إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، ديسمبر 30، 2010

العلمانية ... فكرة وضع الدين في مكانه الصحيح



قراءة في رؤى نصر أبو زيد ومحمد أركون ورجاء بن سلامة 

 

في ظل أنظمة سياسية تفتقد شرعيتها ومصداقيتها بالنسبة إلى شعوبها والعالم، جاء سوء الفهم المزمن الذي يلاحق مفهوم العلمانية ــ رغم حتميتها كواقع ــ الذي أسبغه عليها الأصوليون ومفسرو النصوص الدينية، ليصبحوا السلطة الوحيدة والمطلقة.

النظرة المغلوطة إلى العلمانية
تشير بن سلامة بداية إلى أن النظرة المغلوطة إلى العلمانية تمت إشاعتها، والترويج لها، من قِبل رجال الدين ومفسري النصوص الدينية، الذين يعيشون في ظل أنظمة سياسية قمعية تحاول تصوير العلمانية على أنها مرادف للإلحاد، لأنها لن تسمح لهم بما يتمتعون به من سلطة على شعوبهم، وتكشف زيف خطابهم المتمسح بالنص المقدس. وتؤكد خلال محاضرتها أن العلمانية تشير إلى مبدأ الفصل بين الدين وكل من السياسة والقانون، وهي بهذا ليست مذهباً، بل إطار يسمح بتعايش كل المذاهب والمعتقدات.
وتضيف ..علمانية اليوم تختلف عن علمانية الأنظمة الشمولية التي فرضت الإلحاد كأيديولوجية، كما فعل النظام البلشفي على سبيل المثال، كما أن العلمانية لا تنافي المقدس، لكن تحويل الطقوس المحددة إلى طقس ممتد، سيحول الحياة إلى دير كبير، فإما أن يتحول الإنسان إلى متصوف، وسيخرج عن عالم الناس، أو ينعزل ويتطرف، ويصبح قوة مدمرة للعالم، وهو ما يحدث الآن في حركات العنف الديني.

مفهوم العلمانية
ولكي تكتمل الصورة يرى نصر أبو زيد أن العلمانية تبدأ بإعمال العقل الحر، و هي تعني فصل الدين عن الدولة، دون فصل الدين عن المجتمع، والفارق شاسع بين المفهومين، فلا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع، كما أن الدين ينتمي إلى سلطة المقدس والمطلق، وهذه السلطة ليست سلطة هيمنة واستعباد، إنما حررت الإنسان من كهنوت الطبيعة وكهنوت البشر. أما محمد أركون فيرى أن العلمنة لا تعني مناهضة الدين أو السعي للحد من ممارسته في المجتمع، بل تقول بوضع الدين في المكان الصحيح لموقعه الروحي والأخلاقي، وتعارض هيمنته على السياسة وخوضها غمار الصراع على السلطة. ويذهب أركون إلى أبعد من ذلك فيرى في العلمانية أيضا مسألة خاصة بالمعرفة قبل كل شيء، دون اقتصارها فقط على مبدأ فصل الدين عن الدولة، ويشدد على مدى الترابط الحتمي بين العلمانية والحرية، وبذلك لا يمكن أن تتحول العلمانية إلى أيديولوجيا أو «دوجما»، وإلا فقدت هويتها. ويشير إلى أن الأديان قدمت للإنسان ليس فقط التفسيرات والإيضاحات، وإنما قدمت أيضاً الأجوبة العلمية القابلة للتطبيق والاستخدام مباشرة في ما يخص علاقتنا بالوجود والآخرين، بل وحتى الكون كله.
وتتنافى العلمانية التي يراها أركون مع العلمانية المفروضة، التي تحدث عنها في كتابه «العلمنة والدين»، وهي التي تسعى جاهدة إلى إبعاد الدين عن الحياة العامة وترفض الاعتراف بموقع الوحي وتأثيره على المسار التاريخي للشعوب والثقافات وأنظمة الفكر، ويسوق مثالا على ذلك بالتجربة العلمانية التركية التي قادها مصطفى كمال أتاتورك في الربع الأول من القرن العشرين.


«فعلمانية تركيا سعت إلى الهيمنة على الدين ووضعه تحت سلطتها، وهذا مناقض للمبدأ العلماني القائل بفصل المجال الديني عن السياسي، لكن في تركيا تم فرضها على الشعب بسبب طابعها الغربي المستورد، لذلك لم تحظ بالتأييد الجماهيري، وظلت عملية خارجية، وهي خطرة من الناحيتين العقلية والثقافية لأنها لم تأخذ في الحسبان البعد الديني للمجتمع التركي ولا للتعددية العرقية والطائفية، وهو ما يفسر الصحوة الدينية في تركيا، ووصول القوى الإسلامية إلى السلطة (حزب العدالة والرفاه التركي)، التي تعكس الرغبة الشعبية في الاتجاهات الإسلامية في تركيا».

للخطاب الديني كما يرى أبو زيد شروطه التاريخية والسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، فهو «إذن يمتلك أبعاداً ملموسة ومحسوسة، وهو في جوهره غير مقدس لأنه متناقض، ولا يمكن أن يمتلك سلطة مطلقة وأزلية، لأنه يحل حينئذ محل المقدس الإلهي، وبالتالي فإن إلباس الخطاب الديني عباءة المقدس هو محاولة لإضفاء وممارسة سلطة أزلية لا محدودة تقف وراءها غايات ومصالح ومواقف وأحوال وبشر. وفي ظل دول قمعية وأنظمة حكم تفتقد شرعيتها، يتم استخدام هذا الخطاب المتمسح بالدين لتصفية خصومها ونشر أفكارها لتحقيق مكاسب سياسية، فالدولة بذلك أصبحت أكثر أصولية في تحديد دينها، رغم أن دساتير معظمها ينص على مبدأ الفصل بين السلطات، وهو ما تنادي به العلمانية، لكن هذه الدول في الواقع لا تعمل من خلال هذا الإطار، وتتخذ الأغلبية فيها سواء كانت دينية أم طائفية قوة ضغط على الفئات والأقليات في هذه الدول، وهو ما يوضح إلى حد كبير ضعف أنظمة الحكم العربية، التي تساعد رجال الدين والفئة الأكثر تأثيراً على تصوير العلمانية بأنها الخطر الأكبر لتهديد السِلم الاجتماعي».

فتاوى منتهية الصلاحية



ترى بن سلامة أن ما يتم حاليا هو استبدال إعمال العقل وتحرره بفتاوى منتهية الصلاحية ومثيرة للشفقة، كفتوى إرضاع الكبير وتحريم الغناء والتصفيق. وتضيف أن المحاولات لم تزل مستميتة منذ منصف القرن الفائت حتى الآن، حيث يتشكّل ويتلوّن الخطاب الديني، وتذكر بعض الأمثلة كقيام الحركات الإسلامية المختلفة في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات بتشجيع من قبل بعض الدول العربية الخليجية، التي لعبت دوراً كبيراً في دعم ونشر العقيدة الوهابية في كل الأقطار العربية الإسلامية، وموقف الرئيس الراحل أنور السادات، الذي أراد لهذه الجماعات والفرق أن تنشط لتقف في وجه الماركسية، وقيام الثورة الدينية الإيرانية ونهاية العهد الإمبراطوري في إيران في العام 1979، وما استتبع ذلك من أحداث وطموحات في إطار تصدير الثورة خارج إيران، و ممارسة العنف السياسي من قبل الجماعات الإسلامية في مصر والجزائر وسورية والخليج «الإخوان المسلمين في مصر، جبهة الإنقاد في الجزائر».. وأخيرا وليس آخرا تنامي الاتجاهات والدعوات السلفية سواء في المشرق أو المغرب، وما ترتب عن ذلك من اشتداد الرقابة على الكتب الفكرية المعارضة، وظهور العديد من الصحف والمجلات والدوريات الإسلامية في مصر والخليج العربي التي تدعو إلى تبني الرؤية المتشددة للدين وازدراء الآخر، وتصدير الخطابات الإعلامية غير المسؤولة.


الدولة العلمانية
ترى رجاء بن سلامة أن الواقع يخضع للعلمانية، لأنها فلسفة معرفية تبنى على استقلال العقل البشري، وتتعلق بالواقع الاجتماعي أي «المواطنة». فمن خلال القانون، كطرف ثالث، ممثلاً للسلطة ومرجعية أعلى يحتكم إليه الجميع، من الممكن حل مشكلة العنف الديني والطائفي، فالمواطنة هي مبدأ توحيد المختلفين داخل إطار القانون، وتؤكد أنه لا يوجد أحد يمتلك الحقيقة الوحيدة والمطلقة، والعلمانية بما تتيحه من عقلانية نقدية تتعامل مع العقل البشري على أنه «خطاء ومحدود»، وكل خطاب لا بد أن يتحمل النقد، بخلاف الخطاب المستند إلى النصوص المقدسة، الذي يرى نفسه الحقيقة المطلقة، التي تنفي كل ما عداها. ويعمّق نصر أبو زيد هذا المفهوم من حيث أن الدولة ليست المجتمع، بل هي الجهاز الإداري والسياسي والقانوني، الذي ينظم الحياة داخل المجتمع، وإذا كان الدين قوة اجتماعية، فهو أيضاً ليس المجتمع، فالمجتمع جماعات وأديان، ومن حقّ بعض الجماعات على الدولة أن تحميها كي لا ينتج نوع من عدم المساواة في المجتمع الواحد ـ حسب تعبير بن سلامة ـ ومن هنا فدور الدولة كجهاز منظّم لسير الحياة في المجتمع ـ المتعدّد الأديان بطبيعته ـ يجب أن يكون محايداً، وألا يكون للدولة دين تتبنّاه وتدافع عنه وتحميه، لأن دورها حماية الناس لا حماية العقائد.

أصوليون علمانيون
وأخيراً، ترى بن سلامة أنه رغم الإنكار الشديد للعلمانية، فالأصوليون يتوسلون بمفرداتها، وعندما يدحضونها يستخدمون طرقها وآلياتها من حيث الحرية والديمقراطية، فحجج مشروعية الحجاب التي يسوّقها الأصوليون في أوروبا مُستمدة من الديمقراطية، كما تلجأ بعض الأحزاب والحركات الدينية إلى النموذج الديمقراطي ـ وهونموذج علماني ـ عند ممارسة الانتخابات والحديث عن تداول السلطة في بلادهم، لكنها خدعة يمارسونها ليس أكثر، فهم لا يعترفون بالديمقراطية إلا لتحقيق أهدافهم فقط والتي ما إن تتحقق حتى يستبعدوا الآخر من نطاقهم، ويعودوا إلى النص الديني وتأويله المغلق مرّة أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق