريت دورا.

الحياة كعمل إبداعي
حياة الكاتبة الفرنسية مارجريت دورا ما هي إلا قصة حب وحيدة، وممتدة خلال أعمالها المتنوعة، سواء الرواية أو السيناريو أو الإخراج السينمائي. فقصة حبها الوحيدة وعلاقاتها العائلية المُضطربة كانت مادتها التي صاغت منها أعمالها المختلفة، والمتباينة شكلاً فقط. حيث تمثل حياتها الموضوع الرئيسي لأحداث رواياتها، فقد أمضت معظم طفولتها في الهند الصينية (أو ما يعرف الآن بفيتنام)، وكانت على علاقة حب برجل صيني ثري، تسميه في معظم أعمالها بالسيد (جو) أو (ليو). طوال حياة دورا وهي تحاول في تلذذ إعادة تفاصيل علاقاتها بحبيبها في أعمالها، تحاول الإمساك بلحظات معينة، خشية أن تفر من ذاكرة مُنهكة، فنجدها تعيد سرد الحدث بأكثر من طريقة، مُضيفة إليه أو مُنتقصة منه، بهدف تحليله، ومحاولة رؤية ظلال هذا الحدث على حياتها، وعلى طريقة تعاملها مع الآخرين، فملمح حبيبها يظهر من خلال عدة شخصيلت طوال مسيرتها الإبداعية، فهو البطل في فيلم (هيروشيما حبيبي) رغم أنها لا تتعرض صراحة لعلاقة الحب هذه كما في أعمالها الأخرى، ولكنه متواجد، وعندما يغيب نشعر بوجوده أكثر، وهي بذلك استطاعت أن تنقل بشاعرية قاسية محنة حضوره المزمن في حياتها فعلياً وأدبياً.

حياة صاخبة

ولدت مارجريت دورا (اسمها الحقيقي مارجريت دوناديو) في العام 1914، بـ (جيا دينه) بالهند الصينية (فيتنام حالياً)، توفي والدها وعمرها لم يتجاوز الرابعة، أمضت معظم طفولتها في الهند الصينية، حيث جمعتها علاقة حب عاصفة برجل صيني ثري، في سن السابعة عشر استقرت في فرنسا، ودرست القانون والعلوم السياسية بالسوربون، لتحصل على شهادتها الجامعية عام 1953، ومن عام 1935 وحتى عام 1941 عملت كسكرتيرة، وتلتحق بالمقاومة الفرنسية كعضو ناشط بخلية (روشيليو) التي كان يرأسها فرانسوا ميتران (الرئيس الفرنسي الراحل)، كما انخرطت في الحزب الشيوعي عام 1944، حصلت على جائزة (الجمعية الفرنسية للسينما) بمهرجان كان عن رواية (الحب) عام 1980 والتي حولتها إلى فيلم من إخراجها، كما حصلت على جائزة (الجونكور) وهي أعلى جائزة أدبية فرنسية عن رواية (العشيق) عام 1984، التي تحولت إلى فيلم سينمائي من بطولة جين مارش، وتوفيت عام 1996 بعد أن تركت ما يقارب الخمسين رواية، وقامت بإخراج ما يقارب العشرين عملاُ بين مسرحي وسينمائي معظمها مأخوذ عن رواياتها.

عشيق الصين الشمالية
صدرت الرواية في عام 1991، والتي من خلالها تستعيد "دورا" حقيقتها التي طالما بحثت عنها، بكل تفاصيلها وظلالها خشية ضياعها كامرأة وكاتبة وعاشقة في النهاية. " كتبتُ هذا الكتاب وأنا مغمورة بالسعادة المجنونة لكتابته، بقيتُ داخل هذه الرواية لمدة سنة، مُحاطة بالحب الذي جمع بين الصيني والطفلة ... لم أكن أتخيل بتاتاً أن موت الصيني سيبزغ من جديد، موت جسده، وبشرته، ويديه" ص 15
هذه مقدمة الرواية التي كتبتها "دورا" بنفسها، بهذه النغمة من الفرح الذي لا يمكن الفرار منه، وبهذه الاحتفالية والغنائية ابتدأت الكاتبة روايتها. ما بين أم مضطربة الأعصاب، تهذي على الدوام، وشقيقين تتمنى الكاتبة قتل أكبرهما، ولا تجد مَن هو جدير بالحب سوى أخيها الأصغر، والعلاقة الملتبسة على الدوام بينها وبين زميلتها وصديقتها "هيلين" بالمدرسة الداخلية، مثال الجمال الأنثوي في عين المراهقة الصغيرة، وصولاً إلى عشيقها الأبدي، الذي يراها امرأة مكتملة، رغم صغر سنها وبؤسها الظاهر، التي لطالما حافظت عليه من خلال جوارب قبيحة، وقبعة لامرأة أخرى، تحاول بها تذكيره على الدوام أنها ليست إلا عاهرة فرنسية بائسة، خوفاً من هذا الحب المستحيل، إلا أن هذا العاشق، صاحب الثراء والحضارة الأخرى، المختلفة عن عالم الطفلة المعشوقة، يحاول أن يجعل من حبه لها عبادة وحيدة، لا تعترف بالحضارات والصراعات الطبقية، سوى الحب إلهاً وحيداً. " بعد الحرب بسنوات .. الجوع، الموتى، المعسكرات، الزواجات، والانفصالات، الطلاقات، والكتب، السياسة، والشيوعية، اتصل بالهاتف. هذا أنا، من الصوت تعرفت عليه، هذا أنا، أدردتُ سماع صوتِك فقط ... سألها هل مازالت هناك على الخط، قالت له نعم، وإنها تنتظر أن يتكلم. قال إنه غادر ساديك، بسبب دراسة أبنائه، لكنه سيعود إليها فيما بعد، لأنه يرغب في العودة إلى هناك فقط ... لايزال يسمع صوت بكائها. ثم حاول أن يواصل الاستماع ، لكنها لم تكن هناك، لقد أصبحت لا مرئية، لا يمكن الوصول إليها، ثم بكى، بكى كثيراً من أعماقه" ص 224/225

خيانات الذاكرة
طوال الرواية تحاول الكاتبة الحفاظ على عالمها وحبيبها من النسيان، من نسيان أدق التفاصيل، التي تعيد نسجها، مُحاولة تحميلها بالشحنة العاطفية ذاتها، عندما حدثت وقتها، فهي وإن كانت تحكي بصيغة الماضي، إلا أن اللحظة الحاضرة، وزمن السرد الآني، ومُلاحظات الكاتبة، وهوامشها التوجيهية إذا انتوى أحد تنفيذ العمل سينمائياً تملأ العديد من صفحات الرواية، حتى أنها في بعض الأحيان تذكر زاوية الكاميرا عند تصوير اللقطة، وأحياناً حجم اللقطة نفسها، وحركة الكاميرا داخل المشهد " بالنسبة إلى السينما سيكون لدينا الخيار بين أن نبقي على وجه الأم وهي تروي من دون أن نراها، أو على الطاولة والأطفال موضوع حكي الأم. المؤلفة تفضل الاقتراح الثاني" ص 27. " في حالة الفيلم تكون الكاميرا نحو الطفلة، حين يروي الصيني قصة الصين" ص 81. "هذا الفالس سيكون فالس نهاية الفيلم" ص 92. الكاتبة إذن تتخذ من تقنيات السرد المختلفة، والأنواع السردية المختلفة سواء الرواية أو السيناريو ما يجعل حكيها الماضي حاضراً حياً، تعيش فيه بالفعل، وليس طريقة لسرد ذكريات تعود إليها من حين لآخر، هذا ما يجعل حكاية عشيق الصين أو العاشق هي حياة "مارجريت دورا" بالكامل، حكاية حب مقيم، تحاول من خلال اجتراره اللحظي أن تعرف أو على الأقل تتعرف على حقيقتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق