رغم الانفتاح الظاهري لشعوب الشرق، ومحاولة التحايل على الحداثة التي يصر
البعض على أنها انتقلت إلينا منذ زمن بعيد، إلا أن الممارسات الظاهرية لهذه
الحداثة تنفيها دوماً تقاليد بالية تمتد بجذورها في روح وفكر ومعتقد هذه
المجتمعات، منذ أن انتهجت السلطة الذكورية عنواناً لها. فلا الأديان في شكلها
النقي استطاعت حل المشكلة، خاصة وقد تحولت على يد رجال الفقه إلى سجون أخرى من
التقاليد والأعراف تؤصل لهذه السلطة الذكورية، ولم تزل تحاول جاهدة نفي الأنثى من
الوجود، ومداراتها كعورة، رغم الطقس الاحتفالي الذي يقيمه الذكر لأنثاه في الظلام
فقط!
لذا ليس بمستغرب أن يأتي أول فيلم روائي طويل للمخرج المغربي وكاتب سيناريو
الفيلم "عز العرب العلوي" بأن يُعيد في سرد سينمائي متزن أسطورة مغربية
قديمة تؤكد الوضع المأسوي للمرأة، الذي يعكس بدوره وضعاً اجتماعياً واقتصادياً أشد
قسوة ومأساوية. وجاءت المعالجة السينمائية لهذه الأسطورة تحت اسم "أندرومان
من دم وفحم" بعيداً عن العبارات الإيديولوجية، والرطانة الفارغة التي تعتمدها
الكثير من الأفلام عند مناقشتها لمثل هذه القضايا، إضافة إلى الابتعاد عن سذاجة
الجولات السياحية والخطاب المتشنج، الذي نراه في معظم الأفلام العربية التي تحاول
عمل سينما بمقاييس ترضي الغرب، الذي لم يزل لا يرى في الشرق سوى وجوه الحريم
المُحتجبة ورغباتهن الأشد غموضاً واحتجاباً.
جليلة تلمسي في لقطة من الفيلم |
إغفر لي ... إنها أنثى
"أندرومان"
هو اسم شجرة بالأمازيغية وتحمله كذلك الابنة الكبرى لأب غارق في قسوته، يعمل في
تجارة الفحم الخشبي في قرية بولمان النائية في أعالي قمم جبال الأطلس. وقد جرت
العادة في هذه القرية، أن يمتهن الأبناء مهن آبائهم بهدف الحفاظ عليها لضمان
استقرار الحياة اقتصادياً، فالإناث لا يتملكن الأراضي، وبالتالي سيضيع الإرث بين
رجال القبيلة. هذا إلى بجانب الوضع الاجتماع المزري لمن تكن ذريته من الإناث.
وتعلم "أوشن" الأب ــ قام بالدور محمد خيي ــ أصول هذه الحرفة عن أبيه
الذي ذهب ضحية سقوط شجرة أندرومان في الغابة التي يكتسب منها قوته. وقبل أن يلفظ
الأب أنفاسه الأخيرة يوصي بأن ينقل أوشن هذه الحرفة للطفل الذي على وشك المجيء،
عندما تضع زوجته حملها، ولكن الطفل يأتي "أنثى"، ويخبر أوشن والده بأنها
أنثى، ويرجو منه أن يسامحه على هذه الفعلة، لأنه قضى على حلمه الكبير في خلود وهمي
مزعوم، فيوصي الأب ابنه بأن يُطلق على المولودة اسم "أندرومان"، ثم يلفظ
أنفاسه، ليُكرر أوشن إن الطفل ذكر وسيصبح ذكراً كما أراد جثمان والده الذي يحتضنه
وسط الدموع والأمطار، وأشجار الغابة العالية. ليتحول هذا الجسد إلى شبح يظهر لأوشن
من حين لآخر، وكأنه ظل التقاليد الخائبة، التي تعيق الحياة، وتجعل منها خوفاً
ورعباً مزمنين، وجحيماً لا يُطاق.
صمت الروح والجسد
تعيش الفتاة بعد ذلك
ــ جسدت الدور جليلة تلمسي ــ حياة صامتة، وكأنها في مأتم متصل، تشيّع فيه ملامحها
وإحساسها كامرأة، وقد انعكس هذا القهر غير المحتمل في ملامح وجهها المتجمدة،
ونظراتها الميته، وملابسها الخشنة، التي تتفوق على ملابس رجال القرية، رداء من
الخيش، حائل اللون، وكأنها تسير في كَفن. ربما بعض الابتسامات التي تتبادلها مع
أختها الصغرى الطفلة "رقية". التي تعبث في ألعاب وحركات طفولية، وتفتح
صندوق ملابس الأم المتوفاة، لتطالع الفتاة ملابس النساء ذات الألوان المُبهجة،
والملمس الناعم، الذي يتناغم وأجسادهن، حتى تفاجئ بالأب، الذي يعاقبها على فعلتها،
ويُعلقها داخل بئر سحيق طوال الليل، ويخرجها في الصباح وهي على شفة الموت، ويطلب
منها أن تعترف بأنها ذكر، فتقر بذلك تحت وطأة الألم. لم يكتف الأب بذلك، بل أتم
عملية تشويه الفتاة حتى نهايتها، فقام بقص شعرها تماماً، لتتجنب رعب النظر في
المرآة، وتغطي رأسها حتى بينها وبين نفسها، كحالة تغريب كاملة عن الجسد الأنثوي
ودلالاته. لكن مصادفة اكتشاف الأنوثة تأتي بسقوط الفتاة في الماء، فيرى جارها
وصديقها ملابسها المُبتله لتفتضح تفاصيل خريطة جسدها. هذا الشاب سيصبح حبيبها فيما
بعد، وسيقتله الأب نظراً لإشاعة تسربت في القرية بأن "أندرومان" يمارس
اللواط، وللعجب يثأر الأب لهذه التهمة الشائنة، دون أن يفصح أنها أنثى! لتهرب
الفتاة بعض الوقت فوق حصان حبيبها المقتول، بعدما ترك أصابع كفه الدامي على ظهر
الحصان حتى يفر بعيداً عن هذه الأرض الملعونة.
ما بين أمل مرجو وواقع
أسطوري
رغم أسطورة الحكاية،
إلا أن المخرج أراد لهذا العمل أن يخرج عن نطاق الأساطير، فلم يحدد زمناً تدور فيه
الأحداث، اللهم بعض المظاهر التي تدل على بدايات وصول سلطة الدولة إلى هذا المكان
المجهول. كوصول ممثل الدولة وهو رجل عسكري، وموظف إداري لعمل بطاقات هوية للسكان،
ولكن الهدف الحقيقي هو أخذ شباب القرية إلى التجنيد الإجباري أو الخدمة الوطنية
كما يزعمون في مثل هذه المواقف، دفاعاً عن ماذا أو ضد ماذا، لا يهم! فما كان من
صديق "أندرومان" إلا الهرب في منتصف الطريق، والعودة ليظل بجوار حبيبته،
ليقول لها في صدق شديد إنه ليس بجبان أو خائف، وأن البقاء بجوارها وحمايتها هو في
حقيقته أعظم شيء يستطيع أن يقدمه لوطنه.
الفيلم يزخر بالعديد
من المشاهد الدالة غير المتكلفة، فأحد ساكني القرية، والذي لم يستطع إنجاب الذكور،
حينما يدخل المقهى يجعلونه يجلس بجوار الصغار على الأرض، بخلاف الآخرين الذين
يجتلسون مصطبة كبيرة مرتفعة. كما جاءت بعض المشاهد القاسية التي تكاد تتفوق على
قسوة الطبيعة وقوتها ... كمشهد تعذيب أندرومان، والمشهد الشعري القاسي لموت
"رقية" الأخت الصغرى، التي ماتت فوق أحد فروع الأشجار لتراقب الغابة
بينما أبيها يواصل عمله، ماتت الطفلة المُنهكة وسط البرد والأمطار المتساقطة،
ليكتشف الأب فعلته ويصرخ طالباً المغفرة من الله.
ويمتد إسقاط الأمل في المستقبل على واقع الأسطورة
بأن تصل الفتاة لحظة دفن أختها، فتكشف عن كنهها أمام الجميع، وتتباهى بكونها أنثى،
ليطارد والدها شبح أبيه ويظل بمفرده بين القبور، لتبدأ النسوة في تزيين الفتاة،
ولترتدي زياً يليق بها، لتشع الحياة من عينيها للمرة الأولى، وبتشجيع نساء القرية
وكأنها أصبحت أملهن الوحيد، تجري مسابقة بينها وبين أحد شباب القرية لتسليم
القيادة الحائرة منذ زمن ــ التي كان مؤهل لها حبيبها ــ لتعتلي حصانه وتتغلب على
الشخص الآخر وتخطف الراية المُعلقة، إشارة إلى بدء حياة جديدة، بلا خوف أو مواربة
أو خجل من كونها أنثى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق