لم يكن اسم ماريو يوسا الروائي البيروفي الشهير مُستبعدا من قائمة جائزة نوبل منذ وقت طويل، فلعدة سنوات كان اسمه يتصدر قائمة الترشيحات والتخمينات التي لا تهدأ. ورغم فشل يوسا على المستوى السياسي، وخسارته في الانتخابات الرئاسية لبلاده عام 1990، إلا أنه يعتبر من أشهر كتاب أميركا اللاتينية، ومعظم رواياته تعالج مشاكل السلطة القمعية التي يعاني منها الفرد وسط التاريخ الطويل المضطرب لأميركا اللاتينية بوجه عام، وربما انتقل إليه هذا الاضطراب منذ فترة، فقد صدم الجميع بتغيير أفكاره السياسية التي تناقضت مع مواقفه وآرائه السابقة بشكل حاد، لتنطبق عليه المقولة التي جاءت في نص منحه جائزة نوبل، التي رأت أن أعماله "برعت في الرسم المفصل للصراعات على السلطة وتصوير المقاومة والثورة والهزيمة داخل الفرد"!
اكتشاف السلطة
رغم انتماء يوسا لعائلة أرستقراطية الطابع، إلا أنه عاش طفولة قلقة، ولد في 28 مارس عام 1936 في مدينة أريكويبا في بيرو، ونشأ مع والدته وجده في مدينة كوشاباما في بوليفيا، وقتها كانت والدته تخبره بوفاة أبيه نظراً لخلافها مع هذا الأب، الذي عاد مرّة أخرى وظهر في حياة أسرته، ليكتشف يوسا أن أباه لم يزل على قيد الحياة، لكن الأب العائد أخذ يحمل أسرته سبب فشله ويمارس عليها ومن بينهم الطفل يوسا أقسى مظاهر القسوة، ثم عاد بأسرته إلى وطنه عام 1946. رفض هذا الأب أن يتفرغ الابن للأدب ودراسته، وألحقه بدراسة العسكرية، لكن يوسا تمرد على أبيه ومارس الأدب والصحافة، وانتقل إلى فرنسا عام 1959 حيث عمل مدرساً للغة وصحافياً بوكالة فرانس برس، والتلفزيون الفرنسي قبل أن يصبح معروفاً بمؤلفاته. وعن تجربته العسكرية يكتب يوسا روايته الأولى «المدينة والكلاب» 1963، وكانت نقداً قاسياً للمؤسسات العسكرية الغارقة في الفساد.
تيار الانفجار
مع بدايات يوسا النشر في الستينات انضم مع رفاقه إلى تيار «الانفجار» وهو ما كان يمثل الطفرة الأدبية في أميركا اللاتينية، والتي تمثلت في كتابات أوكتافيو باث/ كورتازار/ كارلوس فوينتيس/ وغابريل غارسيا ماركيز بالطبع، وكان اهتمام هذا التيار ينصب على الخروج من تقليدية الكتابات القديمة، وتطوير شكل جديد من الرواية الحديثة، وقد تأثر أتباعه بروايات الحداثة الأوروبية كما عند جويس وكافكا وفوكنر. ومن خلال ندوة واشنطن التي أدارها وليامز قال يوسا: «أردت أن أكون حداثياً، أردت أن أميز نفسي عن كتاب أمريكا اللاتينية السابقين، كنت وبقية الكتاب في حرب حول طبيعة السرد في رواية أميركا اللاتينية، وهو سرد كان تقليدياً يكتبه كُتاب لا يلتفتون للمشاكل المهمة..أردت أن أكون مختلفاً».
فضح السلطات القمعية
استمر يوسا في منهجه في فضح أساليب وأشكال السلطة، سواء العسكرية أو الدينية، فجاءت روايته «زمن البطل» 1966، لتفتح أمامه آفاق العالمية بعد ترجمتها إلى الإنجليزية، وكشف فيها كيفية تجنيد بعض الضباط للعمل في المؤسسات الاستعمارية السرية للقيام بانقلابات عسكرية لمصلحة القوى العظمى، وكيف أن الرؤساء هم أول من يخونون البلد كلما استشرى الفساد الإداري في المرافق الحكومية. ثم جاءت رواية «حديث في الكاتدرائية» 1975 والتي فضح فيها بعض رجال الدين عندما تكون مصالحهم فوق مصلحة من يتحدثون باسمهم. ثم جاءت «حفلة التيس» 2000 لتشرّح شخصية السلطوي وممارساته البشعة وتكوينه النفسي المريض، ومعاناة شعبه الذي سمح بوجوده. وإمعاناً في فضح السلطة بأشكالها كافة يستوحى يوسا روايته الجديدة «حلم السلتي» من سيرة المناضل والدبلوماسي الأيرلندي القومي «روجر كيسمنت» الذي اعترض على انتهاكات حقوق الإنسان في الكونغو مطلع القرن العشرين، وحكم عليه الإنجليز بالإعدام شنقاً بعدما أدين بالخيانة.
وكيسمنت الذي دافع عن حقوق هنود الأمازون، اشتهر في 1904 عندما نشر تقريراً يتحدث عن انتهاكات حقوق الإنسان في الكونغو في عهد الملك البلجيكي ليوبولد الثاني.
مسؤولية اجتماعية
مسؤولية اجتماعية
يرى يوسا أن الأدب في أميركا اللاتينية مسؤولية وثورة أولاً..وأن الروايات والمسرحيات والقصائد مرايا يرى فيها أبناء الشعب وجوههم وآلامهم. ومن هنا فإن وظيفة الكاتب في أميركا اللاتينية محددة بشكل كامل، فكون الإنسان كاتباً في أميركا اللاتينية يعني أنه يتحمل مسؤولية تكاد تكون اجتماعية حصراً، في حين أن مسؤولية الكاتب الوحيد في البلدان المتقدمة ما هي إلا مسؤولية شخصية فنية، ومسؤولية عمل أدبي يغني الثقافة والحضارة.
الليبرالية كما يراها يوسا
أثارت مواقف يوسا العديد من الآراء المتضاربة، فتحوله من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ومن مُناصر لكاسترو إلى ناقد قاس لسياساته، ليعلن في وقت لاحق قطيعته مع الأحزاب والمنظمات اليسارية «المتطرفة»، وعندما سأله ريموند وليامز عن هذا التحول في ندوة عقدت بواشنطن عام 1986 أجاب بأنه كان مغموراً بالحماس الذي أثارته الثورة الكوبية، ولم يكن يتخيل بعد عشرين عاماً أن يتحول هذا إلى عربة للإرهاب المتمثل في حركة «الطريق المضيء» الماوية، وبناء عليه «إن كنتَ ما زلت تؤمن بالعنف كحل فإنك تقبل بالإرهاب الأعمى». ومن هذا المنطلق الفكري شارك عام 1988 في تأسيس حركة قامت على تحالف أحزاب يمينية، وسميت بـ «حركة الحريات»، كما هاجم الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز وسط كراكاس، آخذاً عليه أنه وضع بلاده علي طريق «ديكتاتورية شيوعية». ومن مُعبّر عن هموم فقراء أميركا اللاتينية ومقاوم للديكتاتوريات والطغاة، إلى مُصلح يرتدي منظاراً غربياً ومناصراً للحرب الأخيرة على العراق بعد أن زارها موثقاً يومياته، ثم عاد وتراجع عن دعمه للأميركيين.
نحو اليمين الرأسمالي
إلا أن يوسا نفسه يجيب على هذا التناقض بقوله .. «إذا كنت ليبرالياً، فيعني أنني أؤمن بالحرية السياسية. الليبرالية مذهب مطواع سَلِس ويمثل بالنسبة إليّ أولاً التسامح (الاعتراف باحتمال الخطأ فيما تدافع عنه) وفكرة التواجد المشترك في الحرية، يعني المبدأ الأساس للديموقراطية. وخصوصاً الدفاع ضد العنف. كل دوغماتية هي مصدر عنف». وفي مناسبة أخرى يجيب عن سبب هذا التحول إلى اليمين الرأسمالي، بأن الرأسمالية تتيح فرصة أكبر للنمو، مؤكدا أنه يعتنق الرأسمالية بالمفهوم الغربي قبل أن تتوحش. كما يرى نفسه يقف مع السلام بدليل إدانته لما وصفهم بـ»المتطرفين» من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وأمله في الوصول إلى السلام المنشود. أما اللاتينيون فيرون أنه منذ خسارته الانتخابات الرئاسية في بيرو، أصبح ينظر إلى شعوب منطقته بشيء من الاستعلاء، إذ انتقل إلى مدريد، بعد الخيبة السياسية وعاش هناك وحصل على الجنسية الإسبانية عام 1993.
زمن التعصب والإرهاب
«حقبتنا هي حقبة المتعصبين والإرهابيين الانتحاريين، وهي فئة رجعية مقتنعة بأنها تبلغ الجنة من خلال القتل.. يجب قطع الطريق أمامهم ومواجهتهم وهزمهم» هذه الكلمات قالها يوسا أمام لجنة جائزة نوبل متوجها برسالة تصف هذه الحقبة التي يحياها العالم، محذرا من كارثة نووية قد تتسبب فيها ــ على حد قوله ــ « مجموعة من المجانين». دون أن ينسى انتقاد الأنظمة الدكتاتورية التي «يجب محاربتها بقسوة وبكل الوسائل المتوافرة، بما فيها العقوبات الاقتصادية».!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق