إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، ديسمبر 17، 2010

"مصحف أحمر" أزمة جديدة للثقافة العربية



ربما أصبحت موضة منع الكتب ومصادرتها في الوقت الراهن من تجليات المد السلفي والخطاب الأصولي المتشدد، والمتذرع بحجج واهية، جعلت هذا الخطاب يمارس رقابته على عقول مرتجفة، تخشى مناصبها، وغضب العامة الذين يتفنن الأصوليون في اللعب بعقولهم ومصيرهم، بل وبمصائر دولهم وأجهزتها التي أصبحت كفزّاعات الحقول لا يأبه لها أحد.


مأساة المصحف الأحمر

"مصحف أحمر" رواية من تأليف الكاتب اليمني "محمد الغربي عمران" المولود عام 1958 باليمن. ومنذ صدورها أثارت العديد من المشكلات، وجسدت الوضع المتردي للثقافة العربية من خلال قوانين المصادرة والمنع، كان آخرها قرار إدارة معرض صنعاء الدولي للكتاب والذي افتتح في 25 سبتمبر الفائت بمنع عرض رواية "مصحف أحمر" الصادرة عن دار "رياض الريس" ضمن كتب المعرض، ولم تعرف أسباب المنع، وفي المقابل أعلن عدد من الأدباء والكتاب في اليمن مقاطعتهم للمعرض في دورته الـ 27 لعدة أسباب من أهمها منعه لأعمال روائية وإبداعية و كثافة عرض الكتب ذات التوجه التكفيري. وقد قامت "وزارة الثقافة اليمنية" باحتجاز الرواية لأكثر من ثلاثة أشهر ومنعت توزيعها داخل اليمن مما رفع الأمر إلى القضاء للفصل بين المؤلف والوزارة، مما ترتب عليه حينها إعلان الكتاب اليمنيون في بيان صادر عن نادي القصة اليمني مقاطعتهم لكل الأنشطة التي تقيمها وزارة الثقافة اليمنية، وطالبوا بالإفراج عن الرواية والسماح بتداولها. كما صدر منتصف شهر إبريل الفائت قرار جمهوري بتعيين الغربي عمران - مؤلف الرواية ورئيس نادي القصة ــ مستشاراً بأمانة العاصمة صنعاء، بدلاً من منصبه السابق كوكيل للعاصمة، الأمر الذي اعتبره عمران إقصاء له من عمله ومنصبه، وهو قرار سياسي في المقام الأول كعقاب للمؤلف، الذي يعد من أبرز أعضاء الحزب الحاكم في اليمن، وهو إلى ذلك عضو سابق في البرلمان اليمني، وقد راهن الكثير في الوسط الثقافي أن الرجل يعد أبرز الوجوه المرشحة لتولي منصب وزير ثقافة مستقبلا!
فالرواية إذاً أثارت أصحاب العقول الراكدة والتاريخ الرسمي، وحينما حاول المؤلف أن يخرج على الحدود المرسومة ــ رغم كونه من مفردات السلطة السياسية ــ كانت السلطة له بالمرصاد.

التاريخ الحقيقي

يحاول المؤلف خلال أحداث الرواية أن يكتب تاريخاً جديداً لليمن، من خلال مزج الخاص بالعام، وان تكون الشخصيات وتوجهاتها ومصائرها هي نفسها الانعكاس الواقعي لما حدث في التاريخ، وهذا ما يخالف التاريخ الرسمي، الذي تنتهجه الدول، وتبثه تلاميذها وطلابها، بل وحتى باحثيها، ليصبح العمل الروائي هو المنطقة المتوترة مابين الواقعي والمُتخيّل لسرد واقع أشد قسوة ومصداقية.
ومن خلال هذا التمازج بين الفردي والجماعي يتم التعبير عن مرحلة إجهاض المشروع التقدمي لليمن الجنوبيّ، وتتفرّع إلى السير الذاتيّة للمقاومين، والتي لا تنفصل عن السيرة الجماعيّة للوطن، عبر شخصيّتي (تبعة) وزوجته (سمبريّة) اللّذين عاشا منفصلين بسبب تعسف السلطة السياسيّة، الذي يوازي تماماً تعسف النظام الاجتماعيّ/الثقافيّ في البيئة والبنية العقلية اليمنية والعربية عموماً.
تعالج الرواية أهم مراحل تاريخ اليمن الحديث، ومن أشدها تأثيرا في توجيه وتشكيل النظام السياسي في اليمن، حيث يستعرض مؤلفها أهم الأحداث والصراعات على مدى ثلاثة عقود ابتداء من عام 1977 حين احتدم الصراع بين القوى اليسارية واليمينية لتنتج عن حروب متقطعة بين اليمنيين. كانت البدايات الأولى لهذا الحدث قد نمت حينما قوي المد الماركسي في جنوب اليمن، وتشكل نظام في عدن ذو إيديولوجية ماركسية صارمة، كان من نتائجه ظهور حركة مسلحة عرفت بعد ذلك باسم "الجبهة الوطنية" مدعومة من نظام الحكم في عدن، تهدف إلى تحقيق شعارها الذي رفعته: "النضال حتى تحقيق الوحدة اليمنية.. لا لعمالة نظام صنعاء لأنظمة عربية رجعية كأداة لتنفيذ سياسة الغرب الاستعمارية في المنطقة.. العدالة والمساواة والحرية أساس كل نضال ". وقد قويت شوكة هذه الحركة في أواخر السبعينات حتى أوشكت خلال سنوات قليلة على اكتساح صنعاء وإسقاط نظام الحكم فيها.
ولعل مما يميز الرواية أنها تعد أول عمل أدبي يتجرأ على تدوين بعض من تاريخ تلك المرحلة الشائكة، بل تكاد أن تنفرد بطرح رؤية مغايرة للرؤية السائدة في المجتمع من النظر إلى ما كان يسمى بالجبهة الوطنية على أنها حركة تخريبية خلفت كثيرا من المآسي بين الناس.

الحكاية

يتم سرد الحكاية من خلال معاناة أسرة سكنت "حصن عَرْفطَة" شمال اليمن، حيث عانت من تسلط أحد المشايخ – بمفهومه القبلي- الذي كان مدعوما من النظام، وقد تسبب ذلك في هروب "تُبَّعَة" -أحد الأبطال الرئيسيين في الرواية- من الحصن، ليرافق "مولانا" –أحد العملاء السريين للجبهة الوطنية في الشمال- ثم انضمامه إلى الجبهة الوطنية والقتال في صفوفها، وقد شاركه في هذا النضال صديقته "سمبرية" التي عقد قرانه عليها لاحقاً وفق طريقة خاصة بهما، ثم إنجابهما لطفلهما الوحيد "حنظلة" الذي سافر في عام 2000 ليدرس الطب في العراق، ثم تنقطع أخباره عن أمه طوال سنوات إقامته في العراق ليعود بعدها وقد أصبح إرهابيا. أما "العطوي" - والد "تبعة" - فقد استمر في مواجهة المعاناة بسبب معارضته لتسلط الشيخ عليهم في "حصن عرفطة"، ثم نقله إلى صنعاء ليقيم في معتقل سري بصفة مستمرة بعد أن أضيفت له تهمة الزندقة والخروج عن الإسلام بسبب اعتناقه وإيمانه بعدد من الديانات المختلفة، وهي التي وردت تعاليمها في مصحفه الأحمر، إضافة إلى تبنيه الفكر الشيوعي، وقد رصدت الرواية من خلال سير أحدثها حالة الصدام بين الجبهة المدعومة من نظام عدن، في مقابل نظام صنعاء المتحالف مع السلطة الدينية - المتمثلة بالتيار السلفي – وكذلك مع النظام القبلي -المتمثل بالمشايخ. وهذا المصحف الأحمر - كما أسمته الرواية وكما وردت توصيفاته فيها - مختلف عن المصحف المعروف لدى المسلمين، فهو يضم بين دفتيه أجزاء من كتب مقدسة لديانات مختلفة، فهناك أجزاء من القرآن الكريم، وأجزاء من التوراة، وأجزاء من الإنجيل، إضافة إلى تعاليم لديانات أخرى: كالبوذية، والزرادشتية ، والصابئة....، وهذه كلها تضمها دفتا "المصحف الأحمر" فهذا المصحف الذي جعل منه "العطوي" رفيقه الدائم ومنهجه، هو كتاب لدين مختلف يتبناه "العطوي"، وهذا الدين يقوم على المزج بين كل الديانات باعتبارها تؤدي في نهاية الأمر إلى طريق واحد، وهي الدعوة القديمة التي اتضحت صورتها عند محيي الدين ابن عربي.
ويُلاحظ أن الصراع السياسي الداخلي الذي تعالجه أحداث الرواية ، قد جاء على ذكر جزئية مهمة رصدها المؤلف ، وهي تنامي قوى التيار الديني السلفي وزجه ضمن اللعبة السياسية لكي لا يتنامى مد الاشتراكية أو يهدد عمق الجزيرة العربية التي أستنفر نظامها الحاكم كل امكانياته الديبلوماسية بكل أشكال الدعم لضمان استقرار المنطقة ، فكانت لغة الحرب التي تلد حرباً أخرى لتؤكد أن النظام السياسي العربي ليس بالضرورة يقاتل في سبيل الشعارات التي يرفعها أو يتاجر بها ضمن محيطه الاقليمي، إنما يعمل على خدمة أجندة القوى الكبرى التي تتحكم في استقلالية قراره السياسي والاقتصادي في فترة حرجة من فترات الحرب الباردة مابين المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي.

القصور الفكري وسياسة المُصادرة

أبدى الغربي عمران مؤلف الرواية في حوار معه بجريدة العرب أون لاين بعض ملاحظاته على ما سببته روايته من مصادرة ومنع، وشبه إقالته من عمله. فبدأ بالعنوان الذي أثار حرّاس القيم قائلاً
"لقد جزموا جهلاً أن عنوان الرواية (مصحف ..) أنه يعني القرآن الكريم، بينما لفظة "مصحف" هي ليست من عربية قريشية في أصلها. فقد وجدت هذه اللفظة من قبل أن يوجد القرآن.. فهي أقدم منه.. وقد استعيرت من اللغة اليمنية القديمة " السبأية والحميرية" والتي تستخدم حروفها اليوم في شرق السودان وإثيوبيا واريتريا.. وفي بعض الجزر والمناطق في جنوب شبه جزيرة العرب. وهي تعني "كتاب" وقد أستعارها العرب كمفردة جديدة.
أما بالنسبة لمشكلة التاريخ فيقول المؤلف " التاريخ الحقيقي ليس ما نقرأه كتاريخ ويدرس في المدارس والجامعات، فمعظم ذلك يكتبه المنتصرون، والبقية مجرد أحداث ومعارك حربية وسياسية. فأين الحقيقة وأين حياة المجتمع من ذلك؟! الروائي هو من يقترب من قاع المجتمع، مَن يؤرخ للجموع من عامة الشعب. ومصحف أحمر اقتربت من ذلك الحلم، حين لامست جراح وحرائق الأمس في اليمن.. الحرب الأهلية/الصراع بين القبائل وبين التيارات الدينية والشيوعية على السلطة في اليمن/الوحدة حين تصير كلاماً براقاً لا يلامس آمال وتطلعات الشعب/الوحدة حين تكون على ورق، بينما الإنسان مُقسّم وجدانياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق