إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، نوفمبر 17، 2010

أساطير بازوليني .. تكشف مفاسد السلطة الدينية



من خلال ما يسمى بـ «ثلاثية الشعوب» جاءت أفلام بازوليني.. ديكاميرون 1970، حكايات كانتيربري 1971، الليالي العربية 1974. ويتضح أن بازوليني قد تعامل مع أساطير شعبية مختلفة، من حيث العقلية والمخيلة الشعبية التي أنتجتها، قاصداً أن يمتد هذا الاختلاف إلى ما هو سياسي واجتماعي، كمدار تدور فيه هذه القصص. (فكانتيربري حكايات شعبية إنجليزية، وديكاميرون حكايات من جنوب إيطاليا، والليالي العربية حكايات من الشرق) ويُلاحظ .. أن بازوليني في رؤيته وتعامله مع هذه الحكايات قد عقلن الأساطير، فلم يعرضها على كونها أساطير خرافية ـ كالأساطير اليونانية مثلاً ـ حيث الآلهة مع البشر في مساحة متسامحة من التداخل والتفاعل، بل دقق الرؤية مُقتصراً على العلاقة الجدلية القائمة بين الخيلة الرحبة لهذه الشعوب ، وما كانت تعانيه من قهر اجتماعي وسياسي وديني ،أدى بها إلى الهروب عبْر أساطيرها الشعبية. فالأساطير إذن هي ما تنتجه المحيلة الشعبية كرد فعل لما تعانيه في حياتها  من كل أشكال السلطة/ التعسف، أو كما تسمى ( ثقافة الهامش) ضد الثقافة الرسمية، التي ترعاها وتنتجها السلطة السياسية والدينية لفرض سيطرتها. لذلك كان بحثه خلال هذه الأساطير عن قصص مُنتقاة تحمل دلالات التمرد بجميع أشكاله، من خلال وجهة نظر اجتماعية ، محاولاً الوصول إلى سر بهجة الحياة (روحها)، والتحايل على الموت العضوي ، دون الروحي. فنراه وقد عقلن الأسطورة ، وجعلها تخطو فوق أرض الواقع، كرد فعل إنساني صارخ ، للوصول إلى الحرية، موجهاً نقداً قاسياً لكل ما يُحيطه ، في سبيل هذه الحرية، التي قد دفع حياته ثمناً لها. 

ديكاميرون 1970
قصص ديكاميرون عبارة عن مجموعة من الحكايات الشعبية من جنوب إيطاليا، كتبها «بوكاشيو» في منتصف العصور الوسطى، حيث التعصب الديني،  وقبضة الكنيسة المتحكمة في كل شيء.فأتت القصص لإثارة السخرية من رجال الدين وسلطتهم الزائفة،  عن طريق كشف مفاسدهم وما يمثلونه من قيم لا يؤمنون بها ، وفضح أرواحهم المريضة، التي تدّعي المعرفة بالله! ( يُلاحظ أن اسم بوكاشيو قد يكون اسماً مستعاراً لرجل قام فقط بتجميع القصص، والتي قد تكون لمجموعة من المؤلفين الشعبيين المجهولين).

مفاسد السلطة الدينية
وتتوالى القصص .. الأبله والراهبات/ اللص القديس. حكاية الحب،...، .... وعن طريقها يكشف بازوليني عن المفاسد المتأصلة في السلطة الدينية، والاجتماعية المتولدة عنها، وحيث يقوم الجميع بتجاهل عمدي مقصود لعامل حيوي يخشونه جميعاً ، هو الوحيد الذي يزلزل هذه السلطة ويفنيها .. الجنس. (استغلال الشاب المُتظاهر بالبلاهة من قِبل الراهبات، وعندما تكلم وضعنه تحت ظِل المعجزات الدينية، فهو تجلي ارادة الرّب!) العلاقة الوحيدة الحقيقية هي علاقة الحب بين الفتى والفتاة، والتي نظراً للسلطة الاجتماعية القاسية، تنتهي بقتل الشاب العاشق من قِبل أخوة الفتاة. وللتعبير عن هذه القسوة استخدم بازوليني ما يسمى بـ «الشاعرية السوداء» (ذلك في مشاهد رومانسية قاسية .. فالفتاة تذهب إلى الغابة حيث جثة حبيبها، وتقطع رأسه، وتحتفظ بهذه الرأس في حجرتها ، بجوار سريرها). القصص كلها عبارة عن مواقف إنسانية ، وما الأسطورة الشعبية إلاّ إطار لها. وذلك من خلال .. الملابس، الإكسسوارات، الموسيقى، الديكورات، الأغنيات الشعبية الإيطالية. وبذلك يتجلى الفارق ما بين الشعبي والخرافي، وفقاً لعقل بازوليني الناقد، الذي أصبح الشكل والبناء الفني عبارة عن خطوط متداخلة عدة، أهمها الجنس كمحرك وباعث وكاشف للأحداث، ثم فلكولور تلك الفترة ، والتغريب المقصود، خاصة في حكاية الحب، التي انتهت بمقتل العاشق الشاب.
الأسلوب السردي
اختلف البناء السردي للقصص عن البناء الدرامي للفيلم ، بأن جعل المخرج شخصية الفنان ( قام بها بازوليني نفسه) هي الرابط السردي لهذه القصص المتباينة ، هذه الشخصية التي تطورت مع الأحداث ، وأصبحت تأخذ مساحة ذات ثقل في النهاية، بحيث تبرر وتؤول العمل ككل. (فالرسام الذي يقوم بالإعداد لرسم لوحة جدارية في الكنيسة، يدخل إلى هذا العالم الآسن، المتمثل الوقار والرصانة، ليُخلخل هذا العالم، من خلال روح الفنان، دائمة القلق مشهد تناوله الطعام بين القساوسة).

الخيال بالحرية
ومن خلال رحلته عبْر الشوارع والأسواق والأزقة، يحاول جمع المَشاهد، وتصيّد الوجوه الحية للبشر ، لتليق ولوحة يوم الحساب التي ينوي رسمها، بخلاف الوجوه الباردة المقيتة. وفي مشهد دال.. يتخيل الرسام وهو بين اليقظة والمنام اللوحة التي يريد رسمها (يوم الحساب)، حيث رأى العذراء وتخيلها امرأة جميلة تحمل روحاً نابضة وملامح متفجرة بالحسية ، تختلف تماماً عن اللوحات التقليدية ، والتي للأسف تم تنفيذ لوحته المزعومة على غرارها في النهاية. وبهذه النهاية يتساءل بازوليني .. لماذا يتحقق الجمال في الحلم فقط؟! وهو بهذا السؤال يُمجد الخيال ، ويجعله باب الحرية الوحيد،القادر على تجسيد الروح والإمساك بها ، فالحسي تحول عنده إلى صوفية  تكاد تقترب من صوفية الشرق.

الليالي العربية 1974
رغم الفكرة الأساسية لثلاثية الشعوب ، والبحث عن أشكال القمع، ومواجهتها بعقلانية شديدة ، والكشف عن الروح القلقة في التراث الشعبي ، هذه الروح التي تريد تأسيس إيمانها عبْر الجسد والتجربة، رغم ذلك..  فقد تباينت الطريقة التي تمت بها معالجة حكايات ألف ليلة ، بازوليني كان يعرف تماماً الجو النفسي والعقلي لحكايات ديكاميرون ، أما في الليالي العربية فالأمر مختلف ، رغم النجاح النسبي للفيلم . فالنفسية الشرقية، وطريقة حياة شخصيات ألف ليلة لم يستطع بازوليني الوصول إلى كنهها، بل تغلبت الفكرة العامة للفيلم، كدراما، على حياة ألف ليلة، فجاءت الأخطاء العديدة بالفيلم ..

الدلالة واحدة
السلطة الدينية الإسلامية تختلف عن سلطة الكنيسة، والسلطة السياسية في الشرق ـ عصر ألف ليلة ـ تختلف عن السلطة الدينية في العصور الوسطى، من حيث بنيتها لا دلالاتها، فهي واحدة ،من حيث القمع واستغلال الدين وما شابه، هكذا، جاء الجو العام للفيلم لا يمت لجو حكايات ألف ليلة دليلة، رغم الشكل الخارجي للشرق... الملابس، الديكورات، الموسيقى، الذي جاء بعيداً عن معالجة الحكايات وعدم فهم الروح التي أبدعتها ، فقد حوّل بازوليني الحكايات لتتماشى مع مفاهيمه هو ، دون أن يستطيع التخلص من النظرة الغربية للشرق ، رغم الجرأة الشديدة  التي عالج بها الحكايات ، فالسحر المشوّش لهذا العالم قد أثر على رؤيته، وغيّب من بعض الموضوعية ، التي تعامل بها مع ديكاميرون مثلاً ، رغم الاحتفاء بالشخصيات والمجهود البحثي عن أماكن هذه الحكايات .. اليمن، تونس، المغرب، إيران. ففي البداية هناك الاحتفاء الشديد بالجنس في الشر ، لما لهذه الحضارة من تصورات لدى المخيلة الغربية،  لذا .. وجد بازوليني في حسية الشرق والحياة الشرقية ، وألعاب الخفاء، والتستر وراء النوافذ والشبابيك والمشربيات، والملابس،كل هذه حوافز للبحث عن ثورية الشرق المُفتقدة ، والتي حاول البحث عنها، وقد اتضح ذلك في الاحتفاء الشديد بالأعضاء الجنسية، إلى حد اعتبارها أوثاناً للعبادة ، والإيروتيكا العربية / الشرقية ، لما تحمله داخلها من دلالات ثورية في مواجهة القمع الديني والسياسي، مع وجود أخطاء غير مقصودة ، ناتجة عن القصور بالإلمام بهذه الثقافة (الآية القرآنية التي لم يفهم معناها ولا مدلولها في مشهد استدعاء الجن) ولكن يغفر له أنه يمجد هذه الحياة ، وقد أحبها بصدق ، وأحب طبيعتها رغم عدم فهمها بالكامل ـ فالاحتفاء بالجسد واكتشاف المعرفة عن طريقه، هو السبيل الوحيد للتحرر من كل سلطة دنيوية ودينية ، وصولاً إلى روح حُرّة،لا تتحقق إلاّ بالمأساة (قصة عزيز وعزيزة على سبيل المثال ).

الأسلوب السردي
نظراً للبنية المعقدة لحكايات ألف ليلة ، والتي تنم عن البنية العقلية لمؤلفي الحكايات ، من سعة الخيال والثقافة وتعدد الأساليب السردية وتنوعها عبْر الحكايات ،لذلك.. لجأ بازوليني إلى استخدام حكاية بحث فتى عن فتاة (بحث نور الدين عن زمرد) لتكون هي إطار الحكايات المُنتقاة في الفيلم.  وعن طريق رحلة البحث هذه تتوالى الحكايات، والتي للأسف تبدى بها بعض البلاهة التي اعتلت وجوه وأداء وحركات الممثلين ، وقد كانت هذه الحركات في بعض المشاهد تثير الضحك! خاصة الفتى الأبله عاشق زمرد، الذي يُصاب بالإغماء مراراً، دون أدنى سبب!!

خاتمة :
قدّم بازوليني من خلال فيلميه السابقين روحاً شعبية قادرة على مواجهة السلطات التي تحيطها ،عن طريق قصص تدعو للتمرد.
ـ حوّل الجنسي إلى قيمة إنسانية سامية، هي القيمة الوحيدة القادرة على تخليص الإنسان من كل القيود المفروضة عليه ،فعن طريق الجنس كمعرفة ، يتم فهم الروح الكامنة وراء الجسد.
ـ قدّم بازوليني مفاهيمه الثورية عن المجتمع من خلال هذه الأفلام ،مُتحدياً كل القيود السلطوية التي كانت وقت صنع هذه الأفلام .. من صعود يمين متطرف ، وعودة لسلطة الكنيسة ، ومحاولة تجريد العقول اليسارية من كل مكاسبها السابقة (في إيطاليا بالتحديد) ، وفي العالم عموماً.
ـ الجرأة والقدرة على التعامل مع تراث شعوب مختلفة ثقافياً ونفسياً ،وقد نجح في هذا ، ولو في حدود ، وبطرق متباينة (حذف شهرزاد مثلاً من ألف ليلة، وأحل تيمة الجنس بدلاً منها،كمحرك للأحداث ، ومغزى للمعرفة والحكايات ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق