עמוס עוז |
يوم جميل في رام الله، الساعة التاسعة صباحاً. مقهى صغير في شارع جانبي يضع طاولة فورمايكا على الرصيف. الرجال الثلاثة الجالسون حول الطاولة والمنغمسون بحديث متيقظ، يلوذون بالصمت معاً عند انضمامي إليهم. أحدهم، رجل مسن بين الستين والسبعين سنة من عمره وتكسو زغب شيب كثيفة رأسه ووجهه وهو يرتدي بذلة مقلّمة باهتة اللون. والآخران، شابان يرتديان الجينز. لأحدهما بذلة جينز شعثاء، والآخر يلبس بنطلون جينز وقميص "كوكا كولا". كلاهما يدخنان. وفي فم المسنّ عُقْب لفافة تبغ منطفئة. طلبتُ فنجاناً من القهوة العربية، الصمت بارد وجاد. ولكن عندما أخرجتُ سيجارة امتشق أحد الشابين قدّاحة وقدّم لي شعلة
شكرا جزيلا
عافاك الله
صمت. الشابان يتهامسان على عجل بالعربية. توجّه أحدُهما إليّ قائلا بالعبرية:
أنتَ من هنا؟
السؤال غير واضح لي وأنا متردد، الشاب يفصح:
من المستوطنات؟
لا، أنا من الكيبوتس، وأنتم؟ من هنا؟
نحن من هنا وهو من سلواد، من القرية. تعمل لصالح الإدارة؟
قلتُ، جئتُ لأتنزّه، لأشاهد وربما الكتابة في صحيفة. إثر ذلك يتمّ التعارف دون مصافحة، التعارف صارم ومربك: نايف، حسن وهذا، السيد اسمه أبو عزمي.
لحَسن وجه طفل وكتفاه قويّتان، سأل مندهشا: ماذا يوجد هنا للرؤية؟ ويقول نايف: أكتُب أن الوضع رديء. وحسن يقول: أحسن شيء، أكتب من أجل السلام.
أي نوع من السلام؟
سلام يوافق عليه الكبار. شو بعرفّني؟ سلام عادل. ولكني أظن لا مناص من حرب أخرى.
لماذا؟
يهزّ حسن كتفيه. يقول نايف بمرارة: ربما لم يمت من البشر ما فيه الكفاية.
أسألُ، ماذا سيحصل بعد الحرب القادمة؟
حرب أخرى، يقول نايف جازماً، وبعد ذلك أخرى، مائة حرب.
وفي نهاية الحروب؟
في النهاية قد يتعبون. وربما لا يتبقى جنود، ربما يعقلون.
ألاحظ أن حسن ونايف يحرصان على استعمال ضمير الغائبين .. يقاتلون، يموتون، يتعبون. الامتناع عن استخدام "نحن" و"أنتم" مقصود جداً، أما بخصوص الرجل المسن، أبوعزمي فليس في الوارد. ربما لأنه لا يعرف العبرية. ملامح وجهه صارمة ومليئة بالتجاعيد، وتنمّ عن إنسان غارق في أدق التأملات. عُقْب السيجارة يرتجّ قليلاً في زاوية فيه. كفّاه مُلقتان أمامه على طاولة الفورمايكا ونظره لا يحيد عنهما كأنه يدرس أصابعه عن ظهر قلب. هل هو أصمّ؟ أو يغفو بعينين منفتحتين؟ قد يكون سمع أكثر من اللازم في حياته ولا يودّ المزيد؟ يلوذ بالصمت.
أسأل نايف وحسن أين تعلما العبرية؟
من الشغل. نشتغل لصالح اليهود
يصحّح حسن: من أجل الإسرائيليين.
أستفسر عن الفرق ما بين اليهود والإسرائيليين.
سكوت. ربما لم يكن السؤال في محلّه. وبدلاً من الجواب يعرض عليّ نايف سيجارة "كنت"، ويقدّم النار. ندخّن ثلاثتنا، تريد مشاركتنا في الطعام أيضاً؟حمّص؟ مع سلطة؟ يعرض حسن. ولكنني أصرّ على سؤالي، ربما بلا لباقة: ما الفرق بين اليهود والإسرائيليين؟ يصاب حسن بالارتباك. ينبش في جيبه وكأنه يبحث عن وثيقة ما ليبرزها جواباً على استفساري. يزرر زراً في جاكيت الجينز. يتبادل النظرات مع نايف. ويصوّب ناظريه على المسن، أبو عزمي الذي يتحرّك ولا يحرك جفنا ــ لا بيهش ولا بينش ــ حسن يبتسم نحوي ابتسامة صبيانية وكأنه يلحّ عليّ لأتنازل عن سؤالي. ولكنني أصرّ. أخيرا قوْلب حسن إجابته هكذا: اليهود، هم ما كانوا مرّة، قبل أن يصبحوا دولة. كانت عندهم الكثير من المشاكل، مصائب. ومن مشاكلهم صاروا إسرائيليين. مثل الإنكليز، مثل أمريكا. كما أنهم تركوا دينهم.
وأنتم متدينون؟
عند العرب، يقول نايف محاولاً جهدَه تكويرَ كفّيه الفارغتين لحد ما، لدى المسلمين، الأمر مختلف: التدين هكذا، ليس بشأن كل الحياة، فقط بخصوص العادات.
يتحفّظ حسن: هناك أشكال وألوان، أنا لم أكن متديناً والآن صرت متديناً بعض الشيء، هناك الكثيرون من هذه الشاكلة، لماذا؟ لا أدري. ربما كان ذلك من جرّاء المشاكل
والإسرائيليون؟ ألم تلتقيا بإسرائيليين متدينين؟
طبعاً. هناك الكثير الكثير، إلا أن أولائك المتدينين من المستوطنات أشدّ الناس إسرائيليةً. اليهود، ما كان ذات يوم، كان ذلك شيئاً مغايراً بالتمام. أتعمل في صحيفة؟ يدفعون جيداً؟
السؤال السابق هام لي، وأضغط على نايف لتبديل الموضوع. أطلب إليه أن يشرح لي ما الفرق في نظره بين "اليهود أيام زمان" وبين الإسرائيليين الآن؟
أنْظر، يقول بدون نِفس، أنا لا أذكرهم. المسنّون عندنا كانوا يقولون، مَن اليهودي؟ واحد مسكين، متخوزق، يصلّي ويبكي، ولكن شو، عنده عقل بلاوي، أكثر من الروسي، أكثر من الإنكليزي، ذكي. كما أنه يملك قلباً في قلبه، حتى إنه لا يقتل النملة. كان لليهود عقل أكثر من العرب، ولكن الإسرائيليين حلّت عليهم القوة وفقدوا العقل
يتضحّك نايف: قد يحلّ العقل الآن على العرب.
ما زالا حريصين على استعمال الضمير الغائب: لا أنتم ولا نحن بل العرب واليهود والإسرائيليين. وكأننا نحن الجالسون حول هذه المائدة قد أبرمنا اتفاقاً سرياً بلا أخذ وردّ للتحدث كمراقبين حياديين لا ينتمون لأي طرف. وأنضمّ أنا أيضاً دون وعي لهذا الاتفاق اللغوي. ربما بدونه لا تتمّ محادثة. أوجه سؤالاً:
ما الذي يفعله الإسرائيليون بدون عقل وتفكير؟
الرجل المسن، أبو عزمي، يُخرِج من فمه عقْب السيجارة يتنحنح، يبصق بعيداً بصقة بلغمية تُصيب بالضبط سيارة واقفةً على بعد مترين. هل كان على وشك إبداء ملاحظة ما؟ لا، إنه يُعيد عقْب السيجارة إلى ما بين شفتيه. ساكت وربما حائر، ومن الممكن أنه لا يفهم العبرية. قد يكون على علم بما ستكون عليه النهاية، ولا يريد أن يفصح لنا.
يشرح لي نايف باعتدال، ينتقي بتمهّل الكلماتِ التي يتفوّه بها: قبل حرب الثمانية والأربعين ماذا كان يقول اليهود؟ قالوا نريد قُرنة وبَسْ ليعطوهم قرنتهم فقط وسينبسطون وخلاص. تكلموا كالمساكين، بعقل! في الوقت ذاته كان العرب بدون رأس، كانوا يقولون لليهود: عندنا القوة، لدينا الوقت، عندنا الإنكليزي، لدينا الكل، ولن يحصل اليهود لا على قرنة ولا على بطيخ. ليذهبوا في البحر. الآن الأمر معكوس. يقول العربي اليوم إنه مسكين، يريد أن يعطوه قرنة وبَسْ، والإسرائيلي يقول له: عندي القوة، لدي الكلّ، ولماذا يعرض على العربي قرنة؟
إني حائر قليلا: قُرنة؟
قرنة! فقط قرنة صغيرة! نايف يقلص كفيه كأنه يقيس مقعدا صغيراً .. قرنة، ليتركوه وحيداً في قرنته، ليكن العربي أيضاً إنساناً حراً.
والآن وجدتها، "פינה/پنا" أي زاوية، ركن، قرنة، قُلبت باللفظ العربي إلى "בינה" بمعنى فهم، فطنة، حكمة. ذات يوم طلب اليهود لأنفسهم قرنة والآن يطلب العرب لأنفسهم قرنة.
من قبل كان بيچن ومن قبله كانت السيدة جولدا مئير، وكان لليهود الرأس، ڤايتسمان، جدّ عيزر ڤايتسمان. كان يُحسن الطلب، كان يقول، يُعطى لليهود قرنة خاصة بهم وانتهينا. كان العرب يضحكون عليه. الآن يتحدث العربُ مثل ڤايتسمان، يعطى لهم قرنة خاصة بهم وانتهينا.
قُل لي يا نايف، إذا تسلّم العرب قرنةً ألن يريدوا بعد ذلك قطعة أخرى فأخرى؟ ألن يرغبوا في البلاد كلها؟
ينفجر كلاهما بالضحك بصوت عال. حسن كصبي ضُبط بأكذوبة تغتفر لا محالة، يفرش ذراعيه، راحتا اليد إلى الأعلى ويُجيبني بسؤال: واليهود؟ لما تحدّث ڤايتسمان عن رغبته بالحصول على قرنة صغيرة فقط، ألم يُضمر في فؤاده سنأخذ من العرب قرنة، وقرنة أخرى وفي آخر المطاف نحصل على الكل؟ ورام الله بيجي لعند اليهود في الآخر؟ ألم يفكر في أعماق قلبه بهذا المنوال؟
يقول نايف: هذا جائز، إذا منحوا العرب نتفة حرية بدأوا برفع رؤوسهم، يستقوون وتنفتح الشهية. تنفتح الشهية وينغلق العقل. وهكذا قد يعود العقل في النهاية للإسرائيليين. هكذا عملُ الله: إذا وُجد العقل انتفت القوة. وإذا كانت القوة ولّت الفطنة. أنظر إلى المسنّين والشباب، منح الله الشباب القوّة وللطاعنين في السن العقل والحكمة.
يضحكون.
أبو عزمي ما زال في صمته، ولكن للحظة خاطفة ظننتُ أنه يردّ على قهقهتنا بابتسامة خجولة من تحت شاربه. يعني، إنه يفهم العبرية ويفضّل السكوت؟ ومن الممكن أنه لم يبتسم،
قد يكون لاك عقب سيجارته، معرفة الحقيقة صعبة.
هذا الضحك الجماعي رطّب الجوّ حول الطاولة. يطلب نايف وحسن كوكاكولا للجميع، كما ويعرضون عليّ بإلحاح لفافة تبغ أخرى. إني أطرح السؤال: وفي حال وجود قرنة لليهود وأخرى للعرب في آخر المطاف فهل سيحلّ السلام؟
صمت.
أُصرّ: سيأتي أم لا؟
يتأوّه العجوز، وعلى حين غرّة ينحني كثيراً كأنه يسجد نحو كأس الكوكا كولا الموضوعة على المائدة ويجرع جرعتين أو ثلاثا منها دون مسّها. يقول حسن: قد يحلّ في النهاية، إن شاء الله، يقول ذلك متأوهاً وكأنه يحاكي أبو عزمي.
كيف سيحلّ؟
نايف: ليُنه ذلك الكبار، هذا شأن الكبار، لا شأننا.
وبعد تأمل ثان أردف قائلاً: يحلّ مع العقل، لا مع القوة. سلام ما بين بيچن والحسين؟
أم ما بين بيچن وعرفات؟
أنظر: يأتي مناحيم بيچن، أو شمعون بيرس، أو شارون، أي واحد من الإسرائيليين ويقول لأبي عمار: تفدل، خذ الضفة، خذ غزة، نفضّ القضية نص نص. ماذا سيقول له؟ يقول، لا أريد؟ أكيد سيوافق. يأخذ فورا ما يعطون. بدون مشاكل، لا قوة في جعبته، ورويداً رويداً تحلّى بالفطنة والعقل. يعطوه شيئاً ما؟ يأخذ ما يعطون.
وبعد ذلك؟ ألن يُواصل المطالبة بالمزيد؟
إن طلب فستنشب الحرب ثانية، ويموت الناس هذراً. وهو يعلم جيداً أيضاً أن أمريكا ترعى إسرائيل كطفل لها. هذا وضع اليهود والعرب هنا، إنه كاثنين واقفين على السطح وكل واحد منهما متشبّث بالآخر. فإما أن يسقطا سوية وإما أن ينتبها، لا خيار آخر، إنهما متشبثان ببعضهما البعض بقوة. إنهما كحمارين في نفس العربة وإن برطعا فسيكسران الرأس والقوائم، لأنهما ممسوكان بشدّة مع بعضهما البعض،
يعني ماذا، سيحلّ السلام أم لا؟
إنشا الله، سيحلّ في النهاية. أنت تذكُرنا في صحيفة إسرائيلية؟ لا تُفصح عن أسمائنا، بحياة عمرك. أعط أسماء أخرى، قل محمد وأحمد. لا تكتب رام الله. أكتب البيرة. أكتب أيضاً الكل في الضفة الغربية يريدون السلام. الكبار والصغار. أكتب: ملّوا من الحروب. لماذا يموتون؟ أكتب، العرب أيضا بطلعلهم قرنة. لا تكتب العرب، أكتب الفلسطينيون، هذا أصحّ. ولا تكتب، هؤلاء كلهم قتَلى. أكتب على هدي العقل. أكتب من القلب. أكتب للإسرائيليين، القوة لا تساعدهم. القوة كالمال. اليوم عندي وغدا بيدك وبعد غد في يده. علينا الإتيان على كل الحروب بالعقل والحكمة وليس بالقوة والجبروت. بموجب العدل. أكتب من أجل السلام.
والآن العجوز، أبو عزمي، يُتمتم لنفسه وصوته أجشّ كماكنة عتيقة لا تدور بسهولة. يحرّك نفسه على الكرسي، يئنّ متنهداً ويلقي ما بجعبته، يكسر دون اكتراث الاتفاق اللغويَ القاضي باستعمال دائم لضمير الغائبين ويجزم بعبرية جيّدة وبصوت أبحّ وفيه ربما مسحة من الحزن:
أنتم أخذتم منا كلَّ شيء. كيف يجيئكم النوم في الليل؟ ألا تخشون الله؟ أخذتم كل شيء. ولكن نحن أيضا كنا مذنبين. مش مزبوط. تعلم أن رجالنا في البداية كانوا يقتلون اليهود هيك. بدون أي غاية! الآن عوقبنا. وأنتم أيضا لكم قصاصكم من الله. أكتب في جريدة إسرائيلية، أكتب إللي فات مات. خلصنا. الجميع يريدون العيش على الأرض والرزق. كل اليهود والعرب يرغبون في الحياة. أكتب، الأرض ليست لا لليهود ولا للعرب. الأرض لله. من يحلو عنده يمنحه أرضه. الله هو المقرر الوحيد. ومن يسيء يدفع الثمن: يمرّ عليه الله ويغفر له. أنقل أيضا في صحيفة إسرائيلية تحيات أبو عزمي للسيد كوهين.
شكرا جزيلا
عافاك الله
صمت. الشابان يتهامسان على عجل بالعربية. توجّه أحدُهما إليّ قائلا بالعبرية:
أنتَ من هنا؟
السؤال غير واضح لي وأنا متردد، الشاب يفصح:
من المستوطنات؟
لا، أنا من الكيبوتس، وأنتم؟ من هنا؟
نحن من هنا وهو من سلواد، من القرية. تعمل لصالح الإدارة؟
قلتُ، جئتُ لأتنزّه، لأشاهد وربما الكتابة في صحيفة. إثر ذلك يتمّ التعارف دون مصافحة، التعارف صارم ومربك: نايف، حسن وهذا، السيد اسمه أبو عزمي.
لحَسن وجه طفل وكتفاه قويّتان، سأل مندهشا: ماذا يوجد هنا للرؤية؟ ويقول نايف: أكتُب أن الوضع رديء. وحسن يقول: أحسن شيء، أكتب من أجل السلام.
أي نوع من السلام؟
سلام يوافق عليه الكبار. شو بعرفّني؟ سلام عادل. ولكني أظن لا مناص من حرب أخرى.
لماذا؟
يهزّ حسن كتفيه. يقول نايف بمرارة: ربما لم يمت من البشر ما فيه الكفاية.
أسألُ، ماذا سيحصل بعد الحرب القادمة؟
حرب أخرى، يقول نايف جازماً، وبعد ذلك أخرى، مائة حرب.
وفي نهاية الحروب؟
في النهاية قد يتعبون. وربما لا يتبقى جنود، ربما يعقلون.
ألاحظ أن حسن ونايف يحرصان على استعمال ضمير الغائبين .. يقاتلون، يموتون، يتعبون. الامتناع عن استخدام "نحن" و"أنتم" مقصود جداً، أما بخصوص الرجل المسن، أبوعزمي فليس في الوارد. ربما لأنه لا يعرف العبرية. ملامح وجهه صارمة ومليئة بالتجاعيد، وتنمّ عن إنسان غارق في أدق التأملات. عُقْب السيجارة يرتجّ قليلاً في زاوية فيه. كفّاه مُلقتان أمامه على طاولة الفورمايكا ونظره لا يحيد عنهما كأنه يدرس أصابعه عن ظهر قلب. هل هو أصمّ؟ أو يغفو بعينين منفتحتين؟ قد يكون سمع أكثر من اللازم في حياته ولا يودّ المزيد؟ يلوذ بالصمت.
أسأل نايف وحسن أين تعلما العبرية؟
من الشغل. نشتغل لصالح اليهود
يصحّح حسن: من أجل الإسرائيليين.
أستفسر عن الفرق ما بين اليهود والإسرائيليين.
سكوت. ربما لم يكن السؤال في محلّه. وبدلاً من الجواب يعرض عليّ نايف سيجارة "كنت"، ويقدّم النار. ندخّن ثلاثتنا، تريد مشاركتنا في الطعام أيضاً؟حمّص؟ مع سلطة؟ يعرض حسن. ولكنني أصرّ على سؤالي، ربما بلا لباقة: ما الفرق بين اليهود والإسرائيليين؟ يصاب حسن بالارتباك. ينبش في جيبه وكأنه يبحث عن وثيقة ما ليبرزها جواباً على استفساري. يزرر زراً في جاكيت الجينز. يتبادل النظرات مع نايف. ويصوّب ناظريه على المسن، أبو عزمي الذي يتحرّك ولا يحرك جفنا ــ لا بيهش ولا بينش ــ حسن يبتسم نحوي ابتسامة صبيانية وكأنه يلحّ عليّ لأتنازل عن سؤالي. ولكنني أصرّ. أخيرا قوْلب حسن إجابته هكذا: اليهود، هم ما كانوا مرّة، قبل أن يصبحوا دولة. كانت عندهم الكثير من المشاكل، مصائب. ومن مشاكلهم صاروا إسرائيليين. مثل الإنكليز، مثل أمريكا. كما أنهم تركوا دينهم.
وأنتم متدينون؟
عند العرب، يقول نايف محاولاً جهدَه تكويرَ كفّيه الفارغتين لحد ما، لدى المسلمين، الأمر مختلف: التدين هكذا، ليس بشأن كل الحياة، فقط بخصوص العادات.
يتحفّظ حسن: هناك أشكال وألوان، أنا لم أكن متديناً والآن صرت متديناً بعض الشيء، هناك الكثيرون من هذه الشاكلة، لماذا؟ لا أدري. ربما كان ذلك من جرّاء المشاكل
والإسرائيليون؟ ألم تلتقيا بإسرائيليين متدينين؟
طبعاً. هناك الكثير الكثير، إلا أن أولائك المتدينين من المستوطنات أشدّ الناس إسرائيليةً. اليهود، ما كان ذات يوم، كان ذلك شيئاً مغايراً بالتمام. أتعمل في صحيفة؟ يدفعون جيداً؟
السؤال السابق هام لي، وأضغط على نايف لتبديل الموضوع. أطلب إليه أن يشرح لي ما الفرق في نظره بين "اليهود أيام زمان" وبين الإسرائيليين الآن؟
أنْظر، يقول بدون نِفس، أنا لا أذكرهم. المسنّون عندنا كانوا يقولون، مَن اليهودي؟ واحد مسكين، متخوزق، يصلّي ويبكي، ولكن شو، عنده عقل بلاوي، أكثر من الروسي، أكثر من الإنكليزي، ذكي. كما أنه يملك قلباً في قلبه، حتى إنه لا يقتل النملة. كان لليهود عقل أكثر من العرب، ولكن الإسرائيليين حلّت عليهم القوة وفقدوا العقل
يتضحّك نايف: قد يحلّ العقل الآن على العرب.
ما زالا حريصين على استعمال الضمير الغائب: لا أنتم ولا نحن بل العرب واليهود والإسرائيليين. وكأننا نحن الجالسون حول هذه المائدة قد أبرمنا اتفاقاً سرياً بلا أخذ وردّ للتحدث كمراقبين حياديين لا ينتمون لأي طرف. وأنضمّ أنا أيضاً دون وعي لهذا الاتفاق اللغوي. ربما بدونه لا تتمّ محادثة. أوجه سؤالاً:
ما الذي يفعله الإسرائيليون بدون عقل وتفكير؟
الرجل المسن، أبو عزمي، يُخرِج من فمه عقْب السيجارة يتنحنح، يبصق بعيداً بصقة بلغمية تُصيب بالضبط سيارة واقفةً على بعد مترين. هل كان على وشك إبداء ملاحظة ما؟ لا، إنه يُعيد عقْب السيجارة إلى ما بين شفتيه. ساكت وربما حائر، ومن الممكن أنه لا يفهم العبرية. قد يكون على علم بما ستكون عليه النهاية، ولا يريد أن يفصح لنا.
يشرح لي نايف باعتدال، ينتقي بتمهّل الكلماتِ التي يتفوّه بها: قبل حرب الثمانية والأربعين ماذا كان يقول اليهود؟ قالوا نريد قُرنة وبَسْ ليعطوهم قرنتهم فقط وسينبسطون وخلاص. تكلموا كالمساكين، بعقل! في الوقت ذاته كان العرب بدون رأس، كانوا يقولون لليهود: عندنا القوة، لدينا الوقت، عندنا الإنكليزي، لدينا الكل، ولن يحصل اليهود لا على قرنة ولا على بطيخ. ليذهبوا في البحر. الآن الأمر معكوس. يقول العربي اليوم إنه مسكين، يريد أن يعطوه قرنة وبَسْ، والإسرائيلي يقول له: عندي القوة، لدي الكلّ، ولماذا يعرض على العربي قرنة؟
إني حائر قليلا: قُرنة؟
قرنة! فقط قرنة صغيرة! نايف يقلص كفيه كأنه يقيس مقعدا صغيراً .. قرنة، ليتركوه وحيداً في قرنته، ليكن العربي أيضاً إنساناً حراً.
والآن وجدتها، "פינה/پنا" أي زاوية، ركن، قرنة، قُلبت باللفظ العربي إلى "בינה" بمعنى فهم، فطنة، حكمة. ذات يوم طلب اليهود لأنفسهم قرنة والآن يطلب العرب لأنفسهم قرنة.
من قبل كان بيچن ومن قبله كانت السيدة جولدا مئير، وكان لليهود الرأس، ڤايتسمان، جدّ عيزر ڤايتسمان. كان يُحسن الطلب، كان يقول، يُعطى لليهود قرنة خاصة بهم وانتهينا. كان العرب يضحكون عليه. الآن يتحدث العربُ مثل ڤايتسمان، يعطى لهم قرنة خاصة بهم وانتهينا.
قُل لي يا نايف، إذا تسلّم العرب قرنةً ألن يريدوا بعد ذلك قطعة أخرى فأخرى؟ ألن يرغبوا في البلاد كلها؟
ينفجر كلاهما بالضحك بصوت عال. حسن كصبي ضُبط بأكذوبة تغتفر لا محالة، يفرش ذراعيه، راحتا اليد إلى الأعلى ويُجيبني بسؤال: واليهود؟ لما تحدّث ڤايتسمان عن رغبته بالحصول على قرنة صغيرة فقط، ألم يُضمر في فؤاده سنأخذ من العرب قرنة، وقرنة أخرى وفي آخر المطاف نحصل على الكل؟ ورام الله بيجي لعند اليهود في الآخر؟ ألم يفكر في أعماق قلبه بهذا المنوال؟
يقول نايف: هذا جائز، إذا منحوا العرب نتفة حرية بدأوا برفع رؤوسهم، يستقوون وتنفتح الشهية. تنفتح الشهية وينغلق العقل. وهكذا قد يعود العقل في النهاية للإسرائيليين. هكذا عملُ الله: إذا وُجد العقل انتفت القوة. وإذا كانت القوة ولّت الفطنة. أنظر إلى المسنّين والشباب، منح الله الشباب القوّة وللطاعنين في السن العقل والحكمة.
يضحكون.
أبو عزمي ما زال في صمته، ولكن للحظة خاطفة ظننتُ أنه يردّ على قهقهتنا بابتسامة خجولة من تحت شاربه. يعني، إنه يفهم العبرية ويفضّل السكوت؟ ومن الممكن أنه لم يبتسم،
قد يكون لاك عقب سيجارته، معرفة الحقيقة صعبة.
هذا الضحك الجماعي رطّب الجوّ حول الطاولة. يطلب نايف وحسن كوكاكولا للجميع، كما ويعرضون عليّ بإلحاح لفافة تبغ أخرى. إني أطرح السؤال: وفي حال وجود قرنة لليهود وأخرى للعرب في آخر المطاف فهل سيحلّ السلام؟
صمت.
أُصرّ: سيأتي أم لا؟
يتأوّه العجوز، وعلى حين غرّة ينحني كثيراً كأنه يسجد نحو كأس الكوكا كولا الموضوعة على المائدة ويجرع جرعتين أو ثلاثا منها دون مسّها. يقول حسن: قد يحلّ في النهاية، إن شاء الله، يقول ذلك متأوهاً وكأنه يحاكي أبو عزمي.
كيف سيحلّ؟
نايف: ليُنه ذلك الكبار، هذا شأن الكبار، لا شأننا.
وبعد تأمل ثان أردف قائلاً: يحلّ مع العقل، لا مع القوة. سلام ما بين بيچن والحسين؟
أم ما بين بيچن وعرفات؟
أنظر: يأتي مناحيم بيچن، أو شمعون بيرس، أو شارون، أي واحد من الإسرائيليين ويقول لأبي عمار: تفدل، خذ الضفة، خذ غزة، نفضّ القضية نص نص. ماذا سيقول له؟ يقول، لا أريد؟ أكيد سيوافق. يأخذ فورا ما يعطون. بدون مشاكل، لا قوة في جعبته، ورويداً رويداً تحلّى بالفطنة والعقل. يعطوه شيئاً ما؟ يأخذ ما يعطون.
وبعد ذلك؟ ألن يُواصل المطالبة بالمزيد؟
إن طلب فستنشب الحرب ثانية، ويموت الناس هذراً. وهو يعلم جيداً أيضاً أن أمريكا ترعى إسرائيل كطفل لها. هذا وضع اليهود والعرب هنا، إنه كاثنين واقفين على السطح وكل واحد منهما متشبّث بالآخر. فإما أن يسقطا سوية وإما أن ينتبها، لا خيار آخر، إنهما متشبثان ببعضهما البعض بقوة. إنهما كحمارين في نفس العربة وإن برطعا فسيكسران الرأس والقوائم، لأنهما ممسوكان بشدّة مع بعضهما البعض،
يعني ماذا، سيحلّ السلام أم لا؟
إنشا الله، سيحلّ في النهاية. أنت تذكُرنا في صحيفة إسرائيلية؟ لا تُفصح عن أسمائنا، بحياة عمرك. أعط أسماء أخرى، قل محمد وأحمد. لا تكتب رام الله. أكتب البيرة. أكتب أيضاً الكل في الضفة الغربية يريدون السلام. الكبار والصغار. أكتب: ملّوا من الحروب. لماذا يموتون؟ أكتب، العرب أيضا بطلعلهم قرنة. لا تكتب العرب، أكتب الفلسطينيون، هذا أصحّ. ولا تكتب، هؤلاء كلهم قتَلى. أكتب على هدي العقل. أكتب من القلب. أكتب للإسرائيليين، القوة لا تساعدهم. القوة كالمال. اليوم عندي وغدا بيدك وبعد غد في يده. علينا الإتيان على كل الحروب بالعقل والحكمة وليس بالقوة والجبروت. بموجب العدل. أكتب من أجل السلام.
والآن العجوز، أبو عزمي، يُتمتم لنفسه وصوته أجشّ كماكنة عتيقة لا تدور بسهولة. يحرّك نفسه على الكرسي، يئنّ متنهداً ويلقي ما بجعبته، يكسر دون اكتراث الاتفاق اللغويَ القاضي باستعمال دائم لضمير الغائبين ويجزم بعبرية جيّدة وبصوت أبحّ وفيه ربما مسحة من الحزن:
أنتم أخذتم منا كلَّ شيء. كيف يجيئكم النوم في الليل؟ ألا تخشون الله؟ أخذتم كل شيء. ولكن نحن أيضا كنا مذنبين. مش مزبوط. تعلم أن رجالنا في البداية كانوا يقتلون اليهود هيك. بدون أي غاية! الآن عوقبنا. وأنتم أيضا لكم قصاصكم من الله. أكتب في جريدة إسرائيلية، أكتب إللي فات مات. خلصنا. الجميع يريدون العيش على الأرض والرزق. كل اليهود والعرب يرغبون في الحياة. أكتب، الأرض ليست لا لليهود ولا للعرب. الأرض لله. من يحلو عنده يمنحه أرضه. الله هو المقرر الوحيد. ومن يسيء يدفع الثمن: يمرّ عليه الله ويغفر له. أنقل أيضا في صحيفة إسرائيلية تحيات أبو عزمي للسيد كوهين.
Amos Oz |
عاموس عوز من أبرز أدباء اللغة العبرية في هذا العصر، ولد في القدس عام 1939، وترجمت بعض مؤلفاته إلى عشرات اللغات. درس الفلسفة والأدب العبري في الجامعة العبرية في القدس. كتب عن المجتمع الإسرائيلي، الكيبوتس والمدينة لا سيما القدس، واللاسامية والمحرقة وسيرته الذاتية. يؤمن عوز بأن الأدب يستطيع أن يكون جسرا بين الشعوب. حصل على الكثير من الجوائز والألقاب مثل جائزة إسرائيل في الأدب عام 1998 وجائزة چوته عام 2005 ودكتوراة شرف من الجامعة العبرية عام 2006 وأخرى في 2008 من جامعة بن غوريون حيث يشغل منصب بروفيسور ورئيس دائرة الأدب العبري، وهو عضو في مجمع اللغة العبرية منذ العام 1991.
بالإضافة إلى كونه شخصية بارزة سياسياً وفكرياً في صفوف حركة “السلام الآن” منذ العام 1977.
من مؤلفاته: أناس آخرون 1964، بلاد ابن آوى 1965، مكان آخر 1966، حنة وميخائيل 1967، لمس الماء لمس الريح 1974، جبل العظة السيئة 1976، عجنون يندهش من الله 1993، حكاية الحب والظلام 2002، قصائد الحياة والموت 2007.
ترجمة د. حسيب شحادة، عن موقع دنيا الرأي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق