إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، نوفمبر 08، 2017

"المرأة في مصر .. العقل النسوي في مواجهة المجتمع الذكوري"





تاريخ طويل من نضال النساء المصريات ومحاولاتهن لتحقيق قدراً من مساواة بينهن وبين الرجال، ورغم تباين الظروف الاجتماعية والسياسية إلا أن اللافت هو وجود بعض المشكلات والعوائق، التي لم يتم تجاوزها طيلة ما يزيد على القرن. حتى أن بعض مظاهر الحداثة وما بعدها التي ضربت المجتمع المصري وحاولت تغيير وجهته، لم ينل منها وضع المرأة إلا قشور فارغة أدت إلى ترسيخ الصورة الأسوأ، التي كانت سبباً للهجمة المتأسلمة في فرض المزيد من القيود الاجتماعية، دون نسيان مُساندة النظام السياسي لفكر هؤلاء. فماذا يعني كون المجتمع ذكورياً بالنسبة لقضايا النساء؟ كمحاولة للإحاطة بهذا السؤال تأتي بحوث/فصول الكتاب المعنون بـ "المرأة في مصر .. العقل النسوي في مواجهة المجتمع الذكوري"، لمؤلفه ماهر عبد العال الضبع، والصادر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.


العقل النسوي وسمات الأسرة

يبدأ المؤلف بالتساؤل حول كيفية تشكُل العقل النسوي، ذلك الذي ينشأ من خلال الأسرة وطبيعتها ــ الأسرة العربية والمصرية ــ حيث أهم سماتها الأبوية والهرمية المرتكزة على الجنس، فالأبوية هنا تعكس دونية النساء والصغار، فالأول هو المُنتِج والمالك، حتى لو عملت المرأة أو الفتاة في بعض الأعمال نفسها التي يوم بها الذكور ــ العمل في موسم جني القطن مثلاً في الريف، فالمقابل المادي للذكور ضعف ما تحصل عليه الفتاة ــ ومن خلال السلطة المطلقة للأب داخل الأسرة يتم تشكيل عقول الأبناء، فالذكر مصدر كسب للعائلة، بخلاف الأنثى التي تظل عبئاً حتى تلتحق بعائل آخر هو الزوج. هذه النظرة يُعاد إنتاجها يومياً من خلال ممارسات الأسرة الفعلية، وبالتالي تأتي التنشئة من خلال أفكار وأعراف مُسبقة يجب السير عليها والامتثال لقوانينها، تبدو هذه التفرقة في أبسط صورها كما في ألعاب الأطفال أو حواديت قبل النوم. فالعقل النسوي هو نتاج مركب اجتماعي نفسي ثقافي، ووفقاً له تشكلت رؤى وأفكار النساء في المجتمع، مقابل الرؤى والأفكار الذكورية، وهو ما يُشكل البنى الاجتماعية ويؤدي حتماً إلى طبيعة السلطة المسيطرة في المجتمع.

تهميش المرأة

وبخلاف العامل الاقتصادي السيئ عامة، إلا أنه الأسوأ بالنسبة إلى المرأة، ولكن الأهم هنا هو المنظور الثقافي بالمعنى الواسع لوجود المرأة، فكرة النظرة الاجتماعية للمرأة ووجودها، وهي فكرة تسعى بكل طاقتها إلى تهميش هذا الوجود، من حيث السلوك الاجتماعي الجمعي تجاه المرأة، والفقيرة بوجه خاص. ويبدو أن التعليم يساهم بنصيب كبير في ترسيخ هذه النظرة، حيث يحصر المرأة في أدوار محددة، وهو ما يكوّن عند الذكور والإناث فكرة عن المكانة المتدنية للمرأة، ويتضح ذلك في النسب المتفاوتة بين أمية الإناث والذكور. وبخلاف النصوص الدستورية التي تؤكد على المساواة وتكافؤ الفرص وعدم التمييز بين الرجال والنساء، إلا أن ممارسات الواقع تناقض ذلك تماماً، وما وجود امرأة أو أكثر في حزب سياسي ــ إذا انوجد من الأساس ــ إلا تجميلاً للصورة ليس أكثر. الأمر الأكثر غرابة أن العديد من النساء ــ القياديات الرسميات ــ يؤمن تماماً بأدوارهن المحدودة في الحياة، ويستندن في ذلك إلى التراث الديني ومقولاته الأغرب.

الفقيرات وأمنهن المفقود

بداية من خطة الإصلاح الاقتصادي وآلياته التي فرضها صندوق النقد الدولي على مصر، في العقود الثلاثة الأخيرة، ونظراً لمخاطر هذه الإصلاحات على العديد من الفئات الاجتماعية، حاولت الدولة وقتها اختلاق مجموعة من البرامج لعلاج آثار هذه السياسات، خاصة النساء الفقيرات. لكن هذه البرامج واجهت العديد من العراقيل الإدارية والبيروقراطية، اللهم كان النجاح فقط في الدعاية الحكومية المعهودة ــ مما زاد من تعرض الكثيرات إلى الإفقار، فلا توجد أمامهن فرصاً للتدريب من أجل العمل، وكذلك الأعراف الاجتماعية التي لم تسع الدولة إلى محاولة تقويمها. ورغم العديد من هذه البرامج ومسمياتها .. بنك ناصر، معاش السادات، الضمان الاجتماعي والتأمينات الاجتماعية، إلا أنها لم تحقق ما جاءت من أجله، خاصة وأنها تتماس مع حالات تنحو من الفقر إلى الأشد فقراً، مثل .. الأرامل والمطلقات، زوجات المساجين، المهجورات، والمعوقات واليتيمات، وأية امرأة تتولى رعاية شؤونها وشؤون أسرتها مادياً وبمفردها، دون استنادها إلى وجود الرجل، فكل هذه المسميات من برامج التمويل المحدودة والوهمية في أغلبها ــ من حيث وصوله بالفعل إلى مَن تستحق ــ زاد من تفاقم الأزمة، ووقوع الكثيرات في شرك النساء الأكثر فقراً، بينما زادت الفجوة عموماً ما بين مجتمع رجال الأعمال والمستثمرين نتيجة هذه السياسات، وبين أغلب فئات المجتمع المصري رجالاً ونساءً، والأخيرات أكثر معاناة بالطبع.
وإن كانت هذه الدراسة تنصب بالأساس على الفترة السابقة، إلا أن الوضع الاتصادي والاجتماعي الآن في أكثر صوره بؤساً، وما تصريحات الصحف الموالية للنظام الحاكم إلا أوهاماً يتم تصدرها للناس، التي تعاني على أرض الواقع من السياسات الاقتصادية الحالية، فالرجال أصبح أكثرهم يهجر بيته ويرحل هرباً من وطأة الفقر، والبعض الآخر لا يجد سوى الانتحار سبيلا، لكن الصحف لم تزل تؤكد أن الجميع بخير فاطمئنوا.

.............
الكتاب: المرأة في مصر .. العقل النسوي في مواجهة المجتمع الذكوري
المؤلف: ماهر عبد العال الضبع
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة دراسات إنسانية، القاهرة 2017. 222  صفحة.


نشر بالقدس العربي في 7 سبتمبر 2017.


الفيلم الوثائقي .. إشكالات التعريف وأزمة النوع الفيلمي


التجربة الفنية دوماً ستظل أسبق من التنظير أو النقد، حتى وإن كان البعض منها يسترشد ويتوسل ببيان تنظيري يحمل فكراً معيناً. إلا أن هذه التجارب سرعان ما تثور على القالب الفكري/النظري، الذي دارت في فلكه بعض الوقت. فالعمل الفني والسينمائي ــ على الأخص ــ أولاً وأخيراً، يحاول إعادة إنتاج الواقع، بإضفاء معنى جمالي، يخضع لقدرة صانع الفيلم على الخيال، أي أن الهدف النهائي هو أن يخلق من هذا الواقع فناً. وفي ما يخص "الفيلم الوثائقي" كما تم الاصطلاح على تسميته، نجد أن المسارات النقدية السينمائية انهمكت في تشعبات مُربكة، كانت انعكاساً لظروف سياسية واجتماعية، وإيديولوجية في المقام الأول، حتى أن الفنانين الذين ساروا في دروبهم، قد ساعدوا بشكل أو بآخر على تفاقم المشكلة ــ بداية من التعريف، ووصولاً للتصنيفات ــ وزادوا الأمر تعقيداً.

وثائقي أم تسجيلي؟

بغض النظر عن معضلات تعريف الفيلم الوثائقي، نتطرّق سريعاً إلى مدى جديّة التفرقة بين لفظة "الوثائقي" و"التسجيلي". فالكلمة اللاتينية لكل من وثائقي أو تسجيلي واحدة Documentary ومصدرها كلمة Document أي "الوثيقة". فلم تثر الكلمة أي لَبس أو تشوّش في مدلولها في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية، إلا أن هذا التمايُز جاء عند ترجمة المُصطلح إلى اللغة العربية، نظراً لاختلاف مفهوم المترجمين عن اللغة الأصلية، سواء الإنجليزية أو الفرنسية، كذلك كترجمة حَرفيّة، أو مُستخلصَة من سياق عام لمفهوم هذا الشكل الفيلمي. فالتفرقة جاءت نتيجة ترجمة المصطلح إلى العربية، والجهة التي اعتمدته، والمدرسة التي نقلت عنها. ففي مصر كانت كلمة "التسجيلي" هي التي استقرت، لأن أغلب الترجمات الأولى كانت عن الإنجليزية، بينما نجد الترجمات السورية واللبنانية قد استندت أكثر إلى الترجمة عن الفرنسية، فجاءت كلمة "الوثائقي". فلا يعدو الأمر سوى اختلافاً في صياغة المفردة المُترجَمة ليس أكثر.

التعريف وإشكالاته

لم يستقر تعريف الفيلم الوثائقي منذ بداية إطلاق المصطلح من قِبل "جون جريرسون (1898 –1972)  عام 1926، وحتى الآن. وإن اختلفت وجهة نظر كل تعريف تالٍ، سواء من حيث الموضوع، عناصر الفيلم الأساسية، السمات الشكلية، وحتى من قبيل كونه مُنتَج لا يسعى إلى الربح مقابل السينما التجارية. وكلها تعريفات تطورت في سياق اجتماعي واقتصادي، وتقني. إلا أنه وقبل ظهور مصطلح (Documentary Film) نجد أن جذور السينما الوثائقية "تمتد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك في شكل كان يُطلق عليه (المحاضرة المصوّرة)، والتي كانت عبارة عن عرض لسلسلة من الصور الفوتوغرافية، المصحوبة بتعليق حي، أو موسيقى". (راجع .. تشارلز موسر، الفيلم التسجيلي في عصر السينما الصامتة، ترجمة: هاشم النحاس، القاهرة، المشروع القومي للترجمة، 2010، ص 605.) مع ملاحظة أن هذه العروض اعتمدت على أسلوبها، من حيث التصوير وطريقة العرض، والذي جعلها كشكل أولي للفيلم الوثائقي.


من فيلم نانوك رجل الشمال



معالجة ما يُسمى بالواقع

بداية عرّف "جريرسون" الفيلم الوثائقي بأنه: "المعالجة الخلاقة للواقع". ووفق هذا التعريف اقتصر الفيلم الوثائقي على الأفلام التي لا تكتفي بمجرد الوصف الدقيق للواقع والطبيعة، بل تسعى لإعادة التنظيم والترتيب، ثم التكوين الفني لهذه المادة الواقعية، أما الجرائد والمجلات السينمائية، والأفلام التعليمية والعلمية فأطلق عليها الأشكال التسجيلية. فالأمر إذن لا يتوقف على المادة الواقعية، بل على الأسلوب أو الطريقة الفنية في توظيفها. إضافة إلى أنه تعريف "بالغ العمومية، ويكمن إطلاقه على الأفلام الروائية، بل وعلى أي عمل فني أو أدبي". (راجع .. د. محمد كامل القليوبي. التسجيلي وغير الروائي. دراسة منشورة بمجلة أبيض وأسود. القاهرة. الهيئة العامة لقصور الثقافة، العدد 25، يناير 2014. ص 16). بينما يُعرّفه المعجم السينمائي بأنه "نوع من الأفلام غير الروائية، لا يعتمد على القصة والخيال، بل يتخذ مادته من واقع الحياة، سواء أكان ذلك بنقل الأحداث مباشرة كما جرت في الواقع، أم عن طريق إعادة تكوين وتعديل هذا الواقع بشكل قريب من الحقيقة الواقعية". (أنظر: أحمد كامل مرسي، مجدي وهبة، معجم الفن السينمائي، القاهرة 1973، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 107). وهذا التعريف ينفي عن الفيلم الوثائقي القصة والخيال، وإن تغاضينا عن القصة بمفهومها الكلاسيكي، كحكي على أساس عِلّية الأحداث، فلا يمكن التغاضي عن الخيال الفني، وإلا كيف سيتم إعادة تكوين وتعديل هذا الواقع؟!

خيالي وغير روائي

وهو ما جعل الناقد والمترجم "هاشم النحاس" عند ترجمته لـ non – fiction  بأن يطلق عليه (الفيلم غير الروائي)، بديلاً عن الترجمة بأنه (غير خيالي)، بما أن العمل الفني لا يخلو من خيال، وهو محق في ذلك. أما استبدال غير القصصي بغير الخيالي، فهو لم يحل المشكلة بالكامل، خاصة وأن الحكي الآن اتخذ عدة طرق تختلف تماماً عن الحكي التقليدي من بداية ووسط ونهاية، فالفيلم أياً كان شكله لديه حكاية يريد روايتها، لديه صراع ما يتولد حتى في أبسط أشكاله، ولو عن طريق التناقض/المُفارقة ما بين الصورة المعروضة والتعليق الصوتي. أي خالقاً حالة درامية وفق الأسلوب الذي انتهجه صانع الفيلم. (راجع على سبيل المثال فيلم "وصايا رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" لـ "داوود عبد السيد"، وقبله فيلم "أرض بلا خبز" لـ "لوي بونويل"، وقد انتهج عبد السيد النهج نفسه). 

محاولة عقلنة الواقع

وهناك مَن يعتمد تعريف "الوثائقي" انطلاقاً من طبيعة بناء الموضوع، حيث تتقلص أهمية الأسلوب لصالح قيمة المضمون، أو ما يسمى (عفوية التوثيق)، مما يحد من تدخل صانع الفيلم، والمتمثل في الإعداد للتصوير واختيار الزوايا والتكوينات البصرية. فالواقعية أسبق وأهم من الجماليات، أو ما يكمن في الخشونة، والتي تعد أسلوباً جمالياً في ذاته، وهي نفسها فكرة (دزيجا فيرتوف Dziga Vertov) (1896 ـــ 1954) عن السينما الوثائقية، والتي لم يستطع تحقيقها عملياً بالكامل من خلال فيله "الرجل والكاميرا Man With A Movie Camera 1929". الذي يُعد تطبيقاً مباشراً لها. إلا أن الأكثر صراحة يكمن في تدخل صانع الفيلم وإظهار أسلوبه الجمالي، حتى يستطيع أن ينقل صور صمّاء للواقع من خلال عقلنة الواقع نفسه.


من فيلم المدرعة بوتمكين

المحتوى والمضمون

وهناك تعريف حديث نسبياً، جاء بكتاب "فهم الفيلم" لـ "رون جونسون وجان بون" حاول الإحاطة قدر الإمكان بالتطورات التي طرأت على الشكل الوثائقي، وهو التعريف الذي اعتمدته الأكاديمية الأمريكية لعلوم وفنون السينما، التي ذكرت أن الوثائقي هو "الفيلم الذي يتعامل مع مواضيع تاريخية أو اجتماعية أو علمية أو اقتصادية، سواء صوّر وقت وقوع الأحداث الحقيقية، أو أُعيد بناء وتجسيد أحداثه الحقيقية (أُعيد تمثيلها) وحيث يكون تركيز الفيلم الأساسي على المحتوى الحقيقي، أكثر من اهتمامه بالجوانب المتعلقة بالتسلية". (أنظر أمير العمري. "وقائع الزمن الضائع .. البحث عن محمد بيومي"/مقال. مجلة الجزيرة الوثائقية، عدد4، أكتوبر ــ ديسمبر 2009).

الأسلوب الفني

ويتعرّض "Paul Rotha" (1907 ــ 1984) لتعريف "الوثائقي"، فـيُعرّفه من خلال عناصره الأساسية، التي إن لم تتوافر، لخرج عن كونه وثائقياً. وتتلخص هذه العناصر في الفكرة بدلاً من الحبكة، الأحداث الواقعية والشخصيات الحقيقية بدلاً من المُتخيّلة، التركيز على العالم من حولنا. ونلاحظ أن مسألة الحبكة لم يعد يختص بها الفيلم الروائي فقط، فقد تطورت أساليب السرد، بحيث أصبحت الحبكة في الكثير من الأعمال لا أثر لها. وتقوم هذه الأعمال على الفكرة أو الحالة. أما الأحداث والشخصيات الواقعية، فلم تعد قاصرة على الفيلم الوثائقي، أما عبارة التركيز على العالم من حولنا، فهي عبارة لا معنى لها، تتفوق على جُملة جريرسون عند حديثه عن معالجة الواقع الخلاقة. وإن كان "Rotha" قد طوّر من مفهومه للفيلم الوثائقي، في أحد حواراته بقوله: "من الصعب علي أن أضع فارقاً بين ما يُسمى (فيلم وثائقي) وآخر (روائي)، أي فيلم/قصة. في رأيي أن الفرق يوجد في منهج الملاحظة التي نقترب فيها من الموضوع، وطريقة تصويره وأسلوب إخراجه". ثم يستشهد بعد ذلك بفيلمي "قصة لويزيانا Louisiana Story 1948" لـ "روبرت فلاهيرتي" و" أمبرتو دي Umberto D 1952" لـ "فيتور دي سيكا" ويتساءل: أيهما وثائقي وأيهما روائي؟ ومَن يُقرر ذلك؟


من فيلم أمبرتو دي


المعنى الجمالي/الخَلق الفني

من التعريفات السابقة ــ رغم تباينها ــ نجد أن الاتفاق دار حول مظهر حقيقي حدث في الواقع. أما كيفية نقل هذا المظهر في عمل فني، فهو محل خلاف. فأعمال (فلاهيرتي) تم صنعها وإعادة تمثيلها بالكامل، سواء في "نانوك الشمال، أو "موانا". فقد قام بتحريك الشخصيات الرئيسية وفق خطة مُحكمة، أي أنها قامت بدور المُمثل، كما جعل الشخصيات تقوم بأفعال أمام الكاميرا لم تكن تقوم بها في الواقع. من ناحية أخرى نجد أعمالاً يعدها البعض في الكثير من الأحيان أعمالاً وثائقية، رغم أنها بالكامل مصنوعة ومُمَثلة، إلا أن ما يوحي بذلك هو استنادها إلى أحداث واقعية حدثت بالفعل. والمثال الأكبر لذلك فيلمي (سيرجي أيزنشتين Eisenstein) (1898 ــ 1948). "المدرعة بوتمكن 1925" و"أكتوبر 1928". فالأمر في الأخير يتوقف إذاً على "إضفاء المعنى الجمالي" على ما يُسمى بالواقع. أي .. تحويله إلى فن. 

*نشر بالقدس العربي في 10 سبتمبر 2017

الثلاثاء، نوفمبر 07، 2017

الواقع الفيلمي وجمالياته ... بين أعمال "فيرتوف" وتنظير "بازان"


لكل من المخرج الروسي "دزيغا فيرتوف Dziga Vertov" والناقد والمُنظّر الفرنسي "أندريه بازان André Bazin" أفكارهما التنظيرية عن السينما والتفكير الجمالي للفن ووظيفته من خلالها، وإذا كان بازان وجدت بعض أفكاره حيز تنفيذها من خلال أفلام الموجه الجديدة، التي كانت انعكاساً مباشراً لكتاباته في كراسات السينما، نجد أن فيرتوف قام بتطبيق نظرياته الجمالية بنفسه، في عدة أعمال أشهرها فيلم "الرجل والكاميرا". وكل منهما نادى بواقعية السينما ودورها، وانتقد تزييف الواقع في الأعمال السينمائية الأخرى، على مستوى الفكر والتقنية، وبالأخص الوسائل التقنية التي تجعل من الفيلم جديراً بأن يعبّر عن الواقع، في شكل حاد يصل إلى حد التطرف.

تنظيم فوضى الواقع

بداية يرى فيرتوف أن الوثائقي هو الوسيلة الإعلامية للثورة، وأن التوثيق لابد وأن يحل محل التمثيل، ولذلك على الفيلم الروائي أن يندثر، فالوثائقي يسجل الحياة كما هي عن طريق الكاميرا، أو الآلة التي تظهر العالم كما هو. ذلك انطلاقاً من قدرة الوثائقي ــ حسب رأيه ــ أن يكون عيناً على المجتمع بطريقة تتجاوز قدرة الإنسان على الملاحظة، وهنا تغيب تقاليد الفيلم الوثائقي التقليدي فلا راو يخبر بحدث، ولا خبراء يمثلون المرجعية الموثوق بها، وموسيقى الفيلم لا تستخدم للإيعاز بمشاعر مرتبطة بالقصة أو الحكاية. وعلى الرغم من أن "فيرتوف" أكد تأكيداً قاطعاً على الإعجاز العلمي لعين الكاميرا وقدرتها على إخبار الحقيقة على نحو يتجاوز الأبعاد البشرية، إلا أنه حذا حذو "فلاهيرتي" و"جريسون"، حين ذهب إلى أن الراوي البشري كان له أهمية بالغة. ومثل العين البريئة للفنان التي نادى بها "فلاهيرتي"، وادعاء "جريرسون" بأن الفيلم الوثائقي معالجة خلاقة للواقع، كان قول "فيرتوف" بحق المونتير في تنظيم فوضى الحياة الواقعية، وكان هذا تصريح لصانع الفيلم بأن يفعل كل ما يحلو له. 


فيرتوف
التحايل على ما يُسمى بالواقع

لقد اطلقوا جميعا ادعاءات مُتطرّفة لقيمة الحقيقة في أعمالهم، وفي نفس الوقت صوّروا صانع هذا العرض الصادق فناناً يحتاج إلى الحرية كي يبدع. فيرتوف الذي انطلق من قناعات تدافع عن الثورة الروسية، وصولاً إلى التحايل على الواقع من أجل قناعات معينة، هذا ما توضحه أكثر الفقرة التالية "لم يكن يطمح إلى (عرض المعلومات بدون تحيز)، بل على العكس من هذا تماماً، كان يعمل على (التأثير على العقل ودفعه إلى إتجاه معين)، ولم تكن هذه البدعة من بنات أفكار Vertov، بل كانت شيئاً مُعتاداً من قِبل الصحافة السوفيتية، استمد منها الأسلوب والتوجه في عرض المعلومات، ودعم وجهة النظر الخاصة به، والتواصل مع الجمهور، فخلال تلك الفترة ــ العشرينيات ــ كانت أفلام Vertov امتداداً لنموذج الصحف الشيوعية.  (راجع ..  Hicks, Jeremy. Dziga Vertov.Defining (Documentary.I.B.Tauris&Coltd.UK, P.8. هذه أحد الآراء في أعمال فيرتوف، لكن لا يمكن الأخذ بها على إطلاقها، لأن الرجل كان ينطلق من منطلقات ثورية بالأساس وليست دعائية، فقد كان يصدّق ما يفعله، ويُحرّض على فعله، مثله في ذلك مثل "ماياكوفسكي Mayakovsky"* الذي ارتبط به وبفكره فيرتوف إلى حدٍ كبير.
ويوضح "فيرتوف" الأمر أكثر من خلال مقالاته التنظيرية ويومياته العملية في صناعة الأفلام، خاصة وهو يتحدث عن المونتاج، إذ يقول "نفهم المونتاج على نحو مختلف، فهو تنظيم العالم المرئي". فالمونتاج وفق فيرتوف ما هو إلا كتابة من خلال الكادرات السينمائية، وهو كما يُطلق عليه فيرتوف نفسه "نوع أعلى من تنظيم المادة السينمائية الوثائقية". (راجع ..  دزيجا فيرتوف. الحقيقة السينمائية والعين السينمائية، ترجمة: عدنان مدانات. بيروت 1975، منشورات مجلة الهدف. ص 355). هذه الوسيلة التقنية هي أسلوب تفكير بالأساس في اللقطة ومفرداتها ومكوناتها ووظيفتها قبل كل شيء، لم يكن هناك مجالاً لشيء من التسلية أو المجانية، فالأمر أشبه ــ كما نستشف من كتابات فيرتوف ــ بعمل صارم، له قوانينه وآلياته التي لم يحد عنها في أعماله قدر المُستطاع، لذا انصب اهتمامه على "ترتيب اللقطات وتنظيمها نظرياً، مما أوصله لأن يجعل الأشياء تقول كل ما كان يفكر في النطق به". (راجع .. جان ميتري. علم نفس وعلم جمال السينما. ترجمة: عبد الله عويشق، دمشق 2000، منشوات وزارة الثقافة السورية، سلسلة الفن السابع، عدد (32). ص 708).

الصورة السينمائية وأصولها الفوتوغرافية

أما "بازان" الذي ينطلق من الطبيعة الفوتوغرافية للصورة السينمائية، فيرى الواقعية تتمثل في اللقطة الطويلة وعمق المجال، لتحقيق درجة أعلى من الواقعية، وهو أمر أشبه بالمَسرَحة (الميزانسين)، بخلاف مونتاج إيزنشتين، الذي من وجهة نظر بازان يتلاعب بالمشاهدين ويقضي على حريتهم في الاختيار بجعلهم لا يشاهدون سوى ما يريده المخرج. من ناحية أخرى يؤكد بازان على الأساس الفوتوغرافي للفيلم السينمائي، فالمعنى يكمن في اللقطة المنفردة، وليس المونتاج رغم أهميته هو أداة التعبير الأولى، فالأسلوب السينمائي الهادف هو الذي يوظف اللقطة الطويلة وعمق المجال، فالحدث الكامل الذي توفره اللقطة الطويلة، يضاهي الواقع، من حيث المكان وزمنية وقوع الحدث، ويستشهد بازان بـ "المواطن كين Citizen Kane 1941" لـ Orson Welles . ويُلاحظ .. اتفاق كل من دزيجا فيرتوف وأندريه بازان على رفض أسلوب إيزنشتين، الذي يفصل تماماً بين الصورة السينمائية والواقع، فاللقطة المفردة ليست بذات معنى، إلا إذا وضعت في سياق بنائي مُحكم لإنتاج دلالة جمالية وفنية. وهو بذلك يميز تمييزاً حاداً بين الفيلم والصورة الفوتوغرافية.

بازان

المونتاج وتأثيره على وعي المُشاهد

أما أسلوب المونتاج فيحد من قدرات المشاهد على الخيال، ويفرض عليه رؤية صانع الفيلم، وبالتالي تنتفي الموضوعية والواقعية بحسب رأي بازان. إلا أن مفهوم الواقعي الذي استشهد به بازان، والكامن في اللقطة الطويلة التي استخدمها فلاهيرتي كتكنيك إخراجي، لم يكن في الحقيقة يعبر عن الواقع بأية حال. إضافة إلى أن ما يظهر على الشاشة ليس عالم الواقع، بل رؤية للعالم، وهي الرؤية الذاتية للمخرج، وحريتنا تظل باقية في مواجهة هذا الواقع الثاني، فأحكامنا لم تعد واقعية بل تقيمية لتجربة جمالية.

جماليات الفن السينمائي

والمفارقة الجمالية التي يتحدث عنها بازان تكمن في الأسلوب الواقعي في الفن، لذلك يرى بازان أن الفيلم الفني ينبغي أن يكون مقارباً للواقع، دون أن يطابقه، وإلا انتفت عنه صفة الفن. ولكن الفيلم في أكثر حالاته اقتراباً من الواقع فهو لا يصوره، وإنما يقترب منه على أكثر تقدير. إن اعتبار الشخصيات والأحداث والمواقف في فيلم ما واقعية أو غير واقعية لا يعتمد على توقعاتنا المُطلقة حول العالم خارج الفيلم، أي خبراتنا بالعالم، وإنما على التوقعات التي يفرضها الفيلم ذاته. كما أن قابلية تصديق الشخصية يُحكم عليها من خلال علاقاتها داخل الفيلم، "ولهذا لا تحتاج تصرفاتها إلى اعتبارها غير واقعية في ضوء حكم الواقع، بل اعتبارها واقعية فقط في ضوء المعتقدات والتوقعات المتولدة من داخل العمل الفني (الفيلم). وحتى تكون الشخصية أو الشيء أو الفعل أو الحدث غير واقعية داخل عالم الفيلم، يجب أن تكون مجافية لطبيعتها التي تأسست من قبل خلال الفيلم". (راجع .. آلان كاسبيار. التذوق السينمائي. ترجمة: وداد عبد الله، القاهرة 1989، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الألف كتاب الثاني، عدد (74)، ص 101 ــ ص 122). فمهما بلغت اللقطات من الطول والعمق فهي ستظل محدودة وحكمها في ذلك حكم اللقطات القصيرة قليلة العمق.

الأسلوب الفيلمي وتهافت التنظير

كما أن هذه الأحداث نفسها سواء كانت معاشة أم خيالية، تتألف دائماً من علاقات بين وقائع، وأقل ما يطرأ عليها بفعل فاعل، من شأنه أن يزيف أصليتها وحقيقتها. وحتى الصورة الفوتوغرافية لم تسلم من هذا التزييف "لم يعد الفوتوغرافي في النهاية أكثر مناعة من فن الرسم ضد الشكوك الحديثة حول أي علاقة واضحة المعالم مع الواقع، فالواقع يحتاج إلى عين كاميرا انتقائية وأكثر دقة، لأنه ببساطة ما ظهر من الواقع هو أكثر من ذي قبل". (راجع .. سوزان سونتاج. حول الفوتوغراف. ترجمة: عباس المفرجي. بيروت 2013، دار المدى. ص 141). إن ما يقدمه بازان كاتجاهين منفصلين ومتعارضين جذرياً في بناء الفيلم ليسا في الحقيقة سوى دافعين متضادين ومتعارضين لآلية واحدة، لا يعملان إلا عبر صراعهما، ويحتاج أحدهما للآخر، وتاريخ السينما هو طوراً نحو البناء وآخر نحو تصوير الواقع. فالسينما المعاصرة ليست امتداداً آلياً لأحد الاتجاهين، بل نتاج تركيبهما المعقد. فالأسلوب المزدوج والتقابل ما بين المونتاج واستخدام اللقطة الطويلة هو انقسام خاطئ، فرغم عدم وجود قطع بالمعنى الحرفي، فهناك الكثير من حركة الكاميرا التي تحقق التأثيرات المماثلة للقطع، فالحركة هنا انتقائية إلى حد كبير، وتوجه انتباه المتفرج إلى تفاصيل خاصة بالميزانسين أو اللقطات القريبة لوجوه الشخصيات، بطريقة تحقق التأثير الناتج عن المونتاج.

*نشر بالقدس العربي اللندنية في 29 يناير 2017

"حجر الصبر" ... حكايات امرأة تُصعدها معراج النبوّة





"حجر الصبر" رواية للأفغاني "عتيق رحيمي" تحولت إلى فيلم سينمائي بالاسم نفسه، قام بإخراجه عتيق رحيمي، وشاركه في كتابة السيناريو الفرنسي "جان كلود كاريير". صدرت الرواية بالفرنسية عام 2008، ونالت جائزة "الجونكور" أرفع الجوائز الأدبية الفرنسية في العام نفسه. وقد تم تصوير الفيلم في المغرب، عدا بعض اللقطات التي تم تصويرها في كابول.

أسطورة أفغانية

يأتي عنوان الفيلم من أسطورة أفغانية تحكي عن حجر الصبر، وهو الحجر الذي يلجأ إليه الإنسان ليبثه شكواه وأسراره، التي حتى يخشى البوح بها بينه وبين نفسه، وعندما ينتهي يتفتت الحجر تحت وطأة الحكايات/الأسرار، ليتحرر بعدها الإنسان مما كان يقيده، ويشعر أخيراً بآدميته. من هذه الأسطورة نسج رحيمي أحداث روايته/فيلمه، وجعل من امرأة شابة لم يطلق عليه اسم، لتصبح رمزاً للكثيرات في مثل هذه البقعة الملعونة من الأرض (أفغانستان)، أو التي تنتمي إلى الشرق عموماً. هذه المرأة التي تبدأ في سرد حياتها بكل تفاصيلها المؤلمة ... ما كانت تعيشه وما تحلم به، وردود أفعالها التي لم تخرج قط عن حكايات حبيسة مثل روحها.

مجتمع البائسات

في بيت شِبه مُهدّم من جرّاء القصف والمجاهدين تحت راية الله وشعاراته، تعيش امرأة شابه بين طفلتيها الصغيرتين، وزوجها المُسجى أمامها شِبه الميت، نتيجة رصاصة استقرت في رقبته، لم يزل يتنفس، ولا حياة له سوى في أنبوب الجلوكوز، الذي تستبدله المرأة بين الحين والآخر. فرّت أسرة الرجل/أمه وأخوته، وتركوه للزوجة الشابه، وهم يعلمون أن البيت أصبح في مرمى القصف، وعاجلاً سوف يتحول إلى مقبرة للجميع. لتعترف لزوجها بأنه لو كان ميت بالفعل، لكانوا أخذوها معهم، لتصبح زوجة أحد أخوته، وتتمادى لتحكي عن سلوك أخوته طوال غيابه، فكلهم اشتهوا جسدها، ولطالما تلصصوا عليها عارية. تفر المرأة بطفلتيها للبحث عن عمتها، فقد نفدت نقودها، ولا تستطيع شراء علاج أو طعام أو حتى ماء، وتجدها أخيراً في المدينة، لتقترض منها بعض النقود، وتترك الطفلتين، وتعود لتجاور جثة الزوج الحي، وتبدأ في حكاياتها التي لم تحكها أبداً، فهو البطل في نظر قبيلته وأسرته، والذي كان في خطبتها مجرد صورة في إطار موضوعة بجانبها، لأنه بعيداً في ساحات القتال في سبيل الله. هذه الصورة الموضوعه الان فوق رف وحيد بالحجرة بجوار نسخة من القرآن الكريم.
تبدأ المرأة حكاياتها منذ طفولتها في ظِل أب قاس، لا يهتم سوى بطيوره التي يربيها ويهدهدها ليستخدمها في المراهنة، وعندما يخسر كما في أغلب الأوقات، يحمّل بناته وزوجته تبعة ذلك، فيُعنفهن ويضربهن، حتى أنه يبيع ابنته الطفلة لرجل في الأبعين، ليُعوض ما خسره في رهاناته المزمنة. لتنتقم منه طفلته الأخرى/بطلة الحكاية الآن، وتقدم أحد طيوره الأثيرة طعاماً لقط شرس، وحتى تبعد الشبهة عن نفسها، تجعل القط يقوم بخربشتها، تاركاً علامة في وجهها لن تمحى، وهنا يتوقف سرد الحكاية لتلتفت إلى زوجها المسجى أمامها ناقمة من عدم سؤاله لها عن هذا الجرح القديم. الرجل لم يتعرّفها، حتى الجسد الذي كان يستعمله وفق حقه كزوج، لم يستطع التعرّف إليه، وحفظ خارطته، لتقول عبارتها الانتقامية الأخرى بأن "الذين يُماسون القتال لا يعرفون ممارسة الحب". كل هذا تحوطه خلفية صوتية من طلقات الرصاص ودانات المدافع، وتهليل من فوق منابر المساجد بالمجيء إلى المسجد لأخذ الأسلحة للدفاع عن النفس، و(مُلّا) يدخل البيوت الخربة ليبتهل للزوج المريض، أو يقوم بطقوس دفن البعض في حديقة ما كان بيتاً.




شهرزاد

الحكايات هنا أشبه بحكايات شهرزاد الشهيرة، إلا أن الفارق الذي اكتشفه عتيق رحيمي بأن المرأة تحكي حتى تعيد الحياة إلى الجسد المُسجى أمامها، لا حتى تكتسب يوماً آخر من الحياة كما في شهرزاد ألف ليلة. فما بين التحرر من سجن الروح بالنسبة للمرأة، يساوي رد الحياة لجسد الزوج، والأمل في أن يتحرك مرّة أخرى. فالمرأة على يقين تام بأن  زوجها يستمع لحكاياتها. الأمر الآخر في هذا المجتمع الذكوري الفج يبدو في امتلاك النساء لمهمة الحكي والتفسير، خاصة وأن الذكور رغم مظهرهم الخشن، هم أكثر هشاشة وضآلة من النساء، الأكثر قوة وقدرة وفهماً للحياة. فالرجل أخيراً أصبح تحت سُلطة زوجته، وكما تقول "أستطيع الآن أن أفعل بك ما أشاء". صوت المرأة المتصدر ناصية الحكي، يُقابله صوت (عمتها) التي تفسر الأحداث، وتسقط عليها حكمتها. هذه المرأة التي فرّت من أسرة زوجها في السابق، وأوهمت الجميع أنها انتحرت، خاصة بعدما اكتشف زوجها أنها عقيم، وتزوج بأخرى، وأرسلها لخدمة والديه، فما كان من والد زوجها إلا محاولة مضاجعتها، حتى انها قتلته في النهاية وفرّت. لتعيش في شمال المدينة، بعيداً عن أصوات المدافع، وتصبح صاحبة بيت للهوى، يتحكم نساؤه بأجساد الرجال ورغباتهم وفق هواهن. العمة هي التي أوضحت للمرأة أسطورة (حجر الصبر) وأوحت لها أن تجعل من زوجها حجر صبرها، وأن تعترف وتحكي كل ما يجول بخاطرها، عقاباً له على عدم معرفتها، وانشغاله الدائم ككل الرجال ببطولاته الوهمية، دون أن يستطيع حتى التعرّف إلى جسد زوجته، وما تريده في علاقتهما الحميمة. هذا الصوت يتردد لحظات أخرى عن طريق جارتها، عندما اكتشفت مقتل الجنود في إحدى الغارات لزوجها وابنها وابنتها، ليبدو عقلها الذي اختل، لتحكي عن (الملك) الذي قابلها، وغازلها ببعض الكلمات، وكانها عادت شابه، ثم تعود إلى واقعها على مشهد جثث أسرتها، وتواصل العويل.

مجتمع الرجال المذعورين

يتقدم بعض المجاهدين من المنزل، فتخبئ الزوجة زوجها خلف إحدى الستائر، وتجلس بجواره، ويسألها كبيرهم عن وحدتها بهذا المكان وماذا تفعل، فترد بأنها "تعمل من بيع جسدها" يُعنفها، ويرجو رجمها لأنها مسلمة، ثم يتركها ويمضي، تاركاً أحد تابعيه من مراقبة المكان. تطلب الزوجة من زوجها المستور عن الأعين أن يُسامحها لقولها ذلك. فالمحاربون لا يقربون امرأة يُضاجعها الجميع، بل يفضلون النساء العاديات، لشعورهم بأنهن مغنم حرب، إضافة إلى تفضيل العذراوات، لأن مسألة فضهن ترضي غرور المقاتلين. يأتي المقاتل الشاب ويُلقي بجسده المضطرب فوق المرأة، في خوف وذعر وسرعة، ثم يُلقي لها بالنقود ويمضي. لقد أخطات في حساباتها، وها هي الآن أصبحت كما قالت فتاة هوى، لا تختلف عن فتيات الهوى في بيت عمتها. لتحكي لزوجها عن ليلتها الأولى معه، فهو لم يختلف عن هذا الشاب، خائف ومتوتر، رغم مدفعه الآلي الذي لا يُفارقه، وتاريخة المجيد في إراقة دماء أعداء الله. تتواتر علاقتها من الشاب، دائم التلعثم في الكلام، ليأتي إليها لتكشف عن تعذيب قائده له، حيث يقوم بإطفاء السجائر بجسده، وقد اختطفه من قارعة الطريق، يتيماً بلا مأوى، ليقوم بتعذيبه في تلذذ بعد ذلك. لتعقد مقارنة بين زوجها وبين هذا القائد، فهل فعل بأحد جنوده، كما هذا الشاب؟

تفتت حجر الصبر

تستمر المرأة في حكاياتها .. خوفها من أم زوجها لأن أمارات الحمل لم تظهر حتى الآن، خوفها من هجران زوجها لها، والعودة إلى بيت أبيها، كل هذا ما جعلها تأخذ بنصيحة عمتها، بأن عليها الإنجاب في أسرع وقت، حتى لا تخسر حياتها الموعودة، فتأتي لها العمة برجل معصوب العينين في حجرة مظلمة، ليهبها طفل، مرّة وأخرى، حتى أصبح لديها طفلتان، فالزوج هو الذي يُعاني من العقم. عند هذه الحكاية يفتح الزوج عينيه، ويُمسك بقوة بيد زوجته، بينما يده الأخرى تمسك برقبتها، وهي غير مُصدقة أنها أعادته للحياة، وقد أصبحت (نبيّة) وأعادت الحياة إلى جسد ميت، إلا أن حجر الصبر الذي استمع إلى كلماتها لابد وأن يتفتت لتتحرر روحها، فما كان منها إلا طعنه يسكين كانت تحمي به نفسها من الجنود ــ في الأغلب كانت ستقتل نفسها ــ ليسقط الزوج بجوارها مفتوح العين على كل حقائق حياتها، بينما هي تبتسم ابتسامة التحرر الغامضة. 




الأسلوب

اعتمد رحيمي أسلوباً في الإخراج ينتمي لأساليب الأفلام الأوروبية الكبيرة، خاصة تلك الأفلام التي تناولت ظاهرة الحرب دون مباشرة، فقط لتصبح خلفية لأحداث أكثر قسوة من مشاهد الدمار، قسوة على أواح وأجساد الأبطال. نذكر منها فيلم (هيروشيما حبيبي) لآلان رينيه، في ما يخص الحوار والمنولوج الطويل لبطلة الفيلم، وكأنه تعليقاً على الأحداث من وجهة نظرها، وانعكاس ذلك على اللحظة التي تحياها. و(روما مدينة مفتوحة) لروبيرتو روسيلليني، في ما يخص آثار الدمار في الطرق والشواع وأسوار البيوت المُهدّمة. أما البلاغة الحوارية، وتصاعد الحوار الدرامي في الموقف الواحد، والانتقال من حالة إلى أخرى هي المقصودة من البداية، فكان التأثير المباشر من (صرخات وهمسات) لبرجمان، خاصة في ضبط أداء الممثلين ــ بطلة رحيمي هنا ــ وتبدل حالتها في لحظة من حال لآخر. إلا أن رحيمي استطاع بفضل كاتب السيناريو جان كلود كاريير أن يصوغ روايته في مُعادل بصري دال ــ رغم محدودية الأماكن ــ والإيقاع التأملي، الموحي بالغموض، الذي اختاره أسلوباً لتجسيد حكايته على الشاشة، جعلا الأمر عملاً سينمائياً راقياً إلى حد كبير.


الاثنين، نوفمبر 06، 2017

"داعش" وحركة البعث الديني ... تنظيم من مخلفات حزب البعث يتوسل بتراث الجهاد التكفيري!




قد تبدو المفارقة واضحة بين تنظيم يسير على صراط مستقيم من تراث حركات الجهاد التكفيرية، التي يحفل بها التاريخ الإسلامي، وبين طبيعته من خلال تأسيسه عبر بقايا قادة حزب البعث العراقي. الذين وجدوا ضالتهم في خطاب إسلامي قادر على استقطاب العديد من أعضاء وجنود هذا التنظيم. سنستعرض في البداية الجذور الفكرية التي يوهم بالاستناد إليها، والتي وجد ضالته في منهاجها المتواتر، ثم نتطرق إلى كتاب صدر حديثاً يحاول توضيح الصورة أكثر، كاشفاً كيفية نشأته وطبيعته وأهدافه. الكتاب للصحافي الألماني "كريستوف رويتر" وجاء تحت عنوان "السُلطة السوداء ... الدولة الإسلامية واستراتيجية الإرهاب". والذي يتوصل من خلاله إلى أن التنظيم يعود في نشأته إلى ضباط بعثيين من أتباع صدام حسين، خاصة العقل المدبر "حجي بكر"، الذي كان ضابطاً رفيعاً في مخابرات سلاح الجو العراقي. واعتمد الكاتب ــ الذي عمل في الشرق الأوسط لأكثر من ربع قرن ــ على العديد من الوثائق التي حصل عليها من مقاتلي المعارضة السورية بعد قتلهم حجي بكر في منطقة "تل رفعت" شمال حلب في يناير العام 2014. إضافة إلى شهادات أعضاء سابقين في التنظيم نفسه.

سقوط الأيدولوجيا
يعتبر تنظيم داعش من أعنف التنظيمات الجهادية والتكفيرية في تاريخ الحركات الدينية، ورغم أن التاريخ الإسلامي يشهد العديد من التنظيمات التي حاولت فرض توجهاتها وفكرها بالقوة، إلا أن الأمر في تنظيم داعش يختلف، ذلك لأنه من البداية يعتمد على الاستقطاب الطائفي قبل الأيديولوجي، إضافة إلى لغة الإرهاب التي لا يعرف سواها، في سبيل تحقيق حلم واهن هو عودة الخلافة وإقامتها على الأراضي العربية. إلا أن اللافت هو وجود جذور فكرية وحوادث سابقة استند إليها التنظيم، فلديه ميراث طويل من الفكر التكفيري والجهادي في تاريخ الإسلام كان من السهل العثور عليه دون مشقة، سعياً وراء هدف سياسي وبسط نفوذ سلطة سياسية لا شك فيها.

الإيهام بنهج تراث التكفير

كعادة الحركات والتنظيمات المتطرفة والمتشددة، هناك سوابق وأفكار يتبنونها، تعضد من الهدف السياسي الذي يسعون إلى تحقيقه. والبعض يرجع ذلك إلى الفرقة الرافضة للتحكيم بين علي ومعاوية، والخروج عليهما، خاصة بعد انتهاء حُكم الخلافة، وتأسيس النظام الملكي الوراثي في الإسلام. وبالتالي فهم ينتمون إلى ما يسمون أنفسهم بالخوارج. هذا الفكر من ناحية أخرى سيجد أساسه الفقهي أو التأسيس له من خلال المذهب الحنبلي، نسبة لأحمد بن حنبل أحد أئمة المذاهب الأربعة، هذا المذهب الذي تمسك بظاهر وحرفية النص، وابتعد تماماً عن التأويل.

من ابن حنبل إلى ابن عبد الوهاب

وسيأتي بعد ذلك ابن تيمية، الذي سيتخذ من فتاوى ابن حنبل مرجعاً لتبرير التشدد والتطرف، لكنه يتفوق عليه بأن تظل أفكاره حتى الآن بين مريديه حيّة، ومثار جدل كبير بين الفقهاء. وابن تيمية الموصوف بـ "شيخ الإسلام" هو صاحب التأثير الكبير على ما يُسمى بالـ "الصحوة الإسلامية" بمختلف تياراتها، خاصة السلفية الجهادية. وبعد ستة قرون ستأتي الحركة الوهابية بقيادة محمد بن عبد الوهاب، التي ستتخذ من ابن تيمية الأب الروحي لها، وما الوهابية إلا إحياء لدعوة ابن تيمية، والعودة بالناس إلى صحيح الدين، وتبني الجهاد كأسلوب لإقامة وتأسيس دولة الخلافة. ومن ناحية أخرى يتشابه تاريخ نشأة الوهابية مع ما تفعله داعش، من هدم للأضرحة وتنفيذ الإعدامات الجماعية، وإقامة ما يُعرف بالحدود دون قيد أو شروط. هذه هي الرؤية التي تحايل التنظيم ونشأ في ظلها، واهماً أتباعه بتبنيها والعمل من خلالها، وشاغلاً المُنظرين بالدوران في فلك المرجعيات والحوادث التاريخية، لكن الأمر في حقيقته حسب مؤلف كتاب "السُلطة السوداء ... الدولة الإسلامية واستراتيجية الإرهاب" يفضح تهافت هذه الأفكار، وكشف الكثير من المفارقات حول طبيعة التنظيم ودوره في إعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة.

البحث عن دولة

يسرد المؤلف في البداية أن تنظيم داعش ما هو إلا جهازاً استخباراتياً يسعى لإقامة دولة، ثم يورد قصة "حجي بكر" أو سمير عبد محمد الخليفاوي، الذي كان يعمل عميداً في مخابرات الدفاع الجوي العراقية قبل حلها، فهو المُخطِط الاستراتيجي للتنظيم، مُستعرضا العديد من الوثائق لمخططات وجدت في منزله في تل رفعت بعد مقتله على يد الثوار السوريين في يناير 2014. موضحاً أن جميع الأحداث التي تلت مقتله تؤكد تمسك التنظيم بتعليماته وخططه بشكل كامل. فالتنظيم إذاً وريثاً لأجهزة مخابرات نظام صدام حسين المنقضي، وأغلب ضباطه من البعثيين. وبما أن موجة البعث لم تعد كافية لجذب الأنصار والمتعاطفين، فكان تصدير التنظيم من خلال الخطاب الإسلامي، وذلك لإضفاء شرعية تاريخية ودينية على أعمال التنظيم، ومن ناحية أخرى الضمان له بالإمدادات المالية والبشرية اللازمة، وهذا يمنحهم شرعية لم يكن يتمتع بها حزب البعث قط، ذلك لأنهم سيستندون هكذا إلى تاريخ عمره ألف وأربعمائة عام وليس ستين عاماً فقط. فتنظيم الدولة الإسلامية لا يعود إلى فقهاء وعلماء مسلمين، بل إلى جنرالات وضباط استخبارات علمانيين في حزب البعث العراقي. ويوضح الرجل أكثر .. بأنه عندما قامت القوات الأمريكية بغزو العراق وأقدم رئيس الإدارة الأمريكية السابق في العراق بول بريمر على حل الجيش العراقي، حينها تمت تصفية العديد من ضباط الجيش العراقي، وتسريحهم، فانتقلوا إلى مقاومة قوات الولايات المتحدة، وذلك من خلال تأسيسهم ما يعرف باسم "كتائب البعث"، وهي التي مهدت الطريق إلى تنظم "الدولة الإسلامية". وما الشخصيات التي تتصدر المشهد، كالـ "البغدادي" وغيره، سوى دُمى يتم تصديرها إعلامياً، لتعتبر واجهة مناسبة تضفي على التنظيم الشكل المطلوب، والابتعاد تماماً عن شخصيات وأفكار مؤسسيه الحقيقيين.

النظام السوري

ويذكر المؤلف من خلال العديد من الأحداث والوثائق مدى تورط المخابرات السورية في دعم تنظيم داعش والتعاون معه، منذ احتلال العراق في العام 2003. موضحاً كيف أن سلاح الجو السوري لنظام الأسد كان يعمل دائما في خدمة تنظيم داعش، بإنقاذه في معاركه مع الثوار، في حين أنه لم يتعرض إلا نادراً لقوات داعش التي كانت بدورها تعمل على إنقاذ قوات النظام من خلال قتال قوات الثوار. وهناك العديد من الحوادث الدالة كقصف القوات الجوية السورية التابعة للنظام العديد من فرق المتمردين عليه فقط، أما تنظيم الدولة الإسلامية فلم يتم قصفه، وذلك لأنه ــ بصفته رمزاً للإرهاب ــ يعتبر بمثابة هدية من الله بالنسبة لنظام الأسد، الذي لولاه لكان الجهاديون قد فرضوا سيطرتهم منذ فترة طويلة على دمشق.

الخطط

"سنعين أذكى العملاء شيوخاً للشريعة ... وسيتم اختيار عدداً من الأخوة وتزويجهم ببنات أكثر العائلات نفوذا لضمان التغلغل في هذه العائلات دون إدراكها لذلك". هكذا كتب "حجي بكر" في مذكراته، وهو ما يقوم به التنظيم بدقة، فالخطة دائماً تبدأ بالتفاصيل نفسها .. تجتذب المجموعة تابعيها عبر افتتاح مكتب دعوي. ثم يتم اختيار شخص أو شخصين ممن يحضرون الدروس والندوات الدينية ويوكلون بمهمة التجسس على قراهم للحصول على معلومات عديدة، ثم يتم تحديد الأشخاص المؤثرين والقادة العسكريين ورسم خريطة لتوجهاتهم وميولهم. كما يتم الحرص على الاحتفاظ بتفاصيل مخزية لهم، كالسوابق الإجرامية أو الميول الجنسية الشاذة أو الارتباط بعلاقات غرامية، وذلك لاستخدام هذه المعلومات بهدف الابتزاز في ما بعد. وفي وقت لاحق بات يتم كسب بعض الأعداء من خلال المال والمناصب، وفي نهاية المطاف وفشل هذه المحاولات يتم اختطافهم واغتيالهم. وإلى جانب ذلك كانوا يوزعون في الاحتفالات والفعاليات الدعائية المصاحف المجانية وينظمون في شهر رمضان وجبات الإفطار الجماعية وموائد الرحمن.

مصادر التمويل

ويصف كريستوف رويتر في تفصيل دقيق كيفية حصول التنظيم على الأموال، بداية من السيطرة على حقول النفط، وبالتالي بيعه، خاصة للنظام السوري، وذلك بسبب وجود المصافي لدى نظام الأسد. والمصدر الأهم بعد ذلك لا يتوقف على النفط أو تجارة الآثار، وإنما يتمثل في الضرائب والمصادرات من السكان الخاضعين لمناطق نفوذه. ويُلاحَظ أن التنظيم بعد الاستيلاء والسيطرة على العديد من مستودعات السلاح، شعر بأنه أصبح في غاية القوة، حتى أنه صار يقاتل ضد الجيش السوري نفسه.

السُلطة الدينية والعسكرية

لم تزل المنطقة الموسومة بالشرق الأوسط تقع بين السلطتين الدينية والعسكرية، وإن كانت في السابق تعيش السلطة الدينية في كنف سلطة العسكر، إلا أن هوجة البعث الديني قلبت الموازين، وأصبح تصدير الخطاب الديني هو الأكثر استيعاباً لتفعيل هذه السلطة على أرض الواقع، ولو جماهيرياً وإعلامياً، فالحروب الدينية هي سمة هذا العصر، وهي المنوط بها إعادة تشكيل وترسيم حدود المنطقة من جديد، بمساعدة نظم عربية ديكتاتورية، أضحى النظام الملكي الوراثي هو أساسها، وهنا تكمن المفارقة الأخيرة بين تنظيم مدعوم من هذه النظم، ويوهم باستناده الفكري إلى فرق قاومته بالأساس!