إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، ديسمبر 09، 2010

إنطباعات عن ... رسائل البحر



أن يقدم داود عبد السيد فيلماً جديداً، فهذا يعد احتفال سينمائي مصري في غاية الأهمية. أفلام داود عبد السيد بداية بالصعاليك ووصولاً إلى فيلمه الأخير رسائل البحر تعد أعمالاً سينمائية مغايرة لأية سينما قد تطالعنا، سواء على مستوى الأفكار العميقة، والسرد الفني والتكنيك الإخراجي، وفي المقام الأول الرؤية المتميزة لمخرج مثل عبد السيد، والذي يبني من تفاصيل الأشياء كليات نحياها كمسلمات، دون أن نلتفت لما كانت وما آلت إليه!

يحيى
يحيى طبيب شاب، يتلعثم في الحديث مع الآخرين، مما يجعلهم يسخرون منه، فيمتنع عن ممارسة مهنة الطب، فكيف يصف الدواء لمريض لن يثق به، فهو لم يستطع إيصال جملة كاملة، دون أن يتلعثم أو يرتبك! وبما أنه ينتمي لأسرة أرستقراطية منهارة، فإنه يترك القاهرة، ويكتفي بشقة مملوكة للعائلة في الأسكندرية، التي عاش فيها جزء كبير من طفولته، وفي مخيلته هذا المجتمع المتفتح، والمتنوع، الذي يضم العديد من الجنسيات، والحرية المفقودة في القاهرة. لا يجد يحيى مصدراً للرزق سوى صيد السمك، وقد يقايض على بعض السلع بهذا السمك، حتى أنه عندما قابل "نورا" والتي قدمت نفسها إليه كعاهرة، قال إنه لا يملك سوى عشرة جنيهات فقط، ومن الممكن أن تأخذ سمكاً بالباقي! وخلال لقاء يحيى بالشخصيات الأخرى، تبدأ رحلته في اكتشاف ذاته وقدراته، يتعلم من خلال التجارب القاسية، خاصة الحب، يتعلم ويدرك بخبرة إنسانية كبيرة أن ما اكتسبه ما هو إلا رسائل عرف كيف يتلقاها، دون أن يحل شفرتها الغامضة، فقط تلقي الرسالة والنضال في الحياة بكيفية معيشتها، لا الهرب منها أو التذمر عليها، أو التظاهر بالإعراض عنها. فمواجهة الحياة كقدر أو كقوة عليا تشبه ما كان يدور في الأساطير والتراجيديات اليونانية العظيمة، التي تمجد الإنسان، الذي رغم ضعفه وقِلة حيلته أمام ما يحيطه، إلا أن نبل رسالته يتجلى في إمكانية القدرة على مواصلة الحياة، وأن هذا النقص الإنساني ــ العاهة التي يحملها كل منا بداخله ــ هو مكمن جمال التجربة الإنسانية كلها، ومكمن قوتها في آن.

قابيل
شخصية قابيل من الشخصيات التي تحمل فكرتها الفلسفية داخلها، وبغض النظر عن دلالة الاسم وما يحمله دينياً، تأتي هذه الشخصية في الفيلم لتمثل التاريخ والإرث الإنساني، وهل سيحل النسيان المشكلة، أم أن التذكر وخاصة التجارب القاسية والمريرة هو ما سيعطي الإنسان قيمته الحقيقية؟ قابيل شخص ضخم الجثة، مخيف الهيئة، يعمل بودي جارد في ملهى ليلي، يخافه الجميع، ولكنه طيب القلب، وقد اتخذ عهداً على نفسه بعدم التعرّض لأي مخلوق، لأنه في إحدى المرّات كانت هناك مشاجرة، تورط فيها وقتل شخصاً عن طريق الخطأ، ولم يصدق قابيل أنه قاتل، خاصة وأن نظرة القتيل ظلت تلازمه كظله، وقد نظر قابيل إلى عين القتيل قائلاً " قوم يا عم إنت صدّقت ولا إيه .. دي الحكاية كلها لعبة!" أصبح قابيل يعاني في الوقت الحالي من ورم بالمخ، ولابد من إجراء عملية لاستئصاله، وإذا نجحت سوف يفقد ذاكرته، وإذا فشلت سيموت، فيرفض قابيل إجراء العملية في آخر لحظة، مستسلماً لحياة يُقاسيها ويعرفها، ورافضاً المقامرة بذاكرته في المقام الأول " لو العملية نجحت هبقى مش فاكر أي حد كنت باعرفه، يعني الموت أحسن، وبعدين هبقى نسيت كل حاجة، ويمكن أقتل تاني". لققد استلم قابيل رسالته، وتعايش معها، حاملاً لثقلها، وهنا يتضح نبل تجربته أيضاً.

نورا
سلطة المجتمع أشد قسوة وشراسة من سلطة النظام الحاكم، فسلطة النظام كما يقول عبد السيد "بها بعض المنطقية، أما سلطة المجتمع فعمياء، وتمثلها ثقافة القطيع" فنورا الذي يأتيها زوجها المقيم بالقاهرة مرّة في الشهر، ترى أنها مجرد عاهرة في هذه العلاقة التي يعترف المجتمع بشرعيتها، ولكنه يتغاضى عن ماهيتها، فالعقد الشرعي ووثيقة الزواج وقبول المجتمع ليسوا الشرط لزواج صحيح وسليم، فهذه النوعية من العلاقات لها شروط أخرى يتغافلها الجميع، لذلك قدّمت نورا نفسها إلى يحيى كمجرد عاهرة قابلته في يوم ممطر، وعليه أن يتقبلها كما ترى هي نفسها، لا كما يريد هو أن يراها، ورغم مرارة ما يُقاسيه يحيى في هذه العلاقة، إلا أنها جعلته يكتسب خبرة الحياة من هذه القسوة، فقد بدأ في الحديث مع نورا بعدما تداخل كل منهما في الآخر، وقد ابتعدت عنه لعنة التلعثم، فلا بد من قبول الآخر كما هو، وأن تتولد مساحة من الاطمئنان، حتى يشعر الإنسان بوجوده في هذه الحياة، وهو حالة وجودية تمثل الإنسان ككل، تلخصها حالة يحيى.

رأسمالية العهد الجديد 
استعرض داود عبد السيد بنايات الأسكندرية القديمة، وما تحمله من تاريخ عريق، كمجتمع منفتح، متعدد الديانات والجنسيات، كان الآخر وقبوله هو قانون هذه المدينة المتآكلة، وهذه الفئة التي تآكلت وقاربت على الانتهاء، بالإصرار على الهجرة ــ كارلا وأمها بالفيلم ــ رحلت بقيمها وحضارتها، تاركة بنايات امتلأت بالشروخ، وكان لابد من بيع البيت الذي يسكن إحدى شقق يحيى إلى الفئة الجديدة، التي يمثلها تاجر السمك الرأسمالي، ليهدم البناية، ويقيم مكانها مولاً تجارياً، فهو يتاجر في كل شيئ، وهذه الحالة على وجه التحديد تذكّر بحالة البطل " برت لانكستر" في فيلم "الفهد" للإيطالي "لوكينو فيسكونتي" الذي يعشقه داود عبد السيد عشقاً خاصاً. إنها زوال فئة وإحلال فئة أخرى، لا تعرف سوى المال قيمة ولغة وديانة، حتى أن صيد السمك أصبح يتم من خلال المتفجرات في البحر/ الديناميت، وفي جملة في غاية الدلالة يقول صلاح عبد الله، الذي قام بدور التاجر " الصيد كده أسرع وأسهل، وإذا كان قصدك على الصبر .. إحنا زمان صبرنا كتير"

الرسائل 

الفكرة الرومانسية التي تدور حول رسالة قديمة مجهولة الراسل يلقيها البحر لمن يشاء، بل ويختار صاحبها، فهناك في بداية الفيلم مَن استلم هذه الرسالة وأعادها مرّة أخرى إلى البحر، لأنه ليس المُختار أو المقصود. ومن خلال "البحر" الذي يمنح ويمنع حسب هواه كقوة كونية جبارة يتلقى بطل الفيلم "يحيى" رسالة مطوية داخل زجاجة، يأخذها ويحاول فك رموزها، ولكنه لا يستطيع، فهي كلمات مكتوبة بلغة قديمة مجهولة، فتكون المحصلة ليست في أهمية الرسالة أو محتواها، ولكن يكفى أن البحر اختاره وأرسلها له، فعليه إذاً أن يعيش ويحيا الحياة كما هي، بكل ما تحمله من غموض، وأشياء لا نستطيع معرفتها اليقينية، أو تبريرها، المهم الحياة وتجاربها القاسية، والتي تزيد النفس الإنسانية قوة واكتشافاً لذاتها وللآخرين.

           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق